عن السفيرة الأميركية بالجزائر إليزابيث مور أوبين: الجوسسة الناعمة

الدورات التدريبية للمعنيين طريقة من طرق الاختراق.

بهتت منذ فترة، إليزابيث مور أوبين سفيرة الولايات المتحدة بالجزائر، ربما تجاوزتها الأحداث المتسارعة التي حدثت مؤخرا وأخلطت أوراق متابعته للشأن العام، لم نعد نرى لحضورها أثر على الرمل، وهي التي جعلت الكثير من المواقع الجزائرية والصحف وحتى وسائل التواصل الإجتماعي تتابع بإهتمام كبير خرجاتها المثيرة والمتنوعة والمتكررة منذ تعينها سفيرة لبلادها سنة 2021، زارت أكثر من 22 ولاية كما جاء في إحدى التقارير.. أندمجت في هذه السفريات مع مكونات كل منطقة حيث تذوقت مأكولاتها وأرتدت ملبسها وتمتعت بمشربها وفتنت بجمال كل واحدة منها.. حتى يخيل للمتتبع أنها ستنتهي جزائرية خالصة منا وعلينا وفينا، وأنتشر فريقها أيضا في كل مكان.. الأحياء والشوارع والمطاعم والمقاهي والولايات، في رحلة إستكشاف وسياحة وإستخبار، والتقرب من عمق المجتمع الجزائري أكثر وأكثر لفهم التحولات والإشكاليات والمشاكل، ولجس النبض والإلمام برغبات وطموحات ساكني هذه الأرض العائمة على كنوز ومقدرات هائلة مغروسة في الإنسان والطيبعة.

برزت بقوة في عز التجاذبات والتراشقات التي حدثت بين الجزائريين والمغاربة حول فن "الزليج" وإستماتة كل طرف في ضمه إلى تراثه. أرتدت السفيرة "تريكو" مشكل بـ "الزليج"، ضجت على إثرها المواقع والشبكات الجزائرية والأقلام، وأحتفلوا بالصورة التي نشرتها في صفحة السفارة، وتم تأويل الأمر بإنحياز أقوى دولة في العالم إلى صف الجزائريين في معركة التراث.

نزلت إليزابيث التي تعرف الجزائر جيدا بحكم توليها منصب نائب رئيس البعثة في سفارة الولايات المتحدة في الجزائرمن 2011 إلى 2014، قبل أن تعين بشكل رسمي سفيرة لبلادها، إلى ما أعتقدته قلب المجتمع الجزائري أي في محيطه البسيط اليومي والشأن العام.. شدّ هذا الحضور اللافت النظر وخلق حالة من التعجب لدى الكثير من رواد الأخبار، بل أفردت لها مساحات في بعض الجرائد والمواقع الجزائرية لتتبع ما تقوم به، وأنبهروا بتواضعها الكبير حتى وهي تشتري كبش العيد وتتعاطى مع الموال حول السعر والثمن.

تحولت صفحات التواصل الإجتماعي للسفارة إلى نقطة جذب ومرتكز تفاعلي ودعائي للمهمات الواسعة التي تقع على عاتقها، فعكس الكثير من السفارات الأجنبية المتواجدة في الجزائر لربما كانت سفارة الولايات المتحدة هي أكثرهم إستعمالا لهذه الوسائل، وبالتالي أكثرهم متابعة من طرف الجزائريين، فهي تقدم - أي السفارة - شروحات بسيطة ووافية عما تقوم به باللغتين العربية والإنجليزية، حتى أنها تعتمد على فيديوهات منشورة هناك، وهذا ليس إعتباطا كما يظن البعض، بل مبني على خطط إستراتيجية دقيقة وضعت وصيغت في مخابر أميركية درست المكون الجزائري بشكل علمي ودقيق وعميق وحتى مستهدف.

فجل المنشورات مختارة بعناية فائقة سهلة المنال غير متكلفة، فعندما يتعلق الأمر بالبحث عن عمال   أو إطارات مؤهلين للوظائف المعروضة في السفارة يلجأون إلى أسلوب مرح يرفق عادة بفيديو لأحد موظفي أو موظفات السفارة لكي تصل المعلومة إلى المتلقي بخفة دون تعقيدات في الكلام وفي التعابير، وهي طريقة رائدة عند الكثير من الشركات العالمية المتخصصة التي لا تكتفي بالنص فقط بل تضيف إليه براعة الصورة والحركة الجذابة والمغرية في إقتناص الأهداف، ويندر أن تجد في الصور المنشورة هناك وجوه عابسة  أو قانطة أو ميؤوس منها أو "مشنفة"، ابتسامة تليها إبتسامة من السفيرة إلى زوجها إلى طواقم العمل.

يحيلنا هذا إلى فهم الآليات التي تعمل بها السفارة الأميركية والمنطق الذي يمزج بين السرعة والفعالية والمصالح وما يترتب عنه من نتائج مثمرة من هذا التركيب الخاص، لأن إدراك الضرورات القصوى لمتطلبات أي بلد مثلما تفهمه الولايات المتحدة الأميركية يجب أن تكون الأولوية فيه لما تم رصده ورسمه من معلومات كثيفة جمعت خلال سنوات طويلة من طرف معاونيها وعملاءها ومخابرها ومعاهدها وخبراءها، لتغربل وتمحص وتغدو قاعدة خلفية لأية مفاوضات أو نقاشات للوصول إلى أفضل الأهداف المرسومة بدقة سواء أكانت سياسية، عسكرية، أو إقتصادية أو ثقافية أو تربوية و..غيرها من المجالات، بدون أدنى صعوبة وعرقلة أو شبهة ومنحها تأشيرة الإهتمام والإحتواء والتمويل والدعم.

فما الذي فهمته السفيرة إليزابيث مور أوبين من الجزائر؟

الجزائر بلد معقد ومركب سواء في مجتمعه أو في نظامه.. توليفة مخلوطة بالصرامة والصلابة والسلاسة والغموض والوضوح وغيرها من الصفات.. حتى أن العديد من الملاحظين لا يعرفون "ساسو من راسو" (أي أساسه من رأسه)، كما يقال بالعامية. خيوطه مشتبكة بعضها ببعض، ويمكن أن تنحل بمجرد أن تتغير قواعد القوى اللاعبة فيه، تتوج عادة بالكثير من الإبهام والغموض يغطي على ما يحدث في سراياه، دون الوصول إلى الإحاطة الشافية الكافية بما يسمح بتكوين رأي أو موقف مستقيم عنه، حتى أن الكثير من الدبلوماسيين الغربيين يسرون في جلسات خاصة بصعوبة الإلمام بتفاصيل ما يتم الإعداد له من طرف رجال الحكم في الجزائر.

ربما تكون السفيرة إليزابيث ضمن هؤلاء الذين يضربون كف بكف عندما تفاجئهم الأوضاع في الجزائر، السياسية والأمنية و.. غيرها، نذكر هنا اللقاء العاجل الذي جمعها بوزير العدل حافظ الأختام عبدالرشيد طبي غداة سجن الصحفي القاضي إحسان، حيث قرأه بعض الملاحظين على أنه لقاء غامض وسريع، وإشكالي المبنى والمعنى وقعت فيه، فما بدا في عيون السفيرة أنه معاكس تماما للتقارير التي وصلتها، مع أن القضية التي سجن على إثرها الصحفي معروفة وقانونية إلا أن أبعادها تخطت الحدود، وأخدت مساحة كبيرة وواسعة من أجله، بلغت حد أعتبر معه تدخلا سافرا في شأن داخلي مرتبط بتجاوزات قانونية وضعت العدالة يده عليها، لا يعرف ما جرى في اللقاء إلا أن التوقعات بشأنه حسب نفس الملاحظين هو أن يكون وزير العدل شرح لها أن القضية قضية خروقات والدولة منسجمة تماما مع قرار العدالة لا غير، بالإضافة إلى ذلك لقاءاتها مع الفريق أول سعيد شنقريحة كلما صوب هذا الأخير بوصلته نحو دول أخرى صديقة وهي في عيون الولايات المتحدة الأميركية معادية.

لكي تريح نفسها من عناء التفكير والتنقيب الصعب المكلف، تستهدف جلّ المنشورات في صفحة السفارة  فئة الشباب والنخب والمتعلمين من الجنسين ومن مناطق عميقة في الجزائر كتبسة والأغواط، فجولة عبرها - أي الصفحة - تجعلك تكتشف أن بعضهم زاروا الولايات المتحدة في دورات وبرامج تدريبية تطويرية متنوعة وثرية، ومن لم يسعفهم الحظ في نيل هذه الحظوة والرعاية الفاخرة في أميركا، يلتفت إليهم هنا داخل السفارة أو في ملحقاتها، أو تنظم لهم فسحة لقاءات وورش في مخيمات أو مدارس عامة وخاصة وجامعات وطنية أو في الفنادق مثلما حدث في إحدى الدورات.

جاء في إحدى منشورات السفارة: "شاركت السفيرة أوبن في افتتاح النسخة الثالثة من مشروع ’لينك‘ بالشراكة مع ’بارليتز الجزائر‘. ستساعد دورة اللغة الإنجليزية هذه 480 مسؤولًا حكوميًا يمثلون 20 وزارة لتحسين مهاراتهم في اللغة الإنجليزية. ذكّرت السفيرة أوبن الحضور بأن الترويج للغة الإنجليزية من أهم أولويات سفارة الولايات المتحدة في الجزائر".

لا يغيب عن النظر هذا العدد الهائل من مسؤولين حكوميين ممن حضروا هذا التدريب ممثلين لأكثر من 20 وزارة، سيدخل في الإعتبار أن هذا من المهام العادية لأية سفارة أجنبية في ربط آواصر التعاون والشراكة والتنسيق في ميادين كثيرة مع البلد المضيف.

يذكر جورج تينت الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات الأميركية في مذكراتها "في قلب العاصفة: السنوات التي قضيتها في السي آي ايه"، أن حجر الزاوية في عمل الإستخبارات هو الأفراد، وفي "إستقدام أفضل المواهب"، و"أنهم كانوا بأمس الحاجة إلى العلماء والمهندسين وإختصاصي تكنولوجيا المعلومات والأشخاص ذوي المهارات اللغوية الفريدة".. هل يمكن أن نتوقع أن هذا ما تقوم به السفارة من خلال هذه التدريبات، ويكون كل هذا إمتداد محكم لما قاله جورج تينت.. صحيح أن بين زمنه وهذا الزمن فاصل طويل حدثت فيه أمور كبيرة وكثيرة، ليبقى السؤال يحوم عن الحدود الفاصلة بين الأهداف التعليمية البحتة وبين الإستثمار في عناصر لافتة يمكنها أن تكون في المستقبل قاعدة خلفية لتدفق المعلومات مهما كانت قيمته لدى مخابر ومعاهد أميركية وحتى لدى جهاز الإستخبارات الأميركية الذي يبقى أهم لاعب يستقطب الكفاءات العالية والإستثنائية في أي بلد حيث يجب أن يكونوا كما قال تينت.