"إلا رمزًا" قراءة في الرمز والترميز في الثقافة العربية 

محمد الحمامصي
بهاء الدين مزيد يؤكد في كتابه أن الرموز تختلف دلالاتها من ثقافة إلى أخرى.
سياق نقدي مختلف حول الرمز والترميز
قد لا يتطابق تأويل المتلقي مع ما أراد منتج النص
تتباين دلالات الرمز من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان

يقدم أستاذ اللغويات والترجمة د. بهاء الدين محمد مزيد في كتابه "إلا رمزا" سياقا نقديا مختلفا لرؤاه حول الرمز والترميز، فيتتبع حضورهما في البلاغة والأدب والشعر العربي القديم والحديث والقرآن، في النصوص اللغوية والبصرية. متناولا بعد مقدمة نظرية وافية، الرمزية في قبة الصخرة والجامع الأموي، وفي الزخارف الهندسية، ومن ذلك، النجوم والأهلة، والزخارف النباتية، ومن ذلك: النخيل والزيتون والعنب والموضوعات الأدمية، ومن ذلك: تصاوير شتى تمثل مناظر شراب وطرب ورقص وصيد من الفن الفاطمي، وفي رسوم الطيور، ورسوم الحيوانات، ورسوم الكائنات الخرافية والمجنحة، ومن ذلك أبو الهول والخيول المجنحة. وفي شكل المشكاة، وشكل السيف، والرمزية في الزخارف المعمارية. والنقوش الكتابية - وفي الخط العربي وما فيه من دلالات دينية وطموحات روحية، وفي الألوان، ومن ذلك: الأخضر، لون لباس أهل الجنة. 
ويلفت الكتاب الصادر عن دار بتانة إلى جانب بالغ الأهمية لا ينبغي أن نمل من تكراره، وهو أن الرموز تختلف دلالاتها من ثقافة إلى أخرى، ويتناول نصوصا نثرية وشعرية لأحمد الشهاوي وفوزية رشيد وهدى النعيمي وغادة السمان ودرويش الأسيوطي وسعدية مفرح وغيرهم، تشير إلى بعض ما فيها من مفاهيم وأفكار وموضوعات. من غايات هذه النصوص الصغرى الاستطراد، ودفع الملالة والسأم، وفتح آفاق تحليل جديدة. 
يرى مزيد أن الرمز هو كل علامة - أي كل كلمة أو صورة أو لون أو حركة أو صوت أو إيماءة أو غير ذلك - تتجاوز دلالتها معناها القريب المباشر إلى ما لا حصر له من دلالات ترتبط بسياقها النصي، وبمنتج العلامة أو منتجيها "مؤلف النص"، ومستقبلها أو مستقبليها "القارئ أو المتلقي". قد لا يتطابق تأويل المتلقي مع ما أراد الكاتب أو المؤلف أو منتج النص، على أن كل معنى محتمل يليق به أن يكون معنى مقصودا ما دام ينسجم مع الدلالات الكبرى للنص.
ويقول "تتباين دلالات الرمز من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فقد يوحي الأبيض بالبراءة والنقاء، وقد يوحي بالسذاجة وقلة الخبرة، وقد يكون لون الكفن أو لون ثوب العروس ليلة زفافها. وقد يرمز المطر إلى الخير والخصوبة، وقد يرمز إلى الظروف غير المواتية وغضب الطبيعة. 
إذا كانت الكلمات والعلامات تتباين في دلالاتها القريبة من مكان إلى مكان، فكيف بدلالاتها الرمزية المجازية؟ وقد تلتقي الإيحاءات والدلالات المجازية وتتباين الرموز التي تشير إليها. في الثقافة الغربية ـ مثلا ـ لا نجد كلامًا عن الصحراء رمزًا للمخاطر والانعزال والبراءة من التلوث، لكننا نجد كلاما عن الغابات، تلك المتاهات التي تحفل بالمخاطر وتقف في تعارض مع المدينة وصخبها وضجيجها. 

في غير موضع تكون الرموز فتنة سامح الله من يوقظها، ومن ذلك إصرار بعضهم أن أولاد حارتنا لنجيب محفوظ ترمز بلا مواربة ولا نقض ولا إبرام إلى الخالق عز وجل وإلى أنبيائه في سعيها إلى اختزال تاريخ البشرية في عمل سردي واحد.

ويشير د. مزيد إلى أن الترميز هو شحن تلك العلامة بالإيحاءات النفسية والثقافية والسياسية من خلال توظيفها في سياق يستدعي تلك الإيحاءات ويبزرها. بهذا التعريف المبسط، تصبح كل علامة رمزا، أو مهيأة للترميز. من ذلك اللحية، وهي شعر ينبت على الذقن، لكنها تشير في سياقاتنا العربية إلى التيارات الإسلامية الأصولية وإلى التدين إجمالا، والحجاب، وهو غطاء لشعر المرأة، لكنه يتجاوز ذلك إلى الإشارة إلى تلك التيارات وإلى الإسلام إجمالا في كثير من دول الغرب، والحمامة طائر منزلي أليف، ترمز إلى السلام والنقاء، وتفاحة آدم تشير إلى الخطيئة. وقابيل وهابيل يتجاوزان وجودهما المادي المحدود بزمان ومكان إلى الإشارة إلى الشر في مواجهة الخير، الكبر والغرور مقابل التواضع. 
والعلَم يرمز إلى دولة، والصليب يرمز إلى المسيحية، وصورة هتلر إلى الطغيان والاستبداد والدموية، والعم سام يرمز إلى الولايات المتحدة الأميركية والكوفية إلى فلسطين: ونجمة داوود إلى إسرائيل، والعصا والجزرة تشير إلى سياسة الولايات المتحدة في تعاملها مع دول العالم الأقل منها قوة ونفوذا، وتتصادى مع سيف المعز وذهبه في الثقافة العربية، على أن الاستعارة فيها ازدراء صريح للدول المقصودة يجردها من آدميتها. 
تبدأ قصيدة كييتس "أغنية للبلبل" بالكلام عن بلبل حقيقي يصبح رمزا للسعادة الصافية التي لا يعكر صفوها شيء. يصدق هذا على كل علامة، فقد تبقى على ما هي عليه في المعجم أو في نظامها العلاماتي الأساسي، وقد تتسع دلالاتها فتتحول إلى رمز.
ويوضح أن الرّمز باب من أبواب المجاز في البلاغة العربية يندرج تحت مبحث البيان الذي يشتمل التشبيه والمجاز والكناية، كما نجد في أمهات كتب البلاغة العربية ومنها "أسرار البلاغة" للجرجاني. وفي الكلام عن الحقيقة والمجاز من "الإيضاح" للخطيب القزويني، الحقيقة هي "الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب". والحقيقة لغوية ككلمة "الأسد" تشير إلى السبع المعروف، وشرعية ككلمة "الصلاة" تشير إلى العبادة المعروفة، وعرفية ككلمة "الدابة" تشير إلى كل ذي أربع. وكذا المجاز لغوي ككلمة "الأسد" يراد بها الرجل الشجاع: وشرعي ككلمة "الصلاة" يراد بها الدعاء، وعرفي ككلمة "الدابة" يراد بها الإنسان. والمجاز من جاز المكان يجوزه، أي تعداه، وقد يراد به الوسيلة التي تصل بصاحبها إلى غاية.
ويلفت مزيد إلى أن البلاغة العربية وقفت في تناولها المجاز عند حدود المفردة والجملة والعبارة، أو الفقرة الشعرية، ولا يكثر فيها ورود مصطلح الرمز أو الترميز، مع ما خصت تلك البلاغة الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز إجمالًا من اهتمام وشرح وتوضيح. 
لا يعيب البلاغة العربية أن توقفت عند الجملة والعبارة والمفردة والبيت الشعري في كثير من معالجاتها، فقد مرت الدراسات اللغوية في الغرب بمراحل من الانكفاء على المفردة، إلى الانشغال بالجملة، ثم النص والخطاب ثم التوسع إلى دراسة العلامة والنصوص البصرية. ولو تابعت البلاغة العربية تطورها، ولم تنقطع الصلة بها بعد عصور الركود الثقافي حيث تحول الاهتمام من التأصيل إلى الترجمة عن الغرب، لبلغت ما بلغت نظيراتها في الثقافات الأخرى من تطور واتساع. 

قد ترمز امرأة في قصيدة أو رواية إلى الوطن
كل علامة ليست بالضرورة كلمة

ويؤكد أن البلاغة في الغرب اليوم لم تعد حبيسة جدران الجملة أو المفردة والعبارة. فقد تجاوزتها إلى الخطاب/ النص. وقد عاينت البشرية نصوصا كنائية مجازية كبرى، يكون فيها الترميز على مستوى النص. كما يكون على مستوى الكلمة، وسيرد تفصيل ذلك في موضعه. ولم يعد الأمر قاصرًا على النصوص اللغوية: ففي عصر ثقافة الصورة والنصوص البصرية، أصبح من الملائم تناول الصورة بوصفها نصًا، والدوال البصرية بوصفها علامات يصدق عليها ما يصدق على المفردات من حقيقة وترميز ومجاز. لقد تجاوز الاتصال اليوم شفرة اللغة إلى استخدام الصورة والصوت واللون والرائحة في بعض المجالات النسائية. ليس في وسع التحليل اللغوي التقليدي أن يلم بكل جوانب النصوص المعاصرة، لأنه لا يتجاوز شفرة اللغة. من هنا تزايد الاهتمام بعلم العلامات أو العلاماتية، لأنه يتناول بالتحليل العلامة لا الكلمة. كل كلمة علامة، لكن ليست كل علامة كلمة. العلامة هي كل ما يعنى شيئا أو يدل على شيء أو يرمز إلى شيء، فالإشارة الحمراء في نظام المرور تدل على ضرورة التوقف، واللون الأسود فى كثير من الثقافات يرمز إلى الحزن، وهكذا.
وينبه د. مزيد إلى أن كل علامة ليست بالضرورة كلمة، فليس كل نص مجموعة من الكلمات أو الجمل المترابطة من حيث المعنى والمبنى. فالنص من وجهة النظر العلاماتية هو مجموعة من العلامات المترابطة من حيث المعنى والمبنى تنتج دلالة مكتملة قائمة بذاتها متصلة بغيرها. وعلى هذا فإن الفيلم السينمائي نص، والمقطوعة الموسيقية نص، واللوحة التشكيلية نص، والمسلسل التليفزيوني نص، وهكذا. 
ويقول مزيد إن من النباتات والطيور والحيوانات وسائر الكائنات والموجودات ما يرمز إلى الإنسان في بعض أطواره وسلوكياته وأخلاقه وطباعه؟ كاستعارة "اللبلاب" للكلام عن المتسلقين، و"الحرباء" للكلام عن المتلونين المتحولين. و"السمك" في الكلام عمن لا يطيقون فراق أوطانهم، والشجرة الطيبة لوصف الكلام الطيب، والحجارة لوصف القلوب القاسية، هذا ما نجد في قصص الحيوان، أو الأمثولات، التي يتجاوز الترميز والكناية فيها مستوى المفردات والجمل إلى مستوى النصوص، من "حكايات أيسوب"، وفيها قصص حيوانات تنتهي بحكم صالحة للتطبيق في حياة البشر، إلى "كليلة ودمنة"، وفيها قصص حيوانات صالحة لإمتاع الناشئة والعامة ولاستفزاز عقول الخاصة إلى ما ترمز إليه من قضايا سياسية واجتماعية، إلى روايتي "مزرعة الحيوان"، وفيها سرد كنائي يحيل إلى الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي، و"1984" وفيها سرد مزدوج الدلالة يرمز إلى ممارسات سياسية وإعلامية قمعية تضليلية، والروايتان لجورج أورويل، وقصيدة منطق الكائنات لمريد البرغوثي، وحكايات الحيوان لأحمد شوقي على سبيل التمثيل لا الحصر.
ومن البشر رموز، فقد ترمز امرأة في قصيدة أو رواية إلى الوطن، وقد ترمز إلى بعض القيم والمفاهيم، وقد ترمز إلى الغواية وإلى الكتابة وإلى الإبداع والترجمة. وقد ترمز إلى الحياة كلها. من ذلك ما نجد في "ميرامار" نجيب محفوظ من شخصية "زهرة" التي ترمز إلى مصر، وفي "شيء من الخوف" لثروت أباظة، حيث ترمز فؤادة إلى مصر، وإلى كل وطن، وعتريس إلى حاكم يغتصبها ويرغمها على الزواج، لكن زواجه منها يبقى باطلا بإجماع أهل البلد، وبفتوى الشيخ "إبراهيم" الذي لم يبع نفسه ولم يخش بطش الطاغية المستبد. 
وفي غير موضع تكون الرموز فتنة سامح الله من يوقظها، ومن ذلك إصرار بعضهم أن أولاد حارتنا لنجيب محفوظ ترمز بلا مواربة ولا نقض ولا إبرام إلى الخالق عز وجل وإلى أنبيائه في سعيها إلى اختزال تاريخ البشرية في عمل سردي واحد. في النص الروائي ما يثبت ذلك ‎وفيه ما ينفيه. ليس هذا مقام الكلام عن الرواية، لكن المقصود هو أن بعض الرموز يثير تأويلها قضايا سياسية وأيديولوجية قد تنتهي إلى التكفير والشروع في القتل. وقد عاينا ما عمدت إليه آلة الإعلام الحديثة من تحويل عدد من قادة الدول والجماعات والفصائل إلى رموز للشر والإرهاب، في نفس الخندق الذي يضم هتلر، وموسوليني ونيرون.
يحذر د. مزيد من الشيطنة والتأليه أو التصنيم من العمليات التي ما تنفك وسائل الإعلام الحديثة والمعاصرة تمارسها بكفاءة عالية وإصرار غريب، يدعمها في ذلك غياب الملكات النقدية في التعامل مع رسائلها ومغرياتها. من ضحايا وسائل الإعلام من يصبح مجرها ضالعا في الإجرام، ومنهم من يصبح فاشيا إرهابيا أو حيوانا - كلتا أو حمارا أو ثعبانا، أو غير ذلك - أو شيطانا شريرا لا رجاء فيه. 
وممن يصنمهم الإعلام من يصبح نجما أو فارسا أو عندليبا أو ملكا أو أمير قلوب أو معبودة جماهير أو كوكبا أو ساحرا أو إلها - في الإعلام الغربي أو أسطورة أو ملاكا، إلى غير ذلك. كل ذلك على سبيل الاستعارة، لا الحقيقة، لكن الاستعارة تستقر في وعي المتلقين حتى تصبح مساءلتها نوعًا من التجديف أو السباحة ضد التيار.