إشكالية الأنا والآخر بين كتابة الملحمة وجلد الذات في 'الكونبطا'

لعل نقطة النور المضيئة في رواية عبدالجليل الدايخي الحائزة على جائزة كومار الذهبي للرواية هي ترك مساحات شاسعة للمتلقي للتفكير بترك الأسئلة معلقة دون جواب وبجعل الوطن /الأرض القيمة الوحيدة الثابتة رغم اتساع رقعة الحيرة.

رصدت الرواية العربية منذ عقود العلاقة المتوترة بين الشرق والغرب أو بين الأنا والآخر (توفيق الحكيم، سهيل ادريس، الطيب صالح...) ورسمت عبر خطابها التخييلي نظرتين للآخر الغربي، رؤية عدوانية تجعل الآخر شيطانا ولا ترى فيه سوى العدوّ الاستعماري أو الغرب العدوّ، ورؤية انبهارية ترى الآخر رمزا للحضارة والتفوق المادي والمعرفي. فكانت النظرة إلى الآخر غالبا ذات بعد واحد قلما تجاوزتها .وهي ثنائية استعادها الروائي عبدالجليل الدايخي في رواية "الكونبطا" الحائزة على جائزة كومار الذهبي  للرواية (دار مسكلياني، ط1، سنة 2022) وقد هيأ لها الخلفية التاريخية بجعل أحداث الرواية تتنزل في  تونس فترة الاستعمار وبداية الاستقلال.     

 لكن بما أن الرواية كما يرى باختين "تحاكي بسخرية كل الأنواع الأخرى" و باعتبارها جنسا "امبرياليا" فلا عجب أن يعمد الروائي عبدالجليل الدايخي  إلى استدعاء نوع سردي قديم "الخبر" متزاوجا مع شكل سردي شعبي قديم آخر "فن الحكواتي" فتتداخل قواعد النوع القديم مع مقومات الرواية الحديثة في ضرب من التجريب اللافت، ويحتضن الشكل الفني القديم شواغل العصر وإن تدثر بالتاريخ، ليعيد للواجهة  إشكالية الأنا والآخر التي تطارحتها الرواية العربية منذ  بدايات القرن الماضي.

في المتن الحكائي:

   تنفتح الأحداث في الرواية  بمشهد قطار يحمل شخصا عزيزا على القلوب باتجاه المشنقة هو "الكونبطا" كما سماه أهل القرية أو "المناضل" والمحارب المتمرد. ويتبين القارئ في بقية الفصول الأسباب التي أدت إلى الحكم عليه بالشنق ويتعرف قصة تمرده على المستعمر الفرنسي ورفضه الذل والانكسار في دفاعه عن الأرض والشرف، حتى تحولت قصته ملحمة تناقلتها الأفواه  خارج حدود الوطن تروي "ملحمة الكونبطا الرجل الذي هزم الأعداء وحده". ولا يكتشف القارئ التحول في مصير الشخصية إلا في الفصل 12 حين يتم إعلان استقلال  تونس وتغادر العساكر القرية فتكون الولادة الثانية للكونبطا بإطلاق سراحه مع بقية المساجين وإسقاط  الملاحقة العسكرية على المجاهدين ضد فرنسا. وتختزل الفصول الخمسة الباقية حياة الكونبطا في مرحلة ما بعد الاستقلال وقد أصبحت الحكومة "مشغولة بتركيز السيستام" وأضحت ملاحقة الكونبطا ومحاولة إخضاعه للنظام الجديد وتطويعه وإخضاعه هاجسا لها بعد رفضه كل عروض الدولة.

الحكواتي راويا/متعة الحكي:

      يستدعي عبد الجليل الدايخي في روايته شكلين تراثيين سرديين أحدهما ينتمي إلى أدب "النخبة" وهو شكل الخبر يعتمده منطلقا للرواية وخاتمة لها فإذا الرواية  كما في "حدث أبو هريرة قال" للمسعدي تنفتح على خبر مسند إلى الحفيد "حدثني جدي قال..."وثانيهما مستمد من التراث الشفوي الشعبي وهو "فن الحكواتي". وإذا الراوي  جدّ متقنع بدثار الحكواتي متقمص لشخصيته يروي لحفيده حكاية الكونبطا ولا يعود الحفيد إلى الواجهة راويا إلا في الفصل الأخير من الرواية بعد وفاة الجد. الحفيد في جل فصول الرواية مروي له و متلق أساسي للحكاية، بل هو جمهور الحكواتي المباشر. يوجّه إليه الحكواتي/الراوي الخطاب مباشرة بين الحين والآخر: "كما قلت لك ..حتى لا أطيل عليك... لقد تعلم جدك كيف يقرأ الأرواح ككتاب مفتوح ...لعلك لا تصدقني وتقول في سرّك..." دون أن يتدخل المروي له في الخطاب ودون أن يعلق.  

لئن ظهر الحكواتي في التراث العربي القديم بديلا للقاصّ وتميز بخصال فنية مكنته من تخليد التراث الشعبي وتجسيد الأدوار وتقليد الشخصيات مزاوجا في كل ذلك بين الترفيه والتسلية ومحاولة الإعلاء من شأن القيم وتمجيد البطولات في فن حكائي يروم تحقيق التفاعل بين الحكواتي وجمهوره، فإن الحكواتي / الجدّ في رواية الدايخي يواصل ممارسة هذه اللعبة (الوظيفة) مع الحفيد المرويّ له (والمتلقي/ القارئ) ويقدم نفسه على أنه "حكواتي بسيط يروي الحكاية كما تعلمها عن كبير الحكواتيين".

 لذا فهو يلغي الجدار الفاصل بين الباث والمتقبل ويمارس غواية الحكي الشفوي بمتعة عابثا بانتظارات المتلقي (الحفيد /القارئ) وحيرته، عابثا بترتيب الأحداث تقديما وتأخيرا واستباقا، طارحا الأسئلة دون انتظار الإجابة معلقا على الأحداث التي عايشها ساخرا أو جادا، جاعلا من حكاية الكونبطا ملحمة بطولية عساه يحميها من الضياع والنسيان، وهو ما يتواءم مع وظائف الحكواتي قديما وحديثا، فإلى جانب اضطلاعه بتخليد التراث الشعبي وحفظه عبر سرد الملاحم والسير، وإحياء الذاكرة أو ترميمها، يعمد الحكواتي إلى انتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية وتعزيز القيم الإيجابية دون التخلي عن وظيفتي التسلية والترفيه. ينهض الحكواتي في رواية الدايخي بهذه الوظائف راويا ملحمة البطل المناضل (الكونبطا أو ابراهيم بن الحاج محمد) ليجعله رمزا لمقاومة الاستعمار والظلم و رفض النفاق الاجتماعي والفساد (العمدة) ورفض سلطة الاستقلال في نزوعها نحو تدجين مواطنيها وإخضاعهم وتطويعهم في خدمة برامجها. فقد غدت الحكومة "مشغولة بملاحقة كونبا وأمثاله عوضا عن الانشغال ببناء جسر جديد أو مدّ طريق أو إنقاذ غريق .." ص215

   يعرض السارد في الرواية عن التاريخ الرسمي الذي تكتبه السلطة ليروي التاريخ الشعبي حيث يتحول الفرد المتمرد الثائر بطلا ملحميا يواجه حبل المشنقة وهو مؤمن بالانتصار ويواجه حكومة الاستقلال رافضا كل عروضها لاحتوائه لأنه يعشق حريته مرددا "أنا لست مع أحد، ولست ضد أحد، أنا مع الوطن" .فإذا مفهوم البطولة جماع قيم هي الثقة بالنفس والقوة والشجاعة (حد التهور) والتمرد على الظلم والنفاق والفساد والتضحية وحب الوطن ..تلك أهم السمات التي طبعت شخصية الكونبطا وقد غدت أداة الحكواتي لتمجيد القيم الإيجابية وتعزيزها في المتلقين .

على أن الحكواتي /الراوي الحريص على متابعة الجمهور له والتفاعل معه لا يمكن أن يغفل عن أهمية المتعة شرطا أساسيا لهذا التفاعل، بل هو يصرح بذلك "فأنا في كل الأحوال حكواتي للمتعة " وقد اقتضت لعبة الحكي أن يتقن قوانينها بل أن يكشفها للمتلقي في ضرب من الميتا سرد معلنا "علّمني ذلك الحكواتي الكبير متى أنسى ومتى أتذكر، وعلمني أين أطيل في الكلام وأين أقصّر حتى يكون على مقاس الحكاية تماما فتبدو أنيقة وجميلة " ص165. فالحكاية "سجاد منسوج بالكلمات" والمتعة تكبر أيضا بما يوفره الخطاب من ضروب السخرية والمفارقات في تعرية الواقع وكشف تناقضاته وهو ما يتواتر في الرواية بمختلف الأساليب لتتحول المأساة أحيانا ملهاة .هي مأساة الذات العربية في علاقتها بالآخر الغربي بين الانبهار و العدائية، بين الانسحاق التام والرفض المطلق .

تمثيلات الآخر / الآخر المتعدد:

     لم تقدم رواية الكونبطا الآخر في نموذج واحد بل عمدت إلى تنويع تمثيلاته و صوره عبر الشخصيات المختلفة. وقد بنيت على ازدواجية في رسم ملامح الآخر، حيث نجد الآخر المهيمن المغتصب و المستعمر العنيف تتجسد في شخصيتي المقيم العام و"الضابط السوفاج" وكانا مثالا  للعلاقة الصدامية مع الأنا عبر انتهاك الأراضي الفلاحية واغتصاب خيراتها وتحويل أصحاب الأرض إلى مجرد عمال تحت سلطة المعمرين و عدم التورع عن ردع كل معترض بالرصاص.

لكن الآخر هو أيضا ذلك "الرجل الطيب" الذي يموّل المشاريع لأهل القرية ويبني المكتبة، هو أوروبا الحضارة والعلم والمعرفة "من اكتشفونا تاريخيا" و"من يعرفون ثقافتنا أكثر منا". وليس السيد بودان والسيدة كريستال إلا نماذج من الآخر الذي يفرض الاحترام وتتولد معه علاقات إنسانية قد تتحول صداقة وحبا ..هي التي جعلت شيخ القرية يصرح "فلتذهب فرنسا إلى الجحيم إلا كريستال.. فلتذهب معنا إلى الجنة " ص113

ذلك الآخر المتلوّن (الغرب /فرنسا) هو عنوان الحضارة والحريات والمختلف عن الآخر السياسي الاستعماري، وهو القادر على إخفاء الوجه القبيح للاستعمار إذ يتحول بعد استقلال الوطن (تونس) إلى حام للحريات ومدافع شرس عن الديموقراطية فاتحا ذراعيه للهاربين من الأوطان ليغدو ملجأ للمنفيين والناقمين على الوطن(لجوء الكونبطا إلى فرنسا).

تمثيلات الأنا/بين كتابة الملحمة وجلد الذات:

     تتضافر في الرواية عديد الإشارات والرموز و الصور التي تبني ملامح الذات العربية (الأنا) المتأرجحة بين موقفين من الآخر، منها رمزية السكة والقطار، القطار رمزا للتفوق المادي الحضاري للغرب فهو "الذي وصلنا بالعالم "وقد تعلق به أهل القرية وانبهروا  "وفي كل محطة سيأتي أولئك السذج لتزجية أوقات فراغهم بمشاهدة القطار الخارق للأرض".. ولكن القطار هو أيضا أداة الغزو الاستعماري والعنف وفرض التبعية والسكة التي يسير فوقها هي التي ستحمل مناضلا محبا لوطنه مدافعا عنه إلى المشنقة، تلك السكة "التي جرحت أرضنا ومشاعرنا" ..وقد يكون عنوان الرواية (الكونبطا) صورة مصغرة لهذه الازدواجية في تمثل الأنا وفي التعامل مع الآخر. فاسم الشخصية الرئيسية (ابراهيم) يعمّد بلغة الآخر(le combattant ) لا ليخضع للآخر الفرنسي  بل ليتمرد عليه ويحاربه.

 وتبدو شخصية الكونبطا نموذجا  للأنا الرافضة للآخر في بعده الاستعماري ومثالا للنظرة العدائية التي يحملها تجاهه .وقد جسدت في الرواية ملحمة الذات المنتصرة للوطن وملحمة البطل الفرد على حساب البطولة الجماعية، ذاك الذي حارب فرنسا وقتل جنودها، والذي رغم لجوئه إليها في نهاية الرواية لم يشعر بفرحة اللجوء وظلت نقمته على الآخر جارفة.  

 على أن "الأنا" في الرواية لم تتحدد تمثيلاتها عبر الشخصية الرئيسية فحسب بل جسدتها شخصيات متعددة وأصوات مختلفة منها أهل القرية وشخصية الحكواتي (الطاهر). وتتشكل الأنا الجمعية" (نحن) في صورة مناقضة للكونبطا من خلال أهل القرية إذ كانوا مثالا للانسحاق التام أمام التفوق المادي الغربي. فلا نرى في أفعالهم وصفاتهم سوى الصورة السلبية للذات العربية، تلك التي كرّسها الآخر في خطابه وقد تجمعت فيها كل العيوب : الجهل، الكسل، الوسخ، الذل... تلك الفئة التي بقيت تعيش على هامش التاريخ والحضارة ..هي الأنا الجمعية التي تربّت على "عادة الخوف والتخفي وصار الأمر طبعا فيهم " ص181، لذلك لم تستطع أن تستفيد من الحرية التي حصلت عليها بعد الاستقلال وظلت تؤله الآخر وتردد عبارة "إن فرنسا قوية وجبارة "، بل ظلت تحلم بالعبور إلى الجنة الموعودة في صفوف طويلة للحصول على تأشيرة. ولعل الصورة الأكثر تواترا ورمزية في تمثيل "النحن " في الرواية، تلك التي ترسم تشوهات الذات وانسحاقها هي "أولئك السذّج فقد ناموا في هناء بمحطة القطار من دون تلك الركلات التي كانت تطال مؤخراتهم، ولم ينشغلوا إلا بملاحقة القمل فوق رؤوسهم "ص137

 وتعتبر الرؤية الدينية للآخر الغربي جزءا من هذا التصور. فاحتقار الذات مع الاستسلام للأمر الواقع باعتباره قدرا يتجسد  في خطاب الحاج مصطفى الدرويش دون  استشعار أي ضرورة للنهوض والمواجهة " أما نحن ؟من نحن؟نحن خشب جاف، قلوبنا بلا نور وأجسادنا هشة " ص35. وبذلك تغدو فرنسا "عقابا من الله أو داء كامنا فينا" .ويغدو الحل غيبيا "كله من تدبير الحيّ.. مشيئة القدير ستعيد فرنسا في وقت ما من حيث جاءت" ص35 .

 ويلتقي الحكواتي/ الشخصية الروائية (الطاهر) مع أهل القرية في نظرته إلى الآخر نظرة التقديس والانبهار وإن كان يختلف عنهم في مستوى الوعي. فاحتكاكه بالكونبطا وبمدام كريستال قد هيآه لرسم ملامح للأنا مختلفة عن أهل القرية، إذ يعمد إلى اتهام الذات  بالتخاذل ويحمّلها المسؤولية في تردي أحوالهم" كنا أصحاب شخصية قوية أما اليوم فنحن تافهون .تافهون جدا " ص40.

يرسم الحكواتي ومن ورائه المؤلف صورة سلبية للذات العربية تكاد تكرر مقولات الآخر حيث تقوم غالبا على السخرية والتحقير وتعرية السوءات (رغم المرجعية التاريخية التي تنضوي فيها الأحداث) لذا تتكرر في الرواية صورة القمل في الرؤوس وسمات الذل والانكسار والسذاجة في وصف أهل القرية .وكأن العداء الموجّه إلى الآخر قد انتقل إلى فضاء الأنا فتحولت الملحمة التي بناها الكونبطا مأساة، يقول السارد "لقد وقع تعريب الشرّ، والشرّ عندما يكون عربيا يكون أشد وأمرّ".لقد تحول الوطن إلى منفى أو سجن في حين غدا فضاء الآخر ملجأ الهاربين من الوطن. فقد "ساروا خلف فرنسا ماشين مهرولين نحو الميناء.. ساروا وهم يرددون تلك الجملة التي كانوا يقولونها في سرّهم : إن فرنسا قوية وجبارة "ص220 وهي صورة تتجاوز الماضي إلى حاضر الكتابة.

تركيب:

   لقد كانت الأرض/الوطن في رواية عبدالجليل الدايخي محور الصراع بين الأنا والآخر المستعمر، وبدا انتصار الكونبطا الفردي جزءا من الملحمة التي قد تعيد للذات بعض مجدها باعتبار الأرض رمز هوية ووجود. لكن تمجيد البطولة الفردية  متجسدة في الكونبطا لم يفلح في تعديل نظرة الأنا إلى ذاتها ونظرتها إلى الآخر. وكأن التلاقح الحضاري والانفتاح على الآخر لم يفضيا إلا إلى تأكيد نظرة الآخر السلبية للأنا الجمعية والكشف عن تشوهاتها وفضح عيوبها دون ترك مساحة للحلم. هل أساء الدايخي إلى صورة الأنا بهذا الجلد الذاتي؟ هل يساهم فضح تشوهاتها وانحرافاتها في استعادة الوعي وتجاوز الضعف؟ لعل نقطة النور المضيئة في الرواية هي ترك مساحات شاسعة للمتلقي للتفكير بترك الأسئلة معلقة دون جواب وبجعل الوطن /الأرض القيمة الوحيدة الثابتة رغم اتساع رقعة الحيرة.