المناضلة لويزة حنون: النبية المسلّحة

ما يضر الرئيس تبون في ظل "ندرة" النساء القويات اللواتي يتجولن الآن في الوزارات ومواقع المسؤوليات، لو جلس مع السيدة لويزة حنون، واستمع إليها وهي تحاجج وتمنطق وتشرح الشأن العام للبلاد، لو تجرد من الأحكام المسبقة عنها، وسألها بأريحية عن رأيها بصراحة، عنه وعن عهدته الحالية وعن عهدته القادمة المفترضة.

في كافة أطوار محاكمة الوزيرة السابقة للثقافة خليدة تومي، ظلت المناضلة لويزة حنون حاضرة ومنتبهة لكل ما يدور في قاعة المحكمة. غابت عن بعضها لإرتباطات وظروف، كان لافتا هذا الوفاء الصرف لصديقة مقربة تعرفها منذ سنوات، تعرفتا على بعضهما في أحلك مراحل تاريخ الجزائر، حيث عصف الإرهاب بكل شيء ودمر وأهلك وقطف الرؤوس ولم يسلم منه أحد. كانتا أيقونتين في ليل الظلام والقهر والقتل، اصطفتا جنبا إلى جنبا في وجه الموت القادم من كل مكان، أشرعتا صدريهما للرياح المزمجرة بالغدر والأهوال، لم تباليا بالخطر الداهم القنّاص حيث لا أحد يدري من أين يأتي أو في أي مكان يقبع، كانتا دوما على رأس قوائم الإرهاب، بل رفعتا رايات التحدي عاليا حيث تقهقر الكثير من البشر - إلا من رحم ربي - خوفا على حياة لم تعد ذا قيمة أو تساوي شيئا أمام عصف الرصاص ولمعان السكين والقنبلة الغدارة.

إنها لويزة حنون الجدلية الصعبة، المتجسدة فيها، الجوالة في شعاب ومرجان الحروب والمواجهات الراديكالية مع الكل.. نظام، ساسة، جيش، الأولغارشية النافذة، الطبقة الغنية، الإسلاميون وغيرهم. نذرت نفسها ووقتها منذ يفاعتها واستيقاظ غريزتها وعقلها وروحها على أفكار الصدامية القالعة للركون والقناعات والمسلمات، نذرتها وألقتها في الهوامش على البشر والخلق الكادحين على الأرض المكتوين بشمس المعاناة والفقر، تدافع وتنافح عنهم بالصدق و"العياط" في المحافل والتجمعات والبيانات واللقاءات الرسمية والعلنية والسرية، دفعت من أجل ذلك الكثير. من السجن إلى التضيق، إلى نعتها بشتى أنواع صفات الخروج على العرف والتقاليد والقيم التي تخطر على عقل الدهماء وحتى من النخب الذين لا يرون فيها سوى سفسطائية مملة وخشنة.

إلى هنا لم يرتبط إسمها بالنضال على النصال فقط، ولا إلى آرائها الصريحة، ولا إلى علاقاتها القوية والمتينة التي نسجتها مع الرجل القوي في منظومة الحكم والعسكر سابقا الفريق محمد دين الشهير بـ "توفيق" قائد جهاز المخابرات، بل تعدت إلى ما هو أخطر من ذلك، حين أعطت رأيها في الفريق قايد صالح بعد أن ألتقته لمدة ساعات لتبادل وجهات النظر حول الوضع العام للبلاد بأمر من الرئيس الراحل بوتفليقة. كانت جلسة عاصفة خرجت منها مثقلة وحائرة وقلقة بشأن رجل قليل الفهم، غير عميق، ولا يملك عقلا يقظا، صعد بقدرة عجيبة في سلم النفوذ حتى أعطي له كاملا فيما بعد. لم تنبهر أو تقطف من اللقاء ما يساعدها على فك ما أستعصى من الأمور منه، بل أسرت للأقربين منها بالمعروف والصداقة وخاصة عرّابها توفيق كما تحب الأقاويل نعته، ولوحت في المجالس الخاصة، أن ليس في رأسه سوى "حبة حمص"، وهو ما جرّها إلى السجن حالما أحكم القايد صالح قبضته على زمام الحكم، ولم يغفر لها إطلاقا هذا الوصف الذي أنتشر كهشيم النار في سرايا الدولة وبين رجالاتها، وأصبح بمثابة نكتة قاسية مشينة بقيت عالقة في رأس القايد صالح، ولم يفوت الجنرال خالد نزار الفرصة حين أصدر من منفاه في تلك الفترة من تاريخ الجزائر المضطرب، بيانا داعيا الجيش للتمرد على القايد صالح، حيث مرر العبارة ومددها في كلمته الشهيرة.

لا أحد بإمكانه تخمين ما الذي كانت تفكر فيه لويزة حنون أثناء نقل التلفزيون الرسمي مجريات دخولها وحيدة وهي في طريقها إلى المحكمة العسكرية.. كانت كعادتها هادئة وهي تمشي، تتمايل قليلا ربما من ثقل السنين والكبر، أو من قلق التفكير فيما هي مقبلة عليه، ظهرت متقشفة في لباسها، هي تفضله صورة طبق الأصل عن أفكارها، ومنسجم مع ما تدعو إليه من صرامة وتواضع شكلا ومضمونا، وكذلك يجب أن يكون عليه هندامها، لذلك لم ترى كثيرا بألبسة فاخرة أو مبهرجة زائدة عن الحد، حتى أنها لا تضع كثيرا الميك أب والحلي والإكسسوارات النسوية.

في ذلك الممشى الطويل الخالي من الحركة والصخب الذي صورت فيه لويزة حنون، بدت الصور متذبذبة وكأن الذي ألتقطها ألتقطها خفية عن الأعين أو أظهرها كذلك لزيادة نسبة السوسبانس والإثارة، وكلنا نعرف أن التصوير في الأماكن العسكرية ممنوع بقوة القانون أو يتم التصوير بعد تصريح أو إذن رسمي. غير أن التقاط الصور بتلك الطريقة عكس عند الكثير من الملاحظين، القوة والخوف، التردد والإقدام، الشجاعة والجبن، قلق وعدم إطمئنان ترتب عن التهور والإندفاع الذي أنتهجه القايد صالح في معالجة الأحداث والوقائع المحتدمة التي مرت بها الجزائر، وقد حدث نفس الشيء مع توفيق وطرطاق حيث أقتيدا أيضا بنفس الطريقة وصورا كذلك.

كانت تحمل بيدها اليمنى دفترا صغيرا بلون يميل إلى البني الغامق، قد يكون حاملا أرقام هواتف شخصيات تقبع في الظلال، أكثر نفوذا وقوة من توفيق الذي خارت قواه بسبب الضربات التي كاله له القايد صالح وضعفت، أو أنه كان فقط مجرد "كالبان" مكتوب عليه ملاحظات ستقولها أثناء مثولها أمام قاضي التحقيق العسكري، وينتهي الأمر وتعود إلى بيتها. غير أن الأمور عاكست توقعاتها فمباشرة أودعت السجن العسكري بتهمة الخيانة العظمى على خلفية لقاءها مع السعيد وتوفيق لأخذ رأيها في الوضع المحتقن آنذاك، وهو الأمر الذي لم تنكره إطلاقا في كل تصريحاتها.

لا شك أن مسار لويزة حنون لم يكن مفروشا بالورد، حين تنظر إليه اليوم وتتأمله، في بالنا أنها لم تهدأ يوما أو لم تعرف الراحة والإستجمام أو دقائق صفاء مع روحها، لا نعرف أين أخفقت ونجحت. لم تكن حياتها سوى معارك صاخبة متقلبة في أتون التحولات والمشاكل التي تتداعى كل لحظة. قد نقتنع مع كل الزخم الذي كانت تتمتع به أنها بقيت من القلائل اللواتي يتمتعن بمؤهلات قيادية جادة حتى أن الرئيس بوتفليقة حين سأل من يراه مرشح لخلافته، قال لويزة حنون. فماذا لو تحققت أمنيته وشقت الأقدار والحظوظ والمكاتيب وأصحاب الحق الإلهي كما يصفهم أحدهم، شقوا بعصا سحرية الطريق لها وكانت رئيسة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.

ساعدت خميرة الصلابة التي عجنتها طوال سنوات عرفت فيهم المر والحلو، الهبوط والسقوط، وأكسبتها صفات القوة والقيادة والكاريزما وحس الملك وحب السيطرة المنغرسة فيها، ساعدتها في احتواء كل الإنشقاقات التي حاول بعض الذكور من حزبها إفتعالها لإقتلاعها، كانت تعرف خبايا اللعب في السياسة والمصالح فهي متمرسة وصبورة وطليقة اللسان، وممكن أن تكون سليطة اللسان في الإجتماعات المغلقة داخل حزبها، ولذلك باءت جهودهم في زحزحتها إلى فشل ذريع أمام إمرأة قهارة وقاهرة.

ما يضر الرئيس تبون في ظل "ندرة" النساء القويات اللواتي يتجولن الآن في الوزارات ومواقع المسؤوليات، لو جلس مع السيدة لويزة حنون، واستمع إليها وهي تحاجج وتمنطق وتشرح الشأن العام للبلاد، لو تجرد من الأحكام المسبقة عنها، وسألها بأريحية عن رأيها بصراحة، عنه وعن عهدته الحالية وعن عهدته القادمة المفترضة. عن وزرائه وطاقم مستشاريه عن مآلات أوضاع العمال والسوق والقدرة الشرائية للمواطن في الجزائر وهي العارفة بها أفضل من أي وزير أو مسؤول.. ماذا لو تخلت هي عن حدتها قليلا وسخطها وطاقتها السلبية المثبوثة في بيانات حزبها التي أصبحت مع مر الأيام قليلة وشحيحة، وقالت أن هناك تحسينات في بعض المجالات ومجهودات كبرى تبذل، ماذا لو كفت "شوية" عن لغة التحاليل الجوفاء الخشنة والأساليب "الأركايك" في تقيم الوضع العام؟

لقد تم عزل الكثير من الفواعل في الجزائر بسبب وشاية وخلفيات غبية ورعناء وحمقاء، وتعويضهم بوجوه عفى عنها الزمن ومثيرة للشفقة واليأس والهموم والإحباط، لن تكون لويزة حنون لا أولهم ولا آخرهم في قائمة من تمّ الإستغناء عنهم سلفا. قد نختلف معها لأسباب كثيرة ومتشعبة عن شخصيتها وعلاقاتها ورؤيتها ومواقفها، ولا يمكن برأي أن نرجع الإخفاقات إلى أسبابها الحقيقة والإنطلاق من جديد دون أن نصغي بنباهة وعمق وصدق إلى ذوي الخبرات والنوايا الطيبة، وليست لويزة حنون ببعيدة عنهم إنها قريبة منهم على بعد فرسخين من قصر المرادية.