أمينة ابنة الشاعر

القدر كتب على شوقي أن تجيء ابنته تعويضا عن رحيل والده في ساعة واحدة، فلم ينقص عدد أفراد الأسرة.

من يتابع حياة الأدباء والفنانين والشعراء سيجد أن الابنة دائما تحتل مكانة كبيرة في حياة أبويها، فهي البارّة بالأب غالبًا، ويقال "كلُّ فتاةٍ بأبيها معجبة". ولكن سنجد في حالتنا هذه أن الأب هو المحب والبار بالابنة.

فقد نظم أمير الشعراء أحمد شوقي في ابنته أمينة مئة واثنين من الأبيات، بينما لم ينظم لابنيه علي وحسين سوى اثنين وعشرين بيتًا.

ومن المفارقات الغريبة في ميلاد أمينة، أنها جاءت في الساعة التي توفي فيها جدها علي (والد الشاعر). يقول شوقي: كانت وفاة والدي علي (1897) في الوقت الذي وضعتْ فيه زوجتي ابنتنا أمينة – فلم أدرِ أأهش لاستقبال أمينة، أم أجهش لوداع أبي؟

ويضيف: كانت آلام الوضع المستعصي من ناحية حلوان (حيث يقيم شوقي)، وآلام النزع التي كان يعانيها والدي في القاهرة، في الوقت نفسه، جعلت من تلك الليلة بالناس ما مرَّت. ليلة ليلاء تتكاثر فيها عناصر الدراما والمأساة، وقلت:

يا ليلةً سميتُها ليلتي ** لأنَّها بالناسِ ما مرَّتِ

الموتُ عجلانُ إلى والدي ** والوضعُ مُستَعْصٍ على زوجتي

والقلبُ ما بينهما حائرٌ ** من بلدةٍ أسري إلى بلدةِ

حتى بدا الصبحُ فولَّى أبي ** وأقبلتْ بعد العناءِ ابنتي

إذن جاءت أمينة في ليلة عصيبة، مات فيها الجد، وبزغت هي إلى الحياة، شمسًا مشرقة في عائلة أمير الشعراء، وكأن القدر كتب على شوقي أن تجئ ابنته تعويضا عن رحيل والده في ساعة واحدة، فلم ينقص عدد أفراد الأسرة.

يقول شوقي عن أمينة: "إن الحب الأكبر في حياتي كان لابنتي أمينة، وقد كنتُ أمنحها جيبي أو حافظة نقودي تتصرف فيها كما تشاء، ولا أمنعها من ذلك".

وعندما اجتمع الأطفال في بيته بحلوان للاحتفال برأس السنة الميلادية، رأى شوقي أن ينظم قصيدة بهذه المناسبة، وتكريمًا لابنته أمينة، التي أتت بصديقاتها، فقال:

صغارٌ بحلوانَ تَستبشرُ ** ورؤيتها الفرحُ الأكبرُ

تهز اللواءَ بعيد المسيحِ ** وتحييه من حيثُ لا تشعرُ

ومن عجبٍ منهمو المسلمون ** أو المسلمون هم الأكثرُ

وقد أفهم شوقي ابنته أن الدنيا كالغابة، وأن حياة الكبار ليست كحياة الصغار، ولا بد للإنسان أن يأخذ طريق القوة حتى يعيش في أمان، وحتى لا يفترسه ذئاب الإنسان. ورأى أن من واجبه، بل أخذ على عاتقه أن يبصرها بتكاليف الحياة، حتى تسلك طريق النجاة. وقال:

أتتني تسألني لعبةً ** لتكسرها ضمن ما تكسرُ

فقلت لها: أيهذا الملاكُ ** تحب السلام، ولا أنكرُ

فلا تَرْجُ سِلمًا في العالمين ** فإن السباعَ كما تُفطر

ويرى شوقي إن التربية السليمة هي أساس تكوين شخصية الطفل، وصلاح أمره، وتقويم نفسه، والأم هي المسؤولة الأولى عن ذلك.

وأثناء عودة شوقي إلى مصر من منفاه على ظهر الباخرة سيسليا، رأى طفلة أجنبية جميلة تشبه ابنته أمينة، فقال فيها:

هذه نورُ السفينة ** هذه شِبْهُ (أمينة)

هذه لؤلؤةٌ عندي ** لها مثلٌ ثمينة

من بناتِ الرومِ لكن ** لم تكن عندي مَهينة

ابنة الشاعر كانت دليله الأول لسيدة الغناء العربي أم كلثوم التي ستغني لشوقي بعد ذلك تسع قصائد من قصائده الشهيرة

لقد سمع شوقي عن اسم "أم كلثوم" من ابنته أمينة، قالت: صديقاتي يقولون إن هناك مغنية صغيرة تلبس العقال، وتغني في مسارح القاهرة الآن، وأريد أن أذهب لسماعها يا أبي. وحقق شوقي طلب ابنته وذهبت الأسرة لسماع أم كلثوم ورؤيتها، فأدرك أنها ليست مجرد مغنية، أو مؤدية، وأنها على وعي تام بمكونات الشعر.

ومن هنا نستطيع أن نقول إن ابنة الشاعر كانت دليله الأول لسيدة الغناء العربي أم كلثوم التي ستغني لشوقي بعد ذلك تسع قصائد من قصائده الشهيرة.

تزوجت أمينة قبل الخامسة عشرة، ولم تكن تقطن مع أسرتها، فاقتنى لها شوقي منزلا بجوار منزله، وأزال السور الذي كان حاجزًا بين المكانين، لتكون قريبة من أبيها.

كان شوقي مغرمًا بتعدّد أصناف الطعام، وإن كان قليل الأكل. وكان مفتونًا بذلك فتنةً تجعله يقترحُ على أمينة أن تأتي بطعام غدائها إلى مائدته لتكثر الألوان المنثورة أمامه، وينال منها ما يشاء.

ويتذكر حسين ابن أحمد شوقي في كتابه "أبي شوقي" أن الخديوي عباس وزوجته (النمساوية) حضرا زفاف أمينة، في وقت لم يكن الخديوي يحضر فيه عرسًا من أعراس الشعب.

يقول حسين: وقف سموه في الحديقة ثم أرسل في طلب أبي، فأقبل شاكرًا ومندهشًا، هنَّأه الخديوي تهنئة حارة وأهداه بعض الهدايا، فقبَّل أبي يده، وهي المرة الوحيدة التي قبَّل فيها يد سموه شاكرًا له على هذا العطف الكبير. كما أن صاحبة السمو زوجته مكثت مدة طويلة بجوار سرير أختي التي كانت مريضة في تلك الليلة من سوء الحظ.

لم يحضر الشاعر حافظ إبراهيم حفل عقد قران أمينة هانم على حامد بك العلايلي، في كرمة ابن هاني بالمطرية، وأرسل قصيدة اعتذار لشوقي قال في مطلعها:

يا سَيِّدي وَإِمامي ** وَيا أَديبَ الزَمانِ

قَد عاقَني سوءُ حَظّي ** عَن حَفلَةِ المِهرَجانِ

وَكُنتُ أَوَّلَ ساعٍ ** إِلى رِحابِ اِبنِ هاني

لَكِن مَرِضتُ لِنَحسي ** في يَومِ ذاكَ القِرانِ

إن شاعر النيل يمرض يوم زفاف أمينة، وجدها يتوفى يوم ميلادها، ولكنها تذهب مع والدها إلى المنفى في إسبانيا عام 1915، حاملة طفلتها الصغيرة، ليلى.

في برشلونة أحضر شوقي المدرسين ليتعلم أبناؤه، فكان مدرس اللغة الفرنسية يحضر إلى المنزل ليعلم علي وأمينة اللغة الفرنسية، ومدرّسة تحضر لتعلم حسينًا اللغة الألمانية، وهو كان يتعلم الإسبانية، وإن ظل نطقه بها غير سليم، وأخذ هو على عاتقه تعليم أولاده اللغة العربية طوال مدة المنفى.

وعند عودتهم من المنفى في أواخر عام 1919 كان في استقبالهم في ميناء الإسكندرية الأقارب والأصدقاء الأخصَّاء فقط، وقد صعدوا جميعا إلى ظهر الباخرة، وكان أحدهم مُعمّمًا يلبس الجبة والقفطان، فلما رأته ليلى ابنة أمينة، ولم تكن قد رأت هذا اللباس من قبل، قالتْ لجدها في دهشة وتعجب: جَدي .. جَدي أنظر إلى الرجل الذي يرتدي فستانًا.

لم ندر هل نظم شوقي شعرا في حفيدته ليلى أم لم ينظم، وإن كنت أتذكر قصيدة عن الجدة، يقول فيها على لسان الحفيد أو الحفيدة:

لي جَدَّةٌ ترأف بي ** أحنى عليَّ من أبي

وكلُّ شيءٍ سرني ** تذهبُ فيه مذهبي

إن غضبَ الأهلُ عليّ ** كلهم لم تغضبِ.