الجزائر ما بعد البريكس: المكاشفة والمصارحة

على الرئيس تبون أن ينزل قليلا من أبراج قصره ويرفع الغطاء عن الخديعة التي أعطيت له بشأن الكثير مما يجري في الدولة وما حولها.

إذا صدقنا بعض المعلومات الخاصة عن إحاطات دقيقة تكون المصالح العليا للأمن قد رفعتها إلى الرئيس عبدالمجيد تبون، عن إستحالة دخولنا إلى منظمة البريكس لأسباب كثيرة، ويجهل هل تمّ الأخذ بها أو وضعت في الثلاجة؟ وما يقال في أوساط ضيقة عن معرفة القيادة العليا للدولة عن تراجع الوعود التي أعطيت للجزائر كي تكون حتى عضو مراقب، ضف إلى ذلك خلو الوسائط الرسمية للرئاسة من الإشارة إلى ذهاب وزير المالية لعزيز فايد، لجنوب إفريقيا لحضور القمة. وجاء حديث هذا الأخير عن مشاركته عرضا أثناء ندوة صحفية عادية للتحدث عن شؤون قطاعه، وقرأنا بدقة خلفيات الاستقبال الذي جرى بمقر وزارة الخارجية لسفراء دول البريكس قد أبلغوا وزير الخارجية أحمد عطاف بعدم التهليل والفرح كثيرا بالفوز بعضوية المنظمة، لأسباب تبقى غامضة ومعقدة لن تعرف أبدا. وعليه لم يسافر الرئيس تبون إلى جنوب إفريقيا رغم أن مصالح الرئاسة جهزت كل لوازم الرحلة وحتى الخطاب الذي كان سيلقيه هناك.

هذا التهافت الرسمي والحشد الإعلامي وزخم حضور الخبراء والمحللين على منصة الدعاية والبروباغوندا الذي سبق إجتماع أعضاء البريكس في جنوب إفريقيا، وقناعة الجميع - إلا من رحم ربي - بأن أمر العضوية محسوم سلفا، ومرتب، لا نقاش فيه ولا جدال، ما هو في الحقيقة إلا وجه معاكس تماما للحقائق على الأرض. وهو ما يدفع بملاحظتين إثنتين لا ثالثة لهما: إما أن هناك فعلا أيادٍ تتلاعب بالوضع لأغراض مشبوهة وخطيرة، وتعطي قيادة البلاد تقارير مغلوطة وواهية، تزين لها قوتنا وجبروتنا وعظمتنا؛ أو أن الجهل والرداءة وسوء التسيير وعطابته وقصور النظر والتحليل والإستشراف يعشعش في قصر المرادية وتسكنه.

لقد سبق وكتبنا في آخر مقال لنا، وكتب غيري بحسن نية وصدق خالصين لوجه الله والوطن، أن لا مفر للرئيس عبدالمجيد تبون كي يسير بوثوقية نحو النجاحات الكبرى وكسبها، سوى توسيع نطاق محيطه المنغلق، أن يُقدم على فتح الأبواب والنوافذ ويشرعها على الإمكانيات المكبوتة، وأن يصغي وينتبه إلى أصوات مغايرة تنبض بالتنوع والإختلاف غير أنها تختنق من جراء الحصار الغبي الأحمق المضروب عليها من طرف أشباح وزبانية، وأن ينظرَ إلى ما يحدث في الجزائر أبعد من مجرد ثورة مضادة كما تسمى تقودها عناصر فاسدة ومضللة ومنتفخة بالأوهام و"الخرطي" تعلق عليها - أي الثورة المضادة - شماعة الإخفاقات والأخطاء والزلات، وأن "يفشفش" فقاعة المؤامرات التي لم تعد تقنع أحد لأننا لسنا أنبياء معصومين وحدنا في العالم نعاني ونقاوم الصدّ والهجر والنبذ والكفر والنكران من عائلتنا وأصدقائنا وقومنا وخصومنا وأعدائنا، وأن يقتنع أن ما نقوم به ليس هو الفريد من نوعه المبهر والرائع والاستثنائي والحقيقي والنادر، لذلك يحسدنا العالم، ويغار منا، ويحاربنا ويضع في طرقنا الحواجز والمطبات والأشواك والحرائق والزلازل والبراكين، وأن يقف ندا حقيقيا أمام قادة الدول والأمم ويقول هذه هي الجزائر محض دولة محبة للسلام والحوار والتعايش والتسامح والورود والعطور والإختلاف الجميل والحوار النافع، لا جزائر الأقنعة الزائفة المفبركة المغشوشة، المصنوعة من شمع ذاو في ليل بارد، أو مرفوعة على تلة رمل تتهاوى بمجرد أن يهب الهواء بله الرياح والأعاصير.

لن تحمل البريكس أهوال القيامة، ولن تكون نهاية أحلام الجزائر كما تروج له الوسائط والقنوات عبر محلليها أو خبرائها، فهي مجرد بداية قد تخوّض تبون ومحيطه، وتجعلهم يتعاملون مع ما حدث على أنه انتكاسة وعثرة تقوّم الإعوجاج الحاصل في مفاصل النظام، وأن يدركوا أن طرق معالجة الكثير من المشاكل والأحداث الداخلية والخارجية ضرها أكثر من نفعها، ولم تؤتِ أكلها إطلاقا بل زادت الأمور تعقيدا وتيهانا، وأن المسالك التي تتخذ في إدارة شؤون الدولة والعباد تنقصها الحكمة والخيال وسعة البال ورحابة الصدر، فإذا كانت ناجحة في مواقع فهي غير صالحة في مواقع أخرى.

هذه فرصة - وكم أضعنا من فرص - لحكامنا ساسة وعسكر، لتقييم عميق ومسح شامل لذواتهم وتجديدها عبر المصارحة الحقيقية - وهذا ليس عيبا أو انتقاصا لهم - بأنهم أخفقوا وأخطأوا في الأخذ بأسباب الحضور الفعلي داخل المجتمع الكسير الباحث عن حلول واقعية لا يراها متجسدة في كثرة الكلام والخطب الرنانة والرسائل المبطنة المتخفية وراء الجدار وصحف لا يقرأها أحد حتى أصحابها، وأذرع هلامية، وأبواق نابحة تواجه في مكانهم جملة تحديات نشطة هنا وخارج حدودنا، وأن رمية النرد التي يلقونها على طاولة قوى ثبت بالقوة والفعل والعيان وبـ"الرب العالي"، أن كل خطواتها سطحية وفارغة، وغارقة في البهتان وتكرار مقزز، وتدوير مستهلك، وهي في أفضل الأحوال قوى، إن كانت داخلية أو خارجية، تغيّرك وتستبدل وجوهها "الصحيحة" في أي لحظة عندما تميل الكفة نحو الأفضل منك، والأنفع في إقتناص الفرص، أو ذلك الذي "يلعب على الصح" سرا وجهرا، وفي الكواليس ليل نهار، وهنا قد لا نعدم أن تكون الصين أو الروس قد وقفوا ضد ضمّ الجزائر إلى البريكس مهما تمّ التغني بجواهر الشراكات الإستراتيجية بيننا وبينهم.

صحيح أن الجزائر وازنة كدولة وجيش محترف ومصالح أمنية أخرى قوية ضاربة بكل ما تعنيه الكلمة من معاني ورموز وإشارات لمن يريد ان يستبطن أو يفهم، ولا تخطئها العين إلا من أصيب بالعمى، غير أنها تحير العالم بعدم واقعيتها في التعاطي مع التغيرات والانفتاح ووضع الأمور في نصابها الصحيح. للأسف ورثت هذا عبر مراحل تاريخية معقدة رأى رجالها أنهم يفعلون الصواب في ذلك، غير أن هذا أثر عميقا في بنيتها فبقي النظر إلى الأحداث رهين البيروقراطية والتردد والتريث والهدوء وعدم الزج بكل ثقلها في معمان الغليان والتحولات العالمية التي تتغذى من السرعة القصوى للعصرنة والتحديث والتأقلم الخاطف المتحول وليس أفضل مثال على ذلك التكلس الذي يربض على صدر البنوك وعلى العديد من القطاعات.

وحتى لا يتحول عدم دخولنا البريكس إلى بورصة تفشل فيها كل الرهانات القائمة والقادمة من أجل التطور والتغير المنشود للأحسن، المعلق في الهواء يترنح يمينا وشمالا، على الرئيس تبون أن ينظف العتبات مما علق بها من غبار وطحالب وخشاش ودخان. عليه أن ينزل قليلا من أبراج قصره ويرفع الغطاء عن الخديعة التي أعطيت له بشأن الكثير مما يجري في الدولة وما حولها. هذا إذا أراد فعلا أن يقتدي بدروس التاريخ وصروفه الوعرة التي لا ترحم الزيف والنفاق والكذب، ولا تستكين للصمت الخاذل لكل شيء.