سرديات الهوية والتحرر في القصة القصيرة الإسبانية النسائية

كتاب 'وصفة السعادة.. قصص نسائية من الأدب الإسباني' يسلط الضوء على تطور الصنف الادبي بأقلام نسائية منذ نهاية القرن العشرين برؤية أدبية متفرّدة تعكس تنوع السياقات الثقافية والاجتماعية في إسبانيا الحديثة.

منذ أواخر القرن العشرين وحتى اليوم، برزت الكاتبات الإسبانيات كأصوات قوية تقدم رؤى عميقة حول قضايا الهوية، الجندر، الحرية، والعلاقات الإنسانية، مستخدمات القصة القصيرة كأداة فنية لاستكشاف التعقيدات النفسية والاجتماعية للنساء. هذه الأعمال، التي غالبًا ما تجمع بين الواقعية والرمزية، تتناول موضوعات مثل الصراعات الشخصية، التحرر من القيود الاجتماعية، والعلاقات العاطفية المعقدة، مع التركيز على تجارب النساء في سياقات ثقافية وتاريخية متغيرة.

تتميز القصص النسائية في هذا السياق بأسلوبها الغني والمتنوع، حيث تستخدم الكاتبات لغة دقيقة وصورًا بصرية قوية لتصوير التحديات اليومية والانتصارات الصغيرة للشخصيات النسائية. كما تتناول هذه القصص قضايا معاصرة مثل عدم المساواة، العنف الأسري، والبحث عن الذات، مع إبراز قوة المرأة في مواجهة هذه التحديات. من بين الكاتبات البارزات في هذا المجال أسماء مثل كارمن مارتن غايت، وألمودينا غرانديس، وكريستينا فرنانديز كوباس، اللواتي قدمن أعمالاً ساهمت في إعادة صياغة الرواية النسائية بأسلوب جريء ومبتكر.تتسم هذه القصص أيضًا بقدرتها على الجمع بين الخاص والعام، حيث تنسج الكاتبات تجارب شخصية مع قضايا اجتماعية أوسع، مما يجعلها مرآة للتغيرات الثقافية والسياسية في إسبانيا، خاصة بعد انتهاء الحقبة الفرنكوية وانفتاح المجتمع على قيم الحداثة. إن القصص النسائية في الأدب الإسباني الحديث ليست مجرد سرديات، بل هي شهادات حية على مرونة المرأة وقوتها، ومساحة للتعبير عن أصوات كانت مهمشة في السابق، مما يجعلها إضافة لا غنى عنها للأدب العالمي.

المترجمان سعيد بنعبد الواحد وفاطمة لحسيني في كتابهما "وصفة السعادة.. قصص نسائية من الأدب الإسباني" الصادر عن دار خطوط وظلال مختارات قصصية ضمت أربعة عشرة نصا لكاتبات إسبانيات يمثلن أجيالا مختلفة من الآدب الإسباني الحديث. من بينهن: كارمن مارتين غايتي، آنا ماريا ماتوني، إستر توسكتس، مارينا مايورال، لاورا فريشاس، خوليا أوتشوا، روسا مونتيرو.

ورغم أن معظم النصوص صدرت بعد الحرب الآهلية الإسبانية (1936 ـ 1939) وبعضها كتب في فترة ما بعد دخول إسبانيا عهد الديموقراطية الحديثة، فإنها ـ وفقا للمترجمان ـ تمثل كل الحساسيات اللغوية والجهوية لإسبانيا المتعددة لغويا وثقافيا؛ إذ نجد نصوصا لكاتبات من مدريد وكاتالونيا والاندلس وبلاد الباسك وغاليسيا وجهات أخرى.

وفي تقديمهما قالا "إذا كانت القصة أدبا، لا تمييز في ممارسته بين المرأة والرجل، فإن القصة الإسبانية المكتوبة بأقلام نسائية تختلف ولو قليلا عن القصة الذكورية في هذا البلد. فكاتبات هذه النصوص ن تقلدن الخطاب الذكوري، لا في لغته ولا في حكاياته ولا في تعابيره ورموزه. لكنهن لا تنتجن خطابا نسائيا خاصا، بل تبني كل واحدة منهن خطابها الشخصي من منظور نسائي، تختلف حدته من كاتبة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر. فكل كاتبة تخلق عوالمها، تبني شخصياتها، تصنع أسلوبها، وتنسج قصصها في إطار ما يسمح به الآدب ولغة القصة.

وأضافا أن "جل هؤلاء الكاتبات مارسن الآدب لآكثر من خمسين سنة، ويعتبر النقد الإسباني بعضهن مرجعيات لا غنى عنها في مجال الكاتبة القصصية الحديثة. إنهن نساء تعلمن كيف تنسج الحكاية القصصية وكيف تبنى القصة بحركة السارد المتأرجحة في هذه النصوص بين حميمية البوح وسلطة المعرفة. هكذا نجد في هذه الباقة القصصية نصوصا تقليدية البناء بضمير الغائب وسلطة السارد العالم بكل خبايا الآحداث وأسرار النفس البشرية، ونصوص أخرى تستعمل ضمير المتكلم أو ضمير المخاطب وتقنية الرسالة للتعبير عن الثقة والحاجة إلى الاعتراف. كما تختلف أيضا مواضيع هذه القصص وتتباين اهتمامات كاتباتها. فمنهن من يولين اهتماما بعالم الطفولة وأجواء ما بعد الحرب الآهلية، فيكون أبطالها أطفالا يكتشفون عوالم الكبار أو يسترجعون ذكريات فردوس البراءة المفقودة. ومنهن من ينقلن بكل أمانة روح المرحلة الانتقالية في إسبانيا بألوانها التحررية وما واكبها من أفكار جديدة على المجتمع. لكن هناك أيضا نصوص لا تعبر عن مواقف شخصية من الحياة والنماذج البشرية بنبرة فاضحة وكاشفة مستهزئة ومتهكمة، مثل تلك النصوص التي تصور الرجل الذكوري بعيون "نسائية"، أو تلك التي تصور المرأة من وجهة نظر سارد رجل، فتمنحنا هذه التقنية إمكانية سبر أغوار الوعي الذكوري وتمثلاته للمرأة جسدا وشخصية أنثوية مستقلة.

وختم المترجمان "صحيح أن كل هذه النصوص كتبت بأقلام نسائية، لكنها، قبل كل شيئ نصوص قوية تستمد قيمتها من أدبيتها وليس من جنس كاتباتها. لذا راعينا في اختيار هذه النصوص، أولا وقبل كل شيئ، توفرها على كل الجوانب الفنية للنوع القصصي وتمثيله أحسن تمثيل. أما أنها قصص نسائية فليس ذلك سوى أمر ثانوي؛ لآن الآدب في نهاية المطفاف لا يعترف سوى بمن يخلص لروحه ويعبر عن ماهيته الإنسانية".

نموذج

وصفة السعادة

للكاتبة الروائية مرثيدس أباد

على مدى عشرين سنة طويلة من الزواج، كانت "لويز" و"ألبير كرومدلي" أكثر سعادة من أي وقت مضى. كانا سعيدين فوق العادة. بل الأسعد من بين جميع الأزواج الذين يخالطانهما إلى درجة أنهما كانا وراء ظهور عادة جديدة وغريبة: فقد أصبح عرفا شائعًا عندما يعقد زوجان من الشباب قرانهما، أن يطالبا القس، خلال مراسيم العرس الديني، على سبيل التبرك، أن يتمنى لهما سعادة كبيرة ودائمة تضاهي تلك التي تغمر "لويز" و"ألبير كرومدلي".

كان الأمر يفسر بين أصدقائهم على أنه شيء مدهش، مذهل، ذو طبيعة شبه سحرية. يبدو لهم أمرًا غامضًا وغير معقول إيجادهما أكثر سعادة وابتسامًا وارتباطًا يومًا عن آخر. بل إن بعضهم ذهب إلى حد الشك في كون كل تلك السعادة مجرد تصنع. مدفوعين بحسدهم وسوء نيتهم تمنى آخرون في سرهم أن تتحطم تلك الزيجة بأكثر الطرق الممكنة إيلامًا لكلا الزوجين. أما أكثرهم سذاجة فكانوا يطلبون منهما بإلحاح وصراحة وصفة تلك السعادة الوثيقة العري التي استثمرت بشكل جيد جعل إيراداتها لا تكف عن اتخاذ منحنى تصاعدي. في مثل هذه الحالات، كانا يهزان كتفيهما مع ابتسامة تنم عن تواضع تام مرسومة على شفتي "لويز"، الملساء حتى الآن، وشفاه "ألبير" المغرية. ولم يكن أي منهما يضيف شرحًا ما إلى ذلك التفسير الصامت.

من المؤكد أنه لم تكن ثمة وصفات ولا مواربات. "لويز" و"ألبير" يملكان فضيلة التفاهم إلى حد الكمال، كقطعتين مصنوعتين بحيث تتطابقان دون مجهود. لم تكن فضائلهما فقط هي التي تتعايش بانسجام، بل يبدو أن عيوبهما كذلك تحتاج إلى بعضها بعضًا. ففي مستهل حياتهما الزوجية توفرت لكليهما فرص نظير لها لإظهار قدرتهما على التفهم الذي ن ينضب معينه. عندما طالبت "لويز"، امرأة غامضة بما فيه الكفاية، بأن تكون لها غرفة خاصة تكون هي الوحيدة التي تستطيع أن تدخل إليها، مكان تنسحب إليه متى شاءت أن الاختلاء بنفسها، لم يبد "ألبير" أي اعتراض على الأمر بل اعتبره رغبة أكثر من معقولة. كان يحترم بسخاء أسرار زوجته دون أن يتقصى أبدًا طبيعتها. كذلك "لويز"، كان لديها تصرف وجيه حينما انتبهت إلى الظلال التي بدأت تتكون في نظرة "ألبير" والتي كانت غشتها بهالة من الحزن، بعد مرور وقت يسير على زفافهما. عندما سألته زوجته عن أسباب قلقه، لم يبد "ألبير" أي تحفظ في الاعتراف لها ـ لم تكف لويز ولو للحظة على إظهار تفهمها التام- بعلاقته الغرامية بفتاة فرت من بيت أبيها في مانشستر ووصلت وحيدة إلى لندن من دون مال ولا عمل أو أي صديق تثق به. شرح "ألبير"، أنهما، في البداية، أحبا بعضهما البعض حتى الهيام، غير أن مشاعر "ألبير" تجاه الفتاة قد خبت الآن وهي لا تبدو مستعدة للقبول بأمرها.

كانت تثقل عليه بألف توسل وتوسل، وإن هو لم لمح تلميحا بسيطا لإمكانية هجرانها، كان ألم الفتاة الصريح يثنيه عن عزمها. كان "ألبير" شديد التأثر بآلام الغير، وكان ذلك الموقف يحزنه إلى درجة أنه لا يستطيع إبعاده عن باله. فقررت "لويز"، الخبيرة بطبيعة زوجها المرهفة، الاهتمام شخصيًا بتلك المشكلة التي تكدر صفو حياته. هي أكثر قوة وحزمًا وفعالية في بعض الأمور. أخبرت "ألبير" بنواياها؛ ومنذ تلك اللحظة صار معفيًا من أي مسؤولية في واقعة مقلقة كهذه. شكر "ألبير" تدخل زوجته الرباني بحب جدير بالذكر وهنأ نفسه لاقترانه بامرأة بكل هذه الكفاءات العملية.

سيتكرر حادث فتاة مانشستر المزعج مستقبلًا مع فتيات أخريات كثيرات، في غالبيتهن هاربات من بيوتهن، وحيدات ومتخلى عنهن. مشفقًا ـ حيث أن "ألبير كرومدلي" يخلط بين الشفقة والحب ـ كان زوج "لويز" يستسلم إلى ما لا حصر له من العلاقات الغرامية ـ التي يجهل عددها بالضبط ـ حيث يكون تدخل زوجته، في نهاية المطاف، ذا قيمة لا تقدر بثمن. عندما كان يمل عشيقاته، لم يكن على "ألبير" سوى إخبار زوجته بالأمر مبديًا حزنه. فكانت "لويز"، متفهمة وكتومة وفعالة دائمًا، تدعو الفتيات إلى بيتها لشرب الشاي والتحدث معهن بحميمية. لم يحضر قط أحد تلك المحادثات التي لم تكن أي فتاة تعود بعدها لتضايق "ألبير كرومدلي" بمشهد التوسلات والعويل المزعج. قوة الإقناع عند "لويز" لا تخطئ أبدًا. لا حاجة للقول أن "ألبير" كان يجهل الطريقة التي تتبعها "لويز"، غير أنها، مهما تكن، فهي تحظى بمواتقته المطلقة.

وحدها "لويز كرومدلي" كانت تعرف الثمن الذي تدفعه مقابل سعادة زوجها الثمينة، ثمن لم تعتبره يومًا مبالغًا فيه بأي شكل من الأشكال. وحدها "لويز كرومدلي" كانت تعلم ما تخبئه غرفتها الخاصة، الصامتة والمتواطئة. وحدها كانت تزور الجثث المحنطة بعناية، جثث تلك الفتيات التعيسات فيما مضى، واللائي وفرت لهن الراحة الأبدية بفضل كرمها اللامحدود ودور تحنيط الحيوانات بالمراسلة.

عندما كان أحد أصدقائهم الأكثر سذاجة يسأل "لويز" و"ألبير" عن الوصفة السرية لسعادتهما الأبدية، كان هذان الأخيران يهزان كتفيهما ويرسمان على شفتيهما ابتسامة تنم عن تفاهم تام.