'أربعون عامًا من الإصلاح والتنمية' في الصين

البروفيسور تساي فانغ ونخبة من الباحثين يفككون 'معجزة' غير مُسبوقة في تاريخ التنمية الاقتصادية الاسيوية بل والعالمية أيضًا، وهو ما جعل البلاد تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز التطورات التي تطرأ على المشهد الاقتصادي العالمي.

يقدم البروفيسور تساي فانغ ونخبة من الباحثين الصينين بمركز الدراسات الاقتصادية بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، في كتابه "أربعون عامًا من الإصلاح والتنمية الاقتصادية في  الصين (1978-2018)"،  والذي صدرت طبعته الصينية عن دار العلوم الاجتماعية بالصين، صدرت ترجمه إلى العربية عن الصينية أخيرا هبة سمير محمد ومنة الله عمر صالح بمراجعة وإشراف أ.د حسانين فهمي حسين، ما حققته الصين خلال الأربعين عامًا الماضية  معجزة غير مُسبوقة في تاريخ التنمية الاقتصادية الصينية بل والعالمية أيضًا، وهو ما جعلها تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز التطورات التي تطرأ على المشهد الاقتصادي العالمي. 

يقول البروفيسور تساي فانغ في الكتاب الصادر عن دار صفصافة للنشر، والمدرج ضمن القائمة القصيرة لجوائز المركز القومي للترجمة، إنه "انطلاقًا من مقولة الفيلسوف والمُعلم الصيني الشهير كونفوشيوس: "إذا بلغ المرء الأربعين من عمره، زالت شكوكه وتوطدت معلوماته وتراكمت خبراته"، وما أشار الرئيس الصيني "شي جين بينغ" أن الإصلاح والانفتاح هما السمة الأكثر تميزًا للصين المعاصرة، وهما أيضًا الراية الأكثر تميزًا للحزب الشيوعي الصيني في الفترة التاريخية الجديدة، لا شك أن تسليط الضوء وتسجيل وتلخيص تجربة الصين ومسيرتها الناجحة في مسار الإصلاح والتنمية الاقتصادية الذي دام أربعين عامًا هو عمل شديد الأهمية، حيث قدمت الصين تجربة ناجحة تبعث الأمل لكثير من الدول النامية للحاق بركب العصر وتصحيح الأوضاع الاقتصادية، وهو ما يجعل هذا الكتاب يُعد إضافة مهمة للمكتبة لعربية باعتباره مرجعًا بالغ الأهمية لكل الباحثين الأكاديميين المتخصصين وكل قارئ عربي مُهتم بمعرفة الشأن الصيني.

ويضيف إن مرور أربعون عامًا يعلى مسيرة الإصلاح والانفتاح في الصين سيوفر لنا العديد من المصادر التاريخية والوثائق والسجلات الغنية، مما يساعد على استخلاص التجارب الناجحة أو حتي التجارب الأقل نجاحًا، من أجل الوقوف على أهم النقاط التي تجعل من التجربة الصينية نموذجًا يُحتذى به. فالتعمق من منظور التاريخ الصيني المُمتد لآلاف السنوات في فهم هذه المرحلة الزمنية من الإصلاح وما يتصل بها من قضايا محلية وتصورات عالمية، يمكنه أن يساعد على تفهم مسار الإصلاح الذي دام أربعين عامًا بشكل أمثل وأفضل، ومن ثم تلخيص التجربة الصينية، واستخلاص الحكمة والحلول الصينية، وذلك من أجل توجيه آفاق التنمية المستقبلية، والحفاظ على التنمية المستدامة.

ويلفت البروفيسور تساي فانغ أنه لم تكن فترة الإصلاح والانفتاح التي شهدتها الصين في الأربعين عامًا الماضية، حُقبة قصيرة في تاريخ التنمية الاقتصادية المستدامة في الصين فحسب، بل كانت أيضًا مرحلة حاسمة في إنعاش وتجديد دماء الأمة الصينية. وبالمقارنة مع العشرين عامًا أو حتى الثلاثين عامًا منذ تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح وما تخلل ذلك من الكفاح الصعب والعمل الشاق المتواصل، فإن انقضاء أربعين عامًا قد يشير بدون شك إلى أننا قد توافر لدينا زخم من المصادر التاريخية والوثائق والسجلات الغنية، وهو ما يوفر لنا البيئة المناسبة لإعادة تقييم وتعزيز الإصلاحات الاقتصادية في الصين بشكل أعمق في المستقبل. فالتعمق من منظور التاريخ الصيني الممتد لآلاف السنوات في فهم هذه المرحلة الزمنية وما يتصل بها من قضايا محلية وتصورات عالمية، يمكنه أن يساعدنا على تفهم الوضع بشكل أمثل وأفضل، ومن ثم تلخيص التجربة واستخلاص العبر، وذلك من أجل توجيه آفاق التنمية المستقبلية.

ويرى أن الصين نجحت خلال أكثر من ثلاثين عامًا في تحقيق انجاز مزدوج في مجال النمو الاقتصادي المستمر والسريع إلى جانب التطور السريع والمستمر للضمان الاجتماعي، ولم يحدث هذا كله مصادفة، وإنما تم اعتبار الضمان الاجتماعي أداة ضبط مهمة لمواجهة مخاطر الإصلاح وتحسين حياة المواطنين، والإلتزام بنتائج العلاقة الإيجابية بين الضمان الاجتماعي والتنمية الاقتصادية. وخلال مراحل التحول، أعتمدت الصين على المعالجة السليمة والاستباقية والتطلعية للعلاقة الداخلية بين التنمية الاقتصادية وسوق العمل ومقدمي الضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى الاستغلال الفعال لوظائف الضمان الاجتماعي، مما ساعد في الدفع السلس للإصلاح والتنمية الاقتصادية. كما كان لهذه العملية تأثيرها الإيجابي على بناء نظام الضمان الاجتماعي، ومعالجة المخاطر والتحسين المستمر لرفاهية المواطنين. وقد قدم التطور السريع للاقتصاد الصيني الأساس المادي الفعال و"السخي" لنظام الضمان الاجتماعي، في حين هيأ الضمان الاجتماعي البيئة الاجتماعية المستقرة والظروف المناسبة للإصلاح الاقتصادي. وبالتالي، فإن الصين نجحت في تقديم نموذج إيجابي للعالم المعاصر للتعامل  الجيد مع العلاقة بين الضمان الاجتماعي والتنمية الاقتصادية.

ويقول تساي فانغ أنه منذ عام 2009، كان هناك تسارع واضح في خطوات تأسيس منظومة الضمان الاجتماعي بالصين، وزيادة مستمرة في الاستثمارات العامة وفي تغطية الضمان الاجتماعي لمختلف المواطنين، في حين عبر صدور "قانون الضمان الاجتماعي" و"قانون الضمان للعسكريين" وغيرها من القوانين التي صدرت في مجال الضمانات الاجتماعية، والربط بين تأمين إعالة كبار السن في الحضر والريف والتأمين الطبي ونظام المساعدات الاجتماعية، عبر ذلك كله وبشكل موضوعي عن تحول نظام الضمان الاجتماعي في الصين من الإصلاح التجريبي الطويل إلى مرحلة جديدة من النضج وإكتمال الملامح والتطور، والتكوين السريع لمنظومة ضمان إجتماعي تشمل عموم المواطنين.

ضم الكتاب بين دفتيه تسعة أبواب بعد تمهيد مهم ومفصل، سبقته مقدمة الناشر. وقد قدم الكتاب سلسلة من الأبحاث التي استندت إلى البحث الموضوعي، وشارك في إعدادها نخبة من علماء الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وجامعة بكين وجامعة تشينغ خوا إلى غير ذلك من المؤسسات البحثية الجامعية، وقد استعرض الكتاب بشكل شامل ومنهجي وموضوعي التغييرات الكبيرة التي حدثت في التنمية الاقتصادية في الصين وما تبعها من تراكم لخبرات وتجارب ثرية فضلا عن عرض التغييرات التي طرأت على المشهد السياسي خلال أربعين عاما مرت على تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح. 

ومن أهم ما أشار إليه الكتاب نقطة التطور والابتكار في سياسات الاقتصاد، وإيجاد الحلول المناسبة للحد من الانهاك الاقتصادي والسيطرة على معدلات التضخم، وكيفية مواجهة التحديات الخارجية المفاجئة. والاهتمام بالإصلاح الاقتصادي الزراعي والريفي، وكذلك الإصلاح الضريبي والمالي، وتوزيع الدخل وإصلاح الضمان الاجتماعي، وغير ذلك من الأفكار الهامة لكل من أراد أن يأخذ حذو الصين في حل معضلات اقتصادية نؤثر في واقعنا العربي، وإيجاد حلول من شأنها تغير الحال إلى الأفضل، وهذا ما ينشده كل عقل واعي يريد لبلاده الأفضل.  

وتميز  الكتاب  دون غيره من الكتب في أنه استعرض تطور سياسات الاقتصاد الكلي ومساراته الجديدة، بما في ذلك إصلاح المالية العامة والأنظمة الضريبية، ونقل وتحويل الوظائف الحكومية، وإصلاح الأسواق المالية والأنظمة المالية، وإصلاح نظام تسعير المُنتجات والموارد إلى غير ذلك من الإصلاحات الموجهة نحو السوق والتي اعُتبرت جزءًا هامًا من منظومة الإصلاح الشامل في الصين. بعد ذلك، ناقش الكتاب التنمية الصناعية والإقليمية فضلاً عن تطور سوق عناصر الإنتاج. فعلى سبيل المثال، سلط هذا الكتاب الضوء على عملية التنمية المُشتركة من منظور تطوير سوق العمل وتعزيز فرص العمل، ومن السيطرة  على التدفق الواسع للقوى العاملة عبر المناطق الحضرية والريفية وعبر مختلف المقاطعات والإدارات، كذلك استعرض دور التنمية في تعزيز حالة الانسجام والوئام من خلال تنظيم وتحسين الهيكل الصناعي ومن خلال التغيرات الهيكلية والتطور الاستراتيجي الإقليمي، حيث لا تؤثر الاستراتيجيات والسياسات الإقليمية فقط على كفاءة تدفق وتخصيص الموارد على المستوى الإقليمي وحسب، بل تؤثر أيضًا على عدالة توزيع العائدات الاقتصادية وعدالة تنميتها على المستوى الإقليمي، فضلاً عن أنها تؤثر على حماية الموارد البيئية وتحقيق التنمية المستدامة، في ضوء ذلك، استعرض هذا الكتاب سياسة الصين الإقليمية وتطور نمط التنمية الإقليمية، وصولاً إلى عرض النموذج الهام والمُميز في بناء رابطة المصير المُشترك للبشرية والذي تم التحول إليه بعد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني.

وتطرق الكتاب أيضًا إلى الحديث عن إصلاح النظام الاقتصادي الريفي والتنمية المُتكاملة للمناطق الحضرية والريفية، فضلاً عن الوقوف على دور الالتزام بالنظام الاقتصادي الأساسي من خلال سياسات إصلاح الشركات المملوكة للدولة والبيئة التنافسية، حيث مر إصلاح الشركات المملوكة للدولة باعتبارها حلقة أساسية في إصلاح المنظومة الاقتصادية الصينية بمسيرة مُعقدة من التغيير الشامل الفريد وغير المسبوق، فعلى مدار الأربعين عامًا، انتقل إصلاح الشركات المملوكة للدولة من مرحلة "التنازلات" (عام 1978- 1992) والتي قامت على زيادة خصوصية الشركات المملوكة للدولة كنقطة ارتكاز هامة، إلى مرحلة "تجديد الأنظمة"  (1993-2002) والتي قامت على تأسيس نظام شركات حديثة كجوهر أساسي للإصلاح، ثم  مرحلة "إدارة الأصول المملوكة للدولة (2003-2012) والتي قامت على تأسيس نظام جديد لإدارة الأصول المملوكة للدولة، وصولاً إلى مرحلة "تقسيم الإصلاح" (2013 حتى الآن) والتي قامت على تقسيم وتعميق الشركات المملوكة للدولة. علاوة على ذلك، قدم هذا الكتاب صورة مُتكاملة وشاملة عن التنمية الصينية من خلال عرضه لعدد من المجالات مثل إصلاح نظام توزيع الدخل، حيث أظهرت بعض البيانات أن فجوة دخل سكان الصين في حالة من الاستقرار النسبي أو السيطرة التدريجية، كما استعرض الكتاب إصلاح نظام الضمان الاجتماعي الذي اعُتبر نموذجًا فعالًا في عالمنا اليوم على الرغم من أنه لا يزال يواجه الكثير من التحديات والمُعوقات، وأيضًا لم يغفل الكتاب عن تسليط الضوء عن دور الابتكار والبحث والتطوير في التنمية الجديدة للاقتصاد الصيني.

يطرح تساي فانغ أيضًا بالمشاركة مع نخبة من خبراء الاقتصاد الصيني بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية في هذا الكتاب عند الحديث عن المجالات المُتعلقة بالقضايا الاقتصادية في الصين، الفكر الصيني الجديد المُتمثل في إجراء المزيد من الإصلاح من أجل تعزيز التنمية المستدامة، كما قدم الكتاب توصيات سياسية حول المهام الرئيسية للإصلاح وسبل تعزيزه لتحقيق أعلى معدلات. فعلى سبيل المثال، أكد هذا الكتاب بشكل مُفصل على ضرورة تحسين جودة وكفاءة النمو الاقتصادي في الصين (أي التحول من النمو الفائق السرعة إلى النمو العالي الجودة)، وعلى ضرورة ابتكار وتحسين سياسات الاقتصاد الكلي لمنع الركود الاقتصادي، وعلى ضرورة تشكيل نظام مالي يلعب فيه السوق دورًا حاسمًا في تخصيص الموارد المالية، وبالتالي يُعزز التطور السريع لأسواق رأس المال باعتبار ذلك هو الاتجاه الأساسي للإصلاح المالي في الصين في المستقبل. وعلى ضرورة تعزيز إصلاح نظام الأسعار من خلال تشديد الرقابة على الأسعار وإدارتها من أجل ضمان استقرار مستويات الأسعار. وعلى ضرورة تعزيز إصلاح نظام تسجيل الأسر المعيشية وإصلاح سوق العمل لضمان تحسين مستوى معيشة المواطنين وفتح محرك جديد للنمو الاقتصادي. كذلك على أساس الالتزام بالاستراتيجية الشاملة للتنمية الإقليمية المُنسقة، يجب التركيز على بناء نظام سوق حديث ومُوحد ومُنتظم في الانفتاح والمنافسة إلى غير ذلك من الأنظمة السياسية الأخرى. في عام 2017 اقترحت الحكومة الصينية استراتيجية دفع نهضة المناطق الريفية (إنعاش الريف) بدعوى تعديل السياسات الزراعية، ولكن تنفيذ هذه الاستراتيجية يحتاج إلى تعميق إصلاح سياسات الاقتصاد الكلي وإصلاح النظام الإداري، وإلى تحقيق المنفعة والمصلحة المُشتركة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، وبين الرؤساء المحليين والقواعد الشعبية، بمعنى أنه يحتاج إلى إرادة سياسية واعية وكبيرة تتكامل وتتضافر مع المشاركة الشعبية.

ويؤكد الكتاب أيضًا على ضرورة المضي قُدمًا نحو تعميق إصلاح المؤسسات والأصول المملوكة للدولة، بهدف تحسين آلية عمل المؤسسات الحكومية، ودفع خطوات التعديل الإستراتيجي لمنظومة وهيكل الاقتصاد الحكومي، وتطوير وتقوية الاقتصاد الحكومي، وتحقيق الحفاظ على قيمة الأصول الحكومية وزيادتها. وعلى ضرورة تعزيز إصلاح نظام توزيع الدخل، حيث أنه مظهر هام في الإنصاف والعدالة الاجتماعية، ونمط جوهري لتعزيز الطلب المحلي، وتضييق الفجوة في الدخل، والقضاء على التفاوت في الدخل. وعلى ضرورة تحسين نظام الضمان الاجتماعي بشكل فعال وعقلاني، وعلى مواصلة تعزيز رفاهية الشعب الصيني باعتباره هدفًا هامًا من أهداف التنمية الوطنية، وأداة ضبط هامة لمواجهة مخاطر الإصلاح، وضمان أساسي لتعزيز الثقة العامة وتقديم الاستقرار والأمان المُتوقع لجموع المواطنين، وأخيرًا على ضرورة الالتزام بالتعميق الشامل للإصلاح، كوسيلة فعالة لمزيد من زيادة تحسين نظام المنافسة العادلة والسليمة والكاملة، والتي من شأنها دفع نمو إنتاجية العمل في الصين على المدى الطويل.