أشلحي يستكنه نمط البناء الفلسفي الذي استغرق تفكير هيجل

كتاب "الذات والنسق.. مساءلة البنى الأولية لمنزلة المعقولية في فلسفة هيجل" تكمن غايته في محاولة استكناه نمط البناء الفلسفي الذي استغرق تفكير هيجل.
يوسف أشلحي يوضح أن نظر هيجل انعطف في طور يينا نحو مناظرة الراهن الميتافيزيقي للفلسفة الحديثة عامة
حقبة يينّا مثّلت الأرضيّة الخصبة التي اختمرت فيها أسس الفلسفة الهيجلية

تتحيّر الأفهام وترتبك الأذهان وهي تتعقّب مفهوم الروح، وتستقصي مدلوله في ثنايا المدوّنة الفلسفية التي سطّرها هيجل طول الحياة الفلسفية التي عايشها، كما قد تتضارب الآراء وتضطرب الأنظار عن طبيعة دواعي إيثار هيجل ضبط إيقاع تفلسفه على وتر هذا المفهوم بالتحديد دون غيره من المفاهيم، التي كان بالإمكان أن تشكّل مقْود مشروعه الفلسفي، والوقود الذي يحرّك دفّته الفكرية نحو برّ فلسفي لم يطأه نظر عقلي ذو شأن. 
وهذا الكتاب "الذات والنسق.. مساءلة البنى الأولية لمنزلة المعقولية في فلسفة هيجل" للباحث المغربي د.يوسف أشلحي تكمن غايته في محاولة استكناه نمط البناء الفلسفي الذي استغرق تفكير هيجل على نحو كلي طول "طور يينا" (1801-1807)، وكذلك بيان الرهان الفكري الذي انتدبه، والمطلوب الفلسفي الذي اهتدى إليه، وبالخصوص بعيد مناظرته لهيئة التفلسف "المثالية الذاتية"، وفق الصيغة التي انتهت إليها عند أهم أقطابها وعلى وجه الخصوص كانط، وفيشته. ولغاية إجمال المغزى الفلسفي الهيجلي خلال هذه الفترة "طور يينا".
يستقصي أشلحي البنى الأولية التي أسهمت في مولد فلسفة الروح، وأتاحت قيام مبتغى الكلّي "المطلق، الحق"؛ وذلك من خلال تركيز بؤرة النظر تحديداً على تحديد طبيعة التصور الذي سيبلوره هيجل إزاء الذات. ويضيف متسائلا: كيف سيشرع في تهذيب التصورات الفلسفية التي استهواها حصر النظر في الذات، وتحصين مرادها ضمن قمقم المعرفة، ومن ثم كيف سيتفطّن فيلسوفنا إلى ضرورة نسخ هذه التصورات التي ألِفت منازلة الذات ضمن النطاق الإبستمولوجي، لينقُل فحصه الجذري لمدلول الذات نحو فضاء أنطولوجي أرحب، وهو التصوّر القويم الذي من شأنه أن يفضي بالنظر الفلسفي الهيجلي نحو حيازة ضروب المعقولية التي يقتضيها كل تصوّر فلسفي رصين فاستواء بنيان المعقولية في فكر هيجل خلال حقبة يينا، واستحالته إلى هيئة نسقية ناضجة، مثّل المكسب الرئيس الذي أعانه على استشكال مسألة "الذات"، لغاية رُسوّها تبعاً لمطلوب المعقولية، فتزول تبعاً لذلك المسافة الفاصلة بين مطالب الذات ومطلوب المعقولية. 

الفصل الأخير من هذا الكتاب تم تخصيصه لتقويم المخرج الذي ارتضاه هيجل مناسباً لتجاوز المآزق التي انتهت إليها الفلسفة الترانسندنتالية، وذلك من خلال تحليل "تجربة الوعي" والمنافذ التي فتحها في ضوئها

ويتابع أشلحي "لئن اهتدى هيجل في بدء مساره الفكري إلى استشكال أمر "الذات"، وانهمك في البحث عن المنافذ المتاحة والمكينة بنسخ التناقضات التي تعصف بوحدة الذات وثباتها، وذلك طول الأطوار التي سبقت فترة يينا "من توبنغن إلى فرانكفورت، مروراً بطور برن"، فإن نمط الاستشكال الذي افترعه هيجل، طول هذه الأطوار، ما كان ليستوي على هيئة فلسفية راسخة، بقدر ما كان يتلوّن كل مرة ويتلبس مع كل طور هيئة مستحدثة. فعندما نقف على ضرب المناظرة النقدية للعنصر الديني والسياسي، التي افتعلها هيجل، كما تشي بذلك نصوص "توبنغن"، سيمسي مفهوم "المصالحة" بمقام العروة المتينة التي سيسدّ من خلالها ما افترق من شأن الدين والسياسة والأخلاق. وخلال طور برن، سيشرع هيجل في إخراج تصور أنطولوجي للحياة، وهو التصور الذي سيتيح له أن يعانق لأول مرة مفهوم الوحدة، ويستقر لأول وهلة على أولى صيغ الكلّي؛ وذلك عندما تأتّى لهيجل أن يستكنه الدلالة الحيّة للحياة بما هي وحدة توجهات متقابلة والتئام أطراف متضادة. بينما سيستقر المسعى الهيجلي إبان طور فرانكفورت نحو الظفر برابط كلي "وذلك بتلويح من هولدرلين" على مفهوم الكينونة بوصفها وثاقاً أصيلاً، وليس مجرّد جمع أو توحيد أو ضمّ قسري، بقدر ما أنّ الكينونة لا تبسط على نحو منشطر ومجزّأ بين طرفي الذات الموضوع؛ بل هي لا تستنبط أصلاً، وإنما تُعاش ويُمحن معدنها في خبرات الوجود".
ويوضح أن نظر هيجل انعطف في طور يينا نحو مناظرة الراهن الميتافيزيقي للفلسفة الحديثة عامة، وعلى نحو ما استقرّت عليه المثاليّة الذاتية خاصة، وكان الغرض من وراء ذلك هو الخروج بخط الفلسفة من سياق النظر الترانسندنتالي القائم على الاستنباط والتسويغ، ومن خطة الذات الواعية الموقنة من نفسها إيقاناً يضارع نظيره الموجود في مجال الإيمان، إلى حيث تحقيق الربط الجدلي الحي ومباشرة النظر التأملي في ضوء تقويم المسلك التفكّري. 

فلسفة هيجل
سردية حلقة التفكير الهيجلي

ومن ثَمَّ التمكين للفلسفة من تحقيق الاكتمال، من حيث طريقتها وبيانها ولغتها على نحو تأملي، فتصير الفلسفة حينئذٍ إلى مستقر نسق مثالية تأملية "لا هي ذاتية، ولا موضوعية، ولا مطلقة على معنى الجمع بينهما"، لها القدرة التامة على تحقيق التماهي بين الفكر والوجود وبين العقل والتاريخ في ضوء هيئة نسقية معقولة وحاقة. ولعلّ العارف بخبايا المسائل الفكرية الجليلة التي خاض فيها هيجل خلال إقامته الفكرية القصيرة في يينّا، يقف على الأهمية الفارقة التي تمثّلها هذه الحقبة في النسق الفكري الذي شيّد معالمه في الفترات اللاحقة؛ إذ في هذه الفترة بالذات اهتدى هيجل نحو الكشف عن الأعمدة الصلبة التي تشكل قوام نسقه الفلسفي، وتمكّن من تحديد المسلك الأنسب لقيام هذا النسق منهجاً وسبيلاً، وبيّن الأطراف الرئيسة التي تؤثّث برنامجه التفكيري عامة. وبناء على هذا المنجز، شرع في صقل تصوّره، ومضى في استكمال ما نجم عن هذا التصور الفكري الذي تمّ تسطيره في حقبة يينّا هيئة ومضموناً.
ويلفت أشحلي إلى أن إجمال الرهان الفلسفي الذي راهن عليه هيجل توقاً إلى ترسيخ تصور فلسفي معقول على نحو ما يكشف عن ذلك بشكل ناضج في نص "فينومينولوجيا الروح" ضمن مسألتين أساسيتين: الأولى إبداء تصور فينومينولوجي لمطلوب الحق، كما يفصح عن ذلك هيجل في التمهيد الذي خصّه لكتاب "فينومينولوجيا الروح"، وذلك سعياً لتتميم المسائل التي أزاح عنها الستار، كما جرّب ذلك في كتاباته المبكرة؛ ومن ثم الاهتداء إلى رسم تصوّر فكري عديل تصير الفلسفة بموجبه وعلى منواله في حلّ من المنزلقات التي آلت إليه الطرائق الفكرية التي تلقّف هيجل صداها أو تلك التي جايلها. 
الثانية: البحث عن السُّبل النافذة والروابط المتينة التي يكون بمقدورها إقامة الوصل الفعلي الذي يتيح إمكان الوحدة بين الفكر والوجود، مع ضرورة تملك وعي يقظ، يكون بمقدوره اعتبار جملة التضاربات والتباينات الشديدة التي تنجم عادة عن تصيّرات الوعي، واستيعابها على النحو المطلوب. بيد أنّ هذا التصوّر الفينومينولوجي للحق، يقتضي أن نأخذ في الاعتبار استعراض الاستواء المنهجي الذي يتيح إمكان هذا التصوّر؛ ونومئ تحديداً في هذا الباب إلى سبيل "تجربة الوعي" الذي استشكله هيجل في مقدمة كتاب "فينومينولوجيا الروح"، وكذلك استحضار مسوغات "إدراك الحقّ والتعبير عنه ليس على شاكلة جوهر، وإنما على شاكلة ذات"، كما صرّح بذلك هيجل في ثنايا التمهيد الذي خصه لمصنفه المشار إليه سابقا، وكيف سيمضي في استخراج المعنى العميق الذي ينطوي عليه هذا التعبير، وذلك من خلال الاستئناس بنظرية القضايا التأملية.
ويؤكد أشلحي أنّ رهان تفكير هيجل، خلال ما تبقّى من سنوات إقامته الفكرية في يينّا (أي سنوات 1803/7)، إنّما يعبّر بشكل أمين وصريح عن عزم واضح على تشييد نسق فكري قمين بأن يستنسخ الثغرات الفكرية التي وقف عندها بُعيد المُساجلة الفكرية التي خاضها، ومن ثمة جاز أن نرى أن جهد هيجل، خلال هذه المدّة بالذات، إنّما يندرج ضمن طور البناء الذي يعقب بالنتيجة طور النقد. ولا يخفى أن هذه السنوات على قلّتها كانت حاسمة بالنسبة إلى هيجل من أجل إرساء شعاع فكره وفق سكّة نسقية متينة، وفيها اهتدى إلى وضع الخيوط الرئيسة لمنظومة تفكيره، وتلمّس الركائر الثلاث التي تشكّل أعمدة فلسفة الروح التي تتكون من حلقات المنطق والطبيعة والميتافيزيقا؛ وهو الأمر الذي بسطه هيجل تحديداً في خُطاطات يينا النسقية الثلاث طول السنوات التي تمتدّ من سنة (1803) إلى حدود سنة (1806). فلا يمكن أن نُقدّر الرؤية الفلسفية الثاقبة التي عبّر عنها هيجل في كتاب (فينومينولوجيا الروح)، بوصفها تعبّر عن البيان الناضج للنسق والتوطئة الصريحة نحوه، إلا إذا اقتفينا الخطوات التي درج عليها هيجل في طرز المناحي الرئيسة لفلسفة الروح منذ مستهلّ سنة (1803).  

Hegel's philosophy
البحث عن المنافذ المتاحة 

وبالنظر إلى أنّ حقبة يينّا مثّلت الأرضيّة الخصبة التي اختمرت فيها أسس الفلسفة الهيجلية، وتجذرت في أديمها النوابت الضاربة التي تمثّل عماد مشروعه الفكري، فمن جوف هذا الطور عمد هيجل إلى استخراج المعدن الأصيل الذي يشكّل أنموذجه النظري الذي يتعيّن أن يُحتذى من قبل كل نظر فلسفي حريص على تحرّي الوجاهة والحصافة، فقد صرفنا أنظارنا عن الوقوف عند استواء النسق الفلسفي الهيجلي في المراحل المُتأخرة من حياته الفكرية، وتمام عناصره التي تُكوّن أجزاء فلسفة الروح، وذلك لانتفاء الحاجة في هذا المقام إلى الدخول في سردية حلقة التفكير الهيجلي التي يصبّ بعضها في بعض.
يتضمن الكتاب فصلين أساسيين، نحو عرض مدلولية "الذات"، وإضاءة مضامينها في ضوء الخط التفكيري الذي انتهجه هيجل في كتاباته التي ظهرت في المراحل الأولى من فترة يينا، ثمّ الانعطاف جهة بيان الصيغة التي استقرت عندها في نص "فينومينولوجيا الروح". ونظراً لأنّ مفهوم "المعقولية" يتنزل منزلة مركزية في ضوء التأويل الذي نصرفه حياله، فإنه لا محيد من بيان مدلوليتها وأنماط استوائها ضمن جملة الأبنية الفكرية التي ثبتها هيجل طول حقبة يينّا. وفي سبيل بيان الرهان الذي ناشده في أفق تحقيق التماهي بين الذات والمعقولية وحيازة الكلي، وخلال الفصل الثاني يمضي الكتاب جهة استعراض الهيئة التي استقر عليها نمط التفكير الكلي؛ سواء استوى ذلك في واقعة أخلاقية أم واقعة روحية، مع استقصاء الطرق المنهجية والمسالك التي استوفى هيجل بموجبها الرهان الفلسفي الذي اندفع نحوه.
أما في الشق الثاني من الكتاب، فينكبُّ أشلحي في مداره على بيان أوجه السداد الذي انتهى إليه تصور هيجل، وتشخيص ضروب التقويم النقدي الذي سدّده نحو أنساق "الفلسفة الذاتية"، وعلى وجه الخصوص تصوره كلّ من كانط وفيشته. ولهذا الغرض، ارتأى الرجوع إلى عرض التصورين اللذين يطبعان نظرية المعرفة لدى كل من كانط وفيشته، مع بيان أوجه النقد الذي كاله هيجل لهذين التصورين. 
أما الفصل الأخير من هذا الكتاب فتم تخصيصه لتقويم المخرج الذي ارتضاه هيجل مناسباً لتجاوز المآزق التي انتهت إليها الفلسفة الترانسندنتالية، وذلك من خلال تحليل "تجربة الوعي" والمنافذ التي فتحها في ضوئها، وذلك لغاية إدراك الحقيقة على مرادها وحيازة الكلي بتمامه.