أسئلة حكمت نعيم تواجه غربتها

الفنان التشكيلي السوري يلون رؤاه بمواقف كامنة في نبرة النوح وتفاصيلها المحكومة بهول يتوسع على سطوحه وكأنه دفق دلالي يبتني رحيل الشمس، ويتوسل مقاصده بتكثيف العتمة وكأنها حقول تغزو منجزه وشخوصه.

العمل الفني إذا لم تسافر إليه بحب وعشق وكأنك ذاهب للقاء بحبيبتك لن تسافر فيك، أو على الأقل أن تكون بنزهة مبهرة إليها حينها ستجد كيف أن أساريرها تنفتح لك إلى مداها، وكيف أن أريجها تبدأ بتغطية مسامات روحك كلها، التأمل وحده لا يكفي، والشم وحده لا يكفي، واللمس وحده لا يكفي، لا بد من الحواس العشرة أن تحضر وترافقك في نزهتك هذه، فالسعي إلى عالم موجود في اللازمكان هي توطئة أولى لرفض ذلك النمط من الحياة المفعم بروح السيطرة، فالاحتجاج لا بد أن يعلن عن ذاته، فهو قائم حيث تقيم الوقائع والقوانين المقيدة بمسار واحد والتي لا تتطلب إبداعاً، أو بأفق واحد والذي لا يستفيض بتجارب وأساليب سابقة، أو برب واحد والذي لا يملك هندسة فنية لعمارته، فقط يعرض رؤيته في قالب واحد، وعلى الرؤى كلها أن تصب به وفيه.

والعمل الفني وطن لا يقبل إلا أن يكون للجميع، للمربع والمستطيل والمثلث والدائرة، للأبيض والأسود والأحمر والأصفر، ومؤهل لتحقيق آمالهم وطموحاتهم جميعاً، تلك التي لا تندرج ضمن قائمة الأوهام، بل إدراك للجوهر إن كان للإنسان أو للطبيعة خصوصاً في طوره الإبداعي الانتقالي لخلاصة مؤداها أنه وحده يملك حرية أن يكتب أو يرسم حياة جديدة مهما كانت تومئ بقساوتها، لم يكن هذا الكلام بوحاً ما، ولا مراوغة للتربص بجو يملؤه الحلم الكئيب، ولا تدخلاً من خارج النص في تفاصيل تتجاذبها الحقيقة ورموزها، ويحكمها ريشة فنان تذرف الدموع والورود معاً، وإنما هو اقتراب من أعمال لا يمكن نفي حضورها، إن كان بطعم النوح، أو بطعم النشيد، هو اقتراب من أعمال الفنان التشكيلي السوري حكمت نعيم "السويداء 1973"، علها تتيح لنا من إمكانية كشف عوالمها الداخلية وما تحملها من تفاصيل تلحق الفائدة بها كمنجزات فنية بحياة جديدة، كأشكال إبداعية تدرك أهميتها لا من حركة الأفكار التي تطوف في محرابها فحسب، بل بما تولدها من خطوات فنقطفها ونخطفها لنجري بها، وبما تبقى من صداها ونمضي، فهولا يقود عمله، بل العمل هو الذي يقوده إلى دراما روحية عميقة في ظلها يجد حريته بآمالها وطموحاتها الإنسانية، كاشفاً بوضوح وبلا هوادة الضجيج الفارغ للأفكار السوداء ومقولاتها التي غدت انعكاسات لتطلعات ميول خلقت من المآسي والعذابات، فبدا كل شيء وكأنها إضافات لرواسب واقعية فيها تفاقمت الاحتجاجات والإستياءات كبداية للتغيير

ويعرب نعيم عن قلقه في كل خطوة يخطوها إلى الأمام وهو في حالة من الاستيعاب الفني لكل جوانب وظواهر الحياة، يعرب عن تلك المحاولات الجادة الدؤوبة التي قادته إلى نتائج إيجابية مذهلة، إن كانت في عمقها وأصالتها، أوفي مجال تطوير أسلوبه الفني، فمنجزه غني بالموسيقى والإيقاعات الجديدة، ويضيف عليها صوره المجازية التي فيها تتجلى عناصره الجمالية التي تستهويه لا بوصفها سطوة للترميز والغموض، ولا بوصفها لعبة مغالاة ومبالغة فنية تلهث وراءها تركيبات بنائية معقدة إلى حد ما، بل بوصفها مجازات تعني المضي بالحالة الإبداعية إلى ما يولدها إن كانت رغبة في الإبهار، أو إرغاماً على التجاور داخل فضاءات المنجز، بوصفها مجازات يستحضرها نعيم وفق ما تمليه عليه تحولاته من الجدل الممكن والمفترض بين وعيه ولاوعيه، أو بما توهمه من تصاوير يكدسها حتى تنفرج وتنفجر كإستيهامات فردية تكاد تشكل إستراتيجيته في البناء والخلق، ويروج لها نعيم مزدهياً بحداثتها، معتمداً على إحياء الوقائع كظواهر كبيرة تدفع به إلى أمكنة ومسافات متجاورة وجديدة، إلى أمكنة ومسافات أكثر إشتقاقاً وأكثر توثيقاً سيجاهد نعيم كثيراً في تجسيدها بعيداً عن الوقوع في براثن كل ما يمكن أن نسميه ويلات العملية الإبداعية ومحنها.

إذا كان المنجز الفني كيان زاخر بالروح والحركة، طافح بالانفعالات والاندفاعات التي تحمل معانيها من صور ورموز لها دلالاتها وإيقاعاتها، فهو عند حكمت نعيم حشود كيانات رابضة في العمق يستعصي تحديدها أو ضبطها، أو مسك تلابيبها، فلا بد من انتظار الكشف المتشح بغلالة من الغموض، الكشف الذي ينشد الإبهار والإيهام معاً، والذي يشير إلى التشكلات على نحو إيماء ما أو أسئلة تواجه غربتها، لا بد من النفاذ إلى دواخل منجزه ورصد القوانين التي تديرها، فكل الدروب القريبة منها أو البعيدة تمضي إلى إستعاراتها، إلى مقرراتها، ساهمة في فرز إحتواءاتها مهما تكتمت عن مقاصدها، فلابد من مرادها أن تفي حاجاتها، ولابد من وجودها أن توهم قارئها بأن مجمل طروحاتها ما هي إلا محصلة أبعادها ومعانيها، فهي تفتح مجراها بين أشتات من تصورات سيميائية منتزعة من فاجعتها وقدرتها على التوزيع والتبئير حتى يقع لحظة الاكتفاء مغشياً عليها.

حكمت نعيم يلون رؤاه بمواقف كامنة في نبرة النوح وتفاصيلها التي تحكمها الهول الذي يتوسع على سطوحه وكأنه دفق دلالي يبتني رحيل الشمس، ويتوسل مقاصده بتكثيف العتمة وكأنها حقول تغزو منجزه وشخوصه، وهذا يعني كم يستعصي عليه إذا فكر في توليد نهار ما، فالإفراط في استخداماته قاتم، والفناء يومىء بشموع مطفئة، وعليها تتعالق الملفوظات لتبني صوراً موغلة في الكآبة، وأحلاماً مكسورة إليها تشير مجسداته المتشحة بالظلمة، فثمة شعور أو إحساس تسكنه وتدفعه نحو التخلص من الأطر المألوفة، والهروب إلى الأنا كينبوع رافد للإيقاع، قائم على التغاير الذي يبعده عن الإغراق في الرتابة، فالحال أنه يحتمي بالوحدة،علّه يخرج من عالم الموتى عائداً إلى عالم الأحياء، أوكأنه تموز تريد عشتار تسليمه لسدنة العالم السفلي، وهو الذي جاب الأرض نائحاً وهام في المروج وهو يبكي قائلاً: "أقيمي المناحة / أيتها المروج، أقيمي العزاء / أقيمي المناحة" فنعيم يضعنا في حضرة منجزه بإلحاح يمده بإيقاع خاص وبرموز تكثف فاجعته التي هي فاجعتنا أيضاً، الفاجعة غير القابلة للتأويل، فهي تحمل في صميمها كل الاختزالات لاسيما طرائق تلقفها لخطابات فيها تتجلى رؤيته وتسللها إلى جسد منجزه كله.