"اتفاق قاهرة" مدني

لبنان دولة عاجزة عن إعطاء أبنائها حقوقهم، فكيف لها أن تؤمن متطلبات الآخرين أكانوا لاجئين أم نازحين؟ أحسن الفلسطينيون التحرك وأخطأوا العنوان.

العجب ألا ينتفض اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، فحياتهم عذاب. لكن العجب الأكبر أن ينتفضوا ضد اللبنانيين، فحياتنا أيضا عذاب مع مديونية موصوفة، وهجرة متصاعدة، ودولة متهاوية، وسلاح متفلت من كل شرعية، و35% بطالة بين الشباب، و70% من اللبنانيين غير مضمونين، و1,280,000 لبناني تحت سقف الفقر، ونصف مليون لاجئ فلسطيني، ومليون ونصف مليون نازح سوري. ألم ير الفلسطينيون اللبنانيين، على اختلاف قطاعاتهم، من القاضي والضابط والمعلم إلى الطالب والعامل والفلاح، يتظاهرون من أجل لقمة العيش والراتب والضمان والعمل؟ أيستدان من مفلس؟ لبنان دولة عاجزة عن إعطاء أبنائها حقوقهم، فكيف لها أن تؤمن متطلبات الآخرين أكانوا لاجئين أم نازحين؟

أحسن الفلسطينيون التحرك وأخطأوا العنوان. ليس لبنان المسؤول عن تشردهم وفقرهم وعيشهم عقودا في المخيمات وقد عادت معسكرات. الأجدر بهم أن يتظاهروا أمام سفارات الدول العربية والغربية، وأمام مقار الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومؤسسة الأونروا، وأمام سفارة فلسطين. لبنان أدى قسطه لفلسطين قضية وشعبا ولاجئين: دافعنا عن القضية واستضفنا الشعب. ولا يطلبن أحد منا المزيد. ألم يكن أفضل للفلسطيني في لبنان أن يعطى خبزا ليأكل وسقفا ليسكن وكتابا ليقرأ من أن يعطى سلاحا ليقتل أخاه وقنبلة ليفجر نفسه؟ إن ما تنفقه المنظمات الفلسطينية - ومن هم وراءها - على تسليح المخيمات لتتقاتل، يفوق ما يحتاجه اللاجئون ليعيشوا حياة كريمة.

لا يستطيع الفلسطينيون أن يكونوا خارج الدولة اللبنانية سياسيا وأمنيا، وأن يطالبوا بالمقابل بأن يكونوا جزءا منها اجتماعيا ومدنيا. لا يستطيع الفلسطينيون أن يتجندوا في منظمات عسكرية وجهادية وتكفيرية، وأن يطالبوا بالمقابل بالانخراط في إدارات الدولة اللبنانية ومؤسسات مجتمعها. لا يستطيع الفلسطينيون أن يغلقوا مخيماتهم بوجه السلطات اللبنانية، وأن يطالبوا بالمقابل بأن تفتح الدولة أبوابها لهم.

قليل من الواقعية تحفظ العلاقات اللبنانية/الفلسطينية. وكثير من المزايدات تهزها. نحن اللبنانيين حريصون على هذه العلاقات. نحب الشعب الفلسطيني، ونقدر ثوراته ومقاومته وصموده، ونفتخر بإبداعات أبنائه في بلاد العرب والعالم. في عمق كل لبناني خزعة من زيتون أورشليم، وسرو الجليل، وعنب الخليل، وصفصاف حيفا، ونخيل عكا، وجميزات نابلس، ومياه طبريا، وخشب بيت لحم. وفي أذن كل لبناني تصدح أجراس كنيسة القيامة وأصداء مؤذن المسجد الأقصى. دعوا هذه المشاعر تنمو وتورف.

لماذا التظاهرات المسلحة وقطع الطرقات ونشر الفوضى؟ لماذا العودة إلى أجواء سبعينات القرن الماضي وهي بعد طرية؟ لماذا تكبير الأمور والادعاء بأن تسطير مخالفة في حق فلسطيني يعمل خارج القانون هو تلبية نداء "صفقة القرن"؟ إذا وجد من يسهل صفقة القرن، يكون ذاك الذي يدعو إلى تطبيع الوجود الفلسطيني في لبنان توطئة للتوطين، وليس الطرف اللبناني الذي يقاوم التطبيع والتوطين. لا تهولوا علينا، فلنبق إخوانا ونطوِ حقبة "الأبوات". حري بالفلسطينيين ألا يسمحوا للفتنة أن تعبر إلى لبنان من بابهم بعد انتحاري طرابلس (04/06/19) وحادثة قبرشمون (30/06/19).

عانينا من هذه الاتهامات الملفقة في السبعينات، وكان هدفها إحراجنا من أجل السيطرة على البلد: فكلما كانت الدولة اللبنانية تحاول تنفيذ القوانين، كانت المنظمات الفلسطينية تتهمها بالسير بالحل السلمي، وبالصلح مع إسرائيل وبتأييد "كامب ديفيد" وبتصفية القضية الفلسطينية. ورأينا لاحقا من سار في الحل السلمي وتصالح مع إسرائيل واعترف بها ووقع معها اتفاقيات وقدم تنازلات وتخلى عن "حق العودة". هذا كلام قاس بالتأكيد، لكن الأقسى منه أن تظلم الفصائل الفلسطينية اللبنانيين وتشكك بنواياهم وتحملهم مسؤولية معاناة اللاجئين الفلسطينيين.

إن مصير اللاجئين الفلسطينيين هو أصلا مسؤولية المجتمعين العربي والدولي ومسؤولية السلطة الفلسطينية. وجميعهم مدعوون لإيجاد حل نهائي يعفي لبنان من الاحتفاظ بوديعة اللاجئين المتفجرة، وقد مضى على وجودها في أرضنا سبعون عاما، ودفعنا فوائدها غاليا من سيادتنا واستقرارنا وأمننا وأرواحنا واقتصادنا وعمراننا. غفرنا لكننا لم ننس. والمغفرة تبقى رهن عدم عودة الفلسطينيين إلى ممارسات الماضي تحت أي ذريعة ومطلب.

في سبعينات القرن الماضي كان خلاف اللبنانيين مع القيادات الفلسطينية لا مع الشعب، أما اليوم، فالخلاف صار مع الاثنين: مع القيادات لأنها بلغت الحائط الأخير في مساراتها السياسية والعسكرية فتركت الفلسطينيين لقدرهم، ومع الشعب، أي اللاجئين لأنهم فقدوا الأمل في قياداتهم وفي حق العودة ويريدون تثبيت حياتهم حيث هم. لكن لبنان لا يستطيع تحمل لهزائم العربية في الحروب، ولا فشل الحلول السلمية في المفاوضات. واصلا، حين نتعمق في دراسة "صفقة القرن" المشؤومة، نكتشف أنها تتويج لمسار التنازلات العربية والفلسطينية منذ عقود.

بعيدا عن المزايدات، إن جوهر المشكلة اليوم مع اللاجئين الفلسطينيين ليس العمل في لبنان بل الوجود في لبنان، وليست الإقامة الموقتة بل التوطين. وما يجري حاليا هو فرض التوطين بالقطعة حتى نصل قريبا ونراه مكتملا كالبدر ولا ينقصه سوى التجنيس. والتحركات الفلسطينية الأخيرة في لبنان تهدف عمليا إلى انتزاع "اتفاق قاهرة" مدني، هذه المرة، من الدولة اللبنانية.

والمؤسف وطنيا أن الأطراف اللبنانية التي فرضت على الدولة القبول بـ"اتفاق القاهرة" العسكري سنة 1969 تدفع اليوم نحو "اتفاق قاهرة" مدني مع الفلسطينيين. والمحزن أيضا أن الأطراف ذاتها التي ورطت الفلسطينيين في السبعينات وزايدت عليهم، تكرر الآن الدور بوقاحة وكأن لبنان ليس "وطنا نهائيا"، وشعار "لبنان أولا" ليس سوى لحن أنشد مرة وطوي أبدا.

بقدر ما يتقدم مسار التوطين - وهو يتقدم - يتقدم مسار التقسيم. فالدستور اللبناني ربط رفض التقسيم والتوطين معا (الفقرة ط من المبادئ العامة)، كما رفض أي "شرعية تناقض ميثاق العيش المشترك" (الفقرة ي). ولأننا سنقاوم التقسيم غدا نقاوم التوطين اليوم، ولأننا متمسكون بالعيش المشترك المتساوي نحرص على توازن الصيغة اللبنانية الميثاقية. فكما لا شرعية تناقض ميثاق العيش المشترك، لا عيش مشتركا في ظل اختلال الميثاق ديمغرافيا باستقدام مكونات غير لبنانية. الصراحة بدء الحلول مهما كانت هذه الحلول.