أدمغتنا ليست للتفكير!


قد يبدو عمل الدماغ بالتنبؤ معقولا عندما يتعلق الأمر بالوظائف الجسدية. لكن من غير الطبيعي أن يتم النظر إلى حياتنا العقلية على أنها سلسلة من عمليات الإيداع والسحب.
فكرة، كل شعور بالسعادة أو الغضب أو الرهبة، كل لطف تمدحه وكل إهانة تتحملها أو ترميها على الآخر، هي جزء من حسابات العقل المتوقعة

دفعني مقال عالمة النفس والأعصاب الدكتورة ليزا فيلدمان باريت في صحيفة نيويورك تايمز، إلى التشكيك بالفكرة التاريخية التي أوجدها عالم الاجتماع الإسرائيلي يوفال نوح هراري، في كتابه “العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري” التشكيك قد يمتد إلى من قرأ الكتاب وأنا من بينهم.

فهراري عرض تطور العقل البشري عبر التاريخ ليصل إلى نتيجة مفادها أن التفكير أساس تطور العالم وبناء الحضارات، بينما ترسل باريت صدمة معرفية عندما تعنوّن مقالها بأن الدماغ ليس للتفكير!

هناك اتفاق بين الباحثين الأميركية والإسرائيلي على مساحة واسعة من تطور الدماغ البشري، لكن الصدمة تكمن في الخلاف وإن كان على مساحة أقل. فعند باريت فإن الدماغ غيّر مجرى التاريخ عندما تشكل قبل خمسمئة مليون سنة، وأصبح مخلوق بحري صغير أول كائن مفترس. بعدما أحس بطريقة ما بوجود مخلوق آخر في طريقه، وأكله عمدا.

وفي النهاية، طوّرت بعض المخلوقات مركز قيادة لإدارة تلك الأجزاء المعقدة، سمي لاحقا بالدماغ.

وتلفت باريت انتباهنا إلى وظيفة يتم تجاهلها في الكثير من الأحيان. فالأهم في عمل عقل الإنسان ليس التفكير، بقدر ما يقوم الدماغ بتشغيل أنظمة الجسم لإبقائه على قيد الحياة وبصحة جيدة.

ووفقا لنتائج دراسة حديثة في علم الأعصاب، عندما ينتج العقل البشري أفكارا ومشاعر واعية، فإنها تخدم احتياجات إدارة الجسم أكثر مما تنزع نحو الإدراك. وبالطبع مثل هذا الكلام يبدو لي لا يروق لهراري.

الفكرة الجديدة عن وظيفة الدماغ تقول إن الكثير من نشاط دماغ الإنسان يخرج خارج نطاق الوعي، العقل يعمل على معرفة احتياجات الجسم للحظة التالية ويقوم بتنفيذ خطة لسد تلك الاحتياجات مقدما. على سبيل المثال، كل صباح يتوقع العقل الطاقة التي سيحتاجها الجسم للنهوض من السرير، فيعمل على غمر مجرى الدم بشكل استباقي بهرمون الكورتيزول المساعد على الحصول على طاقة سريعة.

وتفسر لنا باريت ذلك بما أسمته الميزانية المالية التي يمتلكها العقل لإدارة الجسم، بحيث تتعقب الأموال حسب ربحها وإنفاقها. والأموال تتمثل هنا بالماء والأملاح والغلوكوز، أما فقدان موارد الجسم فتتمثل بالوقوف والجري والتعلم وهي أموال تسحب من رصيد الجسم فتحتاج إلى تغذية مستمرة بالأكل والنوم.

هكذا يعمل الدماغ -وفق دراسة علم الأعصاب- بالتنبؤ والاستعداد تلقائيا لتلبية احتياجات الجسم قبل ظهورها.

عندما يشعر الإنسان بالعطش يشرب قدحا من الماء، فيشعر بالارتواء والراحة، لكن في حقيقة الأمر إن الماء يحتاج إلى عشرين دقيقة للوصول إلى مجرى الدم، فما الذي جعل الجسد يرتوي؟ العقل يفعل ذلك. يروي العطش قبل فترة من تأثير الماء على الدم.

كذلك تختصر الدراسة الجديدة وظيفة العقل بالتنبؤ أكثر من التفكير!

قد يبدو عمل الدماغ بالتنبؤ معقولاً عندما يتعلق الأمر بالوظائف الجسدية. لكن من غير الطبيعي أن يتم النظر إلى حياتنا العقلية على أنها سلسلة من عمليات الإيداع والسحب.

وتجيب باريت على ذلك بالقول “التجربة الخاصة نادرا ما تكون دليلا لأعمال الدماغ الداخلية. كل فكرة، كل شعور بالسعادة أو الغضب أو الرهبة، كل لطف تمدحه وكل إهانة تتحملها أو ترميها على الآخر، هي جزء من حسابات العقل المتوقعة، عندما يضع ميزانية للاحتياجات الحسية”.