الإعلام والحراك: لعبة المستتر والمكشوف

تعثر الإعلام الجزائري عن مواكبة حراك التغيير وظل يعيش في كنف تربية الدولة العميقة.

1

كل شيء في وسائل الإعلام الجزائرية مباح ومتاح منذ أن أخرج الحراك رأسه من قمقم الصمت والسكون إلى رحابة الشارع الممزق بين الغضب والفرح، بين التفاؤل والتشاؤم، بين "يروحو قاع" "يتنحاو قاع"، ينشد حرية تبدو لطيفة ولكنها مخيفة بلا حد أو حدود، ملتبسة ولابسة أقنعة أنيقة تجوب الدروب والحواري والأزقة تصرخ وتصدح عاليا بشعارات ستبقى علامة على أن الجزائر نص طويل وعريض سيطول شرحه وفهمه وفك عتباته وتوقع مصيره الذي يتوق للحظة أخرى فارقة مستلة من جحيم القنوط واليأس والهم المتراكم بثقله على روح وجسد الجزائر المسروقة المختطفة والمخطوفة المكبلة والمسلوبة والمنهكة، أين ستطرز وتؤسس لتاريخ جديد بوجوه جديدة لم يغطيها الغبار بملامح صافية غير متغضنة ومتجعدة ومستهلكة كالتي يقدمها هذا الإعلام المطل هو الآخر من الوهن والعسر والرداءة والفراغ والوحل ونكوص المخيلة المفعم بالسطحية والصورالمتذبذبة والكلمات المخملية.

2

مثلما يقاوم الحراك نفسه كل جمعة ويتحدى ويكابر ولا يلين يفعل الإعلام الأمر نفسه ليتجاوز إنغلاقه وإنسداده وتبعيته لقوى غامضة، يجذر توقيته في إيقاع الشارع، مرافقا وملتقطا وفاتحا ومحتضنا ومحاورا العديد من الأصوات والوجوه والرموز والمواقف، ويصور حتى الفذلكات والطرائف، ويعطي الميكرفون ويشغل الكاميرا ويفتح المسجلة إلى كل الطوائف والملل والآراء والمشاعر التي تتقدم المشهد، بل يناقش ويكتب وينشر ويفضح ويكشف ويغالط ويفتري ويعظم ويقزم ويبتز ويراهن ويقصي وينبذ ويتفه ويتطاول ويتوهم ويثير الصراع على الأهم واللامهم، ويخلط بين الباطل والحق، بين الكذب والصدق، يقلب الثابت ويثبت المتقلب، يُجهل المقدس ويقدس الجاهل، بل يذهب إلى الخصوصيات والحياة الحميمية المتخفية في الغرف والبيوت والأمكنة الخاصة ويعرضها بصفاقة وصلافة ربحا للسكوب والريادة والتفوق.

3

ولــّد الحراك في الجزائر حالة إعلامية متشظية عاصفة مندفعة مستخفة في الكثير من الأحيان بمنطق الوعي والمسؤولية والأخلاق، يرطن بكل صغيرة وكبيرة ويعلي من شأنها مهما كانت قيمتها في سوق الكلام والفعل، يترصد من بلاطوهاته ومواقعه وصحفه الحدث الأبرز على الإطلاق "خطبة العسكر" يحاول فك شفراتها وما تحت أسطرها وفواصلها ونقاطها وحروفها الغائبة والحاضرة، المضمر منها والمشار إليها والمستتر والواضح فيها، ويستبقي الحراك إلى حين فهو مشغول بالعصابة المتحركة         يسلط عليها "البروجكتور" فهي مفاجأة ونادرة وطارئة ومدهشة على عين وبصر المشاهد وفي سرود الإعلام، يصنع منها الديناميت والقنبلة الإعلامية ويحرص على الفوز بأحسن لقطة مقربة تكاد        تلامس خدود وشفاه وعيون تلك الوجوه الخرافية الهلامية التي صنعت لنفسها أو صُنع لها أسطورة      تغذت بعسل الهمس والإشارات الإلهية، وبثت كهرباء الرعب القاسي المخيف بظلاله لكل من تسول      له نفسه مجرد النطق بإسمها، سيطرت على الجزائر لعقود وهاهي مجردة من سطوتها ومكشوفة للعيان.. تجر أرجلها بتثاقل كأنها كانت من قبل لا تمشي على الأرض بل تطير بأجنحة هلامية.. تعيسة وحزينة ومنهكة ومريضة ومحبطة ومسحوبة من العرش المغري للسلطة إلى حيث سيبلعهم حضيض السجون.. مكشوفة في صور تتالى وتنبض باللقطة السريعة والبطيئة حسب زاوية نظر الكاميرا.. الكثير لا يصدق   ما يراه بالعين المجردة وما يسمعه وما تطالعه به الصحف والسوشيل ميديا وما يقال في "راديوهات التروتوار"، فقد تربى على ثقافة مؤسطرة مستكينة تتقدس بالسمع والطاعة العمياء وتستسلم ولا تسائل ولا تخوض في ما لا يعنيها، إلى جانب ذلك تكتب آراء وأعمدة وتحاليل ومعلومات في مقالات تتكاثر وتنشط بلغات وأساليب مصقولة بسكين حاد يوغل في البحث لفهم ما يحدث وما سيحدث، وعندما يعود إلى الحراك يعود إليه وقد تصاعد نبرة هذا الأخير وثكثف وجوده بعد أن كاد أن يحيا في عدم.

4

حيث يكون هناك حراك يكون له إعلامه.. يستقصي مناطق قوته وضعفه ونفوذه.. يسردها أو يصورها     أو يقارب مجموعاتها ومللها ونحلها التي تطورت وتشكلت وبرزت من عمق الجزائر.. يقرأها على هواه وأهوائه، وينخرط في نقلها كما هي، أو يضيف إليها الزينة والكثير من الــ Make Up في غرف ضيقة،         أو يقصها بمقص دقيق ورقيق، عن عمى أو عن بصيرة، بحسابات ضيقة أو مصلحية، عن خوف ما،         أو عن جرأة زائدة.. فكل شيء يعوم في الحراك من الشعارات الخفاقة، والصور التي تلوح، والمطالب التي تتزايد، والهتافات التي تصدح.. تنوع براق ومعقد في إعلام يجول في ميدان حراك يطول ويطول، يحاول أن يجترح لأذرعه الممتدة والمديدة لحظته، ويشتبك معه، يجالسه ويقترن به، وينتمي إلى متونه وهوامشه ومركزه، بعد أن كان لوقت قصير عقيم وواهم وخاضع.

5

ولكن هل روّض الحراك الإعلام وجعل منه أداته الحقيقية في إنتهاك المستحيل وتكسير الطابوهات وتحطيم آلهة الخوف والرعب وتحدي الممنوع والمسموح وتخطي الخطوط الحمراء؟ أم أن العكس      هو الذي حصل حيث جعل الإعلام بمختلف وسائله وأصنافه من الحراك مسرحا واسعا للحضور والتموقع وزيادة نسب المشاهدة والرفع من قيمته في "البزار" الكبير الذي ينشطر فيه ولم يعد له نفس المفهوم والمعنى والرسالة والضمير، حيث يكفي لأي كان أن يبني لنفسه وسيط إفتراضي كي يقول وينشر ويعرض، ويغدو مرجعا ومصدرا يعول عليه للخبر والمعلومة حتى لو أصبح يدا للأيادي الخفية الذكية سواء أكانت داخلية أو خارجية دينية أوعرقية، جهوية أو سياسية، مافيوية أو مالية، والتي تلعب بدهاء ومكر للظفر بما تريده ولا تريده، وتمتد ما شاء لها أن تمتد خاصة وأن المآلات البارعة للحراك ولو بدت في الظاهر معروفة بالإسم والمكان والزمان والشخوص والمطالب، إلا أن الآتي المبطن سيكون أكثر إستعصاء، ومبني للمجهول، ومتعثر، وممهور بالصعب والتأزم، ومرتهن بعيون أخرى مواربة تراقب وترصد وتنقب عن الخلل لتــُـفـعل فيه الفوضى والخراب والخلافات والإنشقاقات وتهندس الراهن والمستقبل ـ إن كان لنا حقا مستقبل وسط جغرافيات وأمم لم تعد عظيمة بشعبها بل بما تتقدم به من علوم وتطور وخوارق تخترق الفضاء والكون والخلية والعقل والإنسان ـ، حسب نزاوتها وإتجاهات مصالحها.

6

سينتهي الحراك حتما إلى مستقر ما ويكف عن الدوران في حلقات المكابرة والرفض والعناد و"تخشونية الراس" (الرأس الخشن)، وعلى أمل أن يخرج من حالات العطالة والعطب سترافقه آلة الإعلام تسوق للحلول والمخارج الكثيرة التي تستمر في السيران والسيلان من كل حدب وصوب كل ذلك كي لا يرتكس ويصاب بالنكوص، ومهما كانت لعبة الخيارات المتناغمة بين الحراك والإعلام مستترة ومكشوفة بينهما فستكون لذلك حيويته وقوته حيث لا حيوية وقوة إلا للذي يتحرى الصدق والأمانة والإخلاص فيما يراهن عليه كليهما ويكنه للوطن.