أين عالمنا العربي من صناعة الخيال العلمي؟

الدول المتقدمة تدرك أهمية الخيال العلمي في تنشئة جيل من العلماء والمبدعين، ما جعلها تدمجه مبكرا في مناهجها التعليمية وتستثمر فيه كصناعة واعدة وهو ما فعلته الصين لاحقا.

لقد أدركت الدول المتقدمة أهمية الخيال العلمي في اعداد وتنشئة جيل من العلماء والمبدعين، فقامت بادراجه في مناهج التعليم المختلفة، وافتتاح أقسام دراسية بالجامعات في تخصص أدب الخيال العلمي، وأكدت على أن دراسة الخيال العلمي جزء لا يتجزأ من استراتيجيات المستقبل. وقد أشار الى ذلك كاتب المستقبليات الأميركي ألفين توفلر في كتابه "صدمة المستقبل" بقوله "قراءة الخيال العلمي أمر لازم للمستقبل"، كما أشار لذلك أيضاً كاتب الخيال العلمي البريطاني الشهير آرثر سي كلارك في كتابه "لقطات من المستقبل" بقوله: "القراءة النقدية لأدب الخيال العلمي هي بمثابة تدريب أساسي لمن يتطلع الى الأمام أكثر من عشر سنوات".

ويقول عالم النفس الأميركي الشهير اليكس أوسبورن في مقدمة كتابه الخيال التطبيقي الذي نشر عام 1953، في غمرة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، إن الخيال هو الذي صنع أميركا، وإنه لا انتصار لأميركا الا بإنتاج الأفكار المبدعة.

وهنا نطرح سؤالاً مهماً: الى متى سيظل الخيال العلمي مهمشاً ونادراً في عالمنا العربي، بينما دول العالم المتقدمة يزداد إهتمامها به يوماً بعد يوم؟، هل الأمر يتطلب استحداث هيئة أو مؤسسة حكومية عربية للخيال العلمي، حتى يجد الإهتمام اللائق به كعلم من علوم الحاضر والمستقبل التي لا تقل أهمية عن علوم مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي أو النانوتكنولوجي، والتي كانت في الأصل خيالاً علمياً؟

قال عالم الفضاء والجيولوجيا العربي الدكتور فاروق الباز، في تقديمه لكتابي (بالاشتراك) بعنوان "الخيال العلمي وتنمية الإبداع" الصادر عن "ندوة الثقافة والعلوم بدبي" إن الخيال العلمي يمثل إحدى المبادرات الأدبية الفريدة، وإنه من صفات الإنسان المفكر الذي لا يكبح جماح عقله أي حدود.

وأضاف بأن الخيال العلمي يضيف الكثير إلى حب التمعن والتساؤل الذي يشجع الطفل على البحث عن مزيد من المعرفة، وضرب لأهمية وقيمة الخيال العلمي بمثال أثناء عمله في برنامج "أبوللو" لاستكشاف القمر بين عامي 1967 و1972، حيث أكد على الدور المهم الذي لعبه الخيال العلمي في إلهام رواد "برنامج أبوللو" في تصميم مركبات أبوللو والهبوط على سطح القمر، فقال بأنه، أثناء عمله في برنامج "أبوللو"، اطلع زميل على نسخة من رواية "من الأرض إلى القمر" لرائد الخيال العلمي المبدع الفرنسي جول فيرن، التي كتبها عام 1865، وكانت هذه النسخة من أوائل الطبعات وشملت رسومات طلبها وحققها فيرن بنفسه، واتضح بدراستها أنها تقارب بشكل كبير الحقائق الواقعة في الستينيات بشأن تصميم مركبات أبوللو والهبوط على سطح القمر، ووقتها أصدرت مجلة "لايف" Life الأميركية ألبوما للرسومات القديمة والحديثة معا.

وقال الدكتور الباز في تقديمه للكتاب بأنه بمناقشة ذلك مع مدير مشروع "أبوللو"، قال إنهم كانوا في الصغر يحرصون على قراءة أعمال الكاتب جول فيرن، ولهذا انطبعت رسومات وأشكال رواية فيرن "من الأرض إلى القمر" في ذاكرتهم، ولما حان الوقت لإعداد مركبات "أبوللو" انبثق كل ذلك وأثر بشكل كبير على تصميماتها.

وقال العالم العربي الدكتور أحمد زويل - الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 – في إجابته عن سؤالي في ندوة "بمؤسسة الأهرام" المصرية في التسعينات، إن "الجميل في أميركا، وهو ما جعلها تتقدم على العالم علميا، أن الخيال لا يقتل وليست له حدود وكل المؤسسات تشجعه، والعالم الحقيقي المحب لعلمه لا بد أن يحلم، وإذا لم يتخيل العالم ويحلم فسيفعل ما فعله السابقون ولن يضيف شيئا".

ولو نظرنا لبعض مظاهر إهتمام الدول المتقدمة بالخيال العلمي، وأخذنا الصين على سبيل المثال، نجد أن الخيال العلمي أصبح صناعة واعدة، على سبيل المثال، كشف تقرير صناعة الخيال العلمي بالصين لعام 2024 والذي نُشر خلال مؤتمر الصين الثامن للخيال العلمي في بكين، وتم إصداره بشكل مشترك من قبل المركز الصيني لأبحاث الخيال العلمي، ومركز أبحاث العلوم والخيال البشري في الجامعة الجنوبية للعلوم والتكنولوجيا، كشف أن صناعة الخيال العلمي في الصين شهدت نموا متسارعا في عام 2023، حيث حققت إيرادات إجمالية بلغت 113.29 مليار يوان (حوالي 16 مليار دولار أميركي)، ومثلت الإيرادات المذكورة نموا سنويا بنسبة 29.1 في المئة، وبلغت إيرادات الصناعة لعام 2023 أكثر من 10 أضعاف نظيرتها لعام 2016 والبالغة حوالي 10 مليارات يوان. وقال التقرير إن حجم مبيعات مطبوعات الخيال العلمي بلغ 3.17 مليار يوان في عام 2023، بزيادة 4.3 في المئة عن العام الأسبق.وحققت أفلام الخيال العلمي والأعمال التلفزيونية ذات الصلة 11.59 مليار يوان في عام 2023، مسجلة زيادة سنوية بنسبة 38.8 في المئة، وشهدت أعداد مسلسلات الخيال العلمي ارتفاعا كبيرا على مواقع الانترنت والمسلسلات القصيرة، بالإضافة إلى مقاطع فيديو الخيال العلمي القصيرة والمتوسطة، وساهمت ألعاب الخيال العلمي بالجزء الأكبر من إجمالي الإيرادات، حيث بلغت إيراداتها 65.19 مليار يوان في عام 2023، بزيادة 15.4 في المئة.

وأظهر تقرير سابق عن تطور الخيال العلمي في الصين أنه اعتبارًا من يونيو/حزيران 2021، قدمت 18 جامعة، بما في ذلك الجامعة الجنوبية للعلوم والتكنولوجيا وجامعة تسينغهوا، 28 دورة تدريبية متعلقة بالخيال العلمي.

كما أن نائب الرئيس الصينى خلال حضوره مراسم افتتاح اجتماع لكتاب الخيال العلمى، تم بإستضافة رابطة العلوم والتكنولوجيا الصينية، كان قد دعا كتاب قصص الخيال العلمي الى نشر المعرفة العلمية والمساهمة فى حملة الدولة لأن تصبح قوة تكنولوجية عالمية، وقال أنه يتعين على كتاب الخيال العلمي ان يتصدروا الحملة ويرسمون عوالم مستقبلية بتفكير غير عادي ومدهش.

وقد نال الخيال العلمي الصينى، اهتماماً متزايداً من المجتمع الدولي، فمثلاً رواية الخيال العلمي "معضلة الأجسام الثلاثة" والمكونة من ثلاثة أجزاء، للكاتب الصيني ليو تسي شين، اكتسبت شعبية كبيرة ،فقد فازت في عام 2015 بجائزة "هوجو "عن أفضل رواية، والتي تعد أرفع جائزة لأعمال الخيال العلمي وقد أنشأتها جمعية الخيال العلمي العالمية لإحياء ذكرى كاتب الخيال العلمي الأميركي الشهير عالمياً هوغو جرنسباك، كما تمت ترجمتها الى أكثر من 10 لغات، وباعت أكثر من 7 ملايين نسخة باللغة الصينية، وتم إصدار النسخة الانجليزية في الولايات المتحدة في عام 2014، وبيع منها حوالي 700 ألف نسخة، أما مبيعات النسخ الفرنسية والاسبانية والألمانية، فقد تجاوزت 30 ألف نسخة لكل منها، كما أن مجلة الخيال العلمي الصينية توزع شهريا 400 الف نسخة.

ورغم الأهمية المتزايدة التي توليها الدول المتقدمة لأدب الخيال العلمي، فإن عالمنا العربي لم يشهد اهتماما مماثلا أو حتى متناسبا مع تلك الأهمية، فواقع أدب الخيال العلمي الجاد في عالمنا العربي يشير إلى أنه مهمش ونادر وما زال متواضعاً من حيث الإنتاج وقلة الكتاب المتخصصين، ولا يحظى كتابه بالاهتمام والتقدير، كما أن أغلب دور النشر تعزف عن نشر الخيال العلمي بحجّة أنه لا يباع.

فهل نأمل أن تقوم دولة عربية، بإستحداث مركز للخيال العلمي، وإقامة مؤتمر علمي دولي، ليكون بداية حقيقة للإهتمام الجاد بالخيال العلمي في العالم العربي، الذي لا يزال البعض ينظر اليه نظرة دونية، ويعتقد الكثيرون خطأ بأنه وسيلة ترفيه وتسلية؟.