الإبداع الأدبي وسؤال التجنيس

عملية التجنيس مرت بمراحل مهمة حاول خلالها مجموعة من المنظرين والدارسين تطوير هذه النظرية لملاءمتها مع الحساسيات الإبداعية الجديدة.
الكتابات الأدبية المعاصرة أصبحت تتجاوز التصنيفات والأنماط التقليدية وتحطم حواجزها وركائزها الصامدة مند قرون
علاقة النقد بالنص الأدبي ما تزال تثير أسئلة شائكة

على الرغم من اعتبار التجنيس الأدبي مبدأ تنظيميا للنصوص الأدبية، وآلية مهمة لضبطها وتصنيفها، وبالتالي خضوعها للنقد، فإنه يعد من النظريات الأكثر جدلية في تاريخ الأدب مند ظهور كتاب أرسطو الشهير "فن الشعر" الذي وضع من خلاله ثلاثة أقسام للأدب: الغنائي والملحمي والدرامي، مؤكدا بذلك على الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية وعدم الخلط بينها. 
منذ ذلك الحين مرت عملية التجنيس بمراحل مهمة حاول خلالها مجموعة من المنظرين والدارسين تطوير هذه النظرية لملاءمتها مع الحساسيات الإبداعية الجديدة العصية أحيانا كثيرة عن التصنيف، والمتمردة على الأنماط الكلاسيكية للأدب، وفي هذا الصدد نذكر: هوراس، هيجل، لوكاتش.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، جاءت الثورة على نظرية الأجناس الأدبية حيت عبر موريس بلانشو (Maurice Blanchot) في كتابه (Le livre à venir) عن موت الجنس الأدبي لصالح الأدب الواحد، وطالب أيضا رولان بارت  (Roland Barthes) بإلغاء الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية. كما أن الكتابات الأدبية المعاصرة أصبحت تتجاوز التصنيفات والأنماط التقليدية وتحطم حواجزها وركائزها الصامدة مند قرون، مستخدمة مفاهيم عديدة: التجريب والحداثة وغير ذلك، فأصبحنا أمام رواية شعرية وقصة فلسفية وقصيدة الدراما.
صحيح أننا الآن أمام أجناس أدبية تمتزج فيما بينها وتخترق خصوصية بعضها إلا أن الاشتغال خارج التجنيس هو بمثابة تجنيس جديد وإعلان ميلاد جنس جديد، سرعان ما يتبلور ليضع حدوده الجديدة ويدافع عنها باستماتة ويحاكم  كل من يخترقها. في نظرنا، هذا أمر طبيعي ومطلوب من أجل تطور الأدب لأنه يلائم حركة التاريخ ولا يخالفها.

تطور الإبداع الأدبي يبدو في الكثير من الأحيان أصعب وأعقد في مسيرته من إدراك ومتابعة النقاد لجميع خصائصه الفنية المتجددة    

لكن الأهم في ظل ما سلف، هو علاقة النقد بالنص الأدبي التي ما تزال تثير أسئلة شائكة حول المنهجية المعتمدة والأساليب التي يتعين على الناقد إتباعها لقراءة النص والحكم على قيمته الأدبية من غير الإضرار به أو التبخيس من قيمته الإبداعية عبر حشره قسرا في قالب أدبي لا يناسبه، خاصة أمام نصوص فريدة فنيا، تخترق كل المعاير المعروفة وتنسج لها مميزات جمالية خاصة وأسلوبا مختلفا وبنية جديدة، تنهل أحيانا من الفلسفة والعلوم الإنسانية أو حتى من العلوم الحقة: كالفيزياء الكمية وغيرها.
أكيد أن تطور الإبداع الأدبي يبدو في الكثير من الأحيان أصعب وأعقد في مسيرته من إدراك ومتابعة النقاد لجميع خصائصه الفنية المتجددة لكن علاقة النصوص بالنقد الأدبي تبقى ضرورية للطرفين. وهذا ما يدعو جديا إلى تبني مناهج وأساليب مختلفة وغير تقليدية لدراسة المنجزات الأدبية وترصدها دونما خلفية مسبقة، والتعامل مع هوية النص بحذر من غير صبه في قوالب جاهزة لا تناسبه بالضرورة، وخلخلة كل البنى القائمة من أجل نقد بناء لصالح الإبداع.
الإبداع الأدبي يتجاوز كل النظريات، وحصره في نظرية جامدة هو موت له.