احتياجات في طريق العهدة الثانية للرئيس عبدالمجيد تبون

في ظن بطانة الرئيس الجزائري أن أية كتابة أو نقد ولو كانت النوايا صافية كالعسل، هو وشوشة مؤامرات، وخطط وإستراتيجيات معدة سلفا لتشويه صورة الرئيس.

على بعد سنة وأكثر من إنقضاء عهدة الرئيس عبدالمجيد تبون وتسخين الجو البارد لحد الآن للعهدة الثانية، يجتهد محيطه في البحث عن أي طريقة لرسم كاريزما استثنائية له مفعمة بالإنجازات والغزوات المثمرة.. رسمها في وسط كومة من واقع جزائري متناقض ومتنافر، محير، متبدل ومتغير، يعترف بشوشع ومحرز والشاب "بلو" كي لا نذكر غير هؤلاء، أكثر مما يعترف بالرؤساء والزعماء ولا بشيوخ القبائل ولا الأمراء أو السادة ولا حتى بالأقطاب الدينية أكانوا صلاحا أو أئمة، كهنة أو مشعوذين.

في أزمنة غابرة كان اللجوء إلى هؤلاء متشابك ومتداخل باللحظات التاريخية المخيفة التي تهدد الكيانات أو الهويات أو المعتقدات والقيم، فيتم الإرتماء في أحضان أي طوطم أو رمز للإحتماء به من الأهوال والضياع والهلع، ومجاهيل المصير، ولم يكن شكل وصفة ولون الرمز مهم بالنسبة للبشر أكانوا من الجن والبن، شياطين، مردة، ملائكة، غيلان، نبات، بقر، شجر أو حجر، ولا يهم أيضا من أين يأتي أو يبعث من فوق السماوات السبع أو من تحت الأراضين الغائرة، من الديانات من الخرافات الأساطير أو من اللاشيء أو العدم.

في رأس هذا المحيط الرئاسي هو أمر سهل ويسير، فبمجرد إظهار أي شيء متعلق بالرئيس تبون قضي الأمر الذي هم فيه محتارين، حتى ولو كانت برقية تعزية أو تهنئة، أو مرافقة سرب من الطائرات الحربية أثناء سفره، وهو إجراء عادي يتم في الكثير من دول العالم دون بهرجة أو حتى الإشارة إليه، لأن المعلوم بالضرورة من هذا الأمر أنه متعلق بأمن الرؤساء، ويندر الحديث عنه حتى في أكثر الأنظمة إستبدادا، فلا أحد يريد أن يطلعك لا على نوع طائراته الحربية، شكلها وقوتها وهي تحلق في السماء مع الطائرة الرئاسية حتى تغادر المجال الجوي للبلد، ولكن عند هؤلاء هو مسألة وحدث يجب ذكره وبسطه في وسائل الإعلام للبرهنة على الحضور كي تنغرس الصورة بقوة في الوجدان والعقول وفي أثناء المنام وأحلام اليقظة.

يتحاشى الكثيرون ذكر الأخطاء والهفوات والمطبات - رغم أنها ظاهرة للعيان بالصورة والصوت والكتابة -، التي يقع فيها هذا المحيط خاصة لما تنشر البيانات والتويترات، وتشحن المواقع والأذرع الدائرة في فلكهم للدعاية والإشهار، وتصطف وكالة الأنباء الرسمية ضمن هؤلاء وفي المقدمة للحديث حتى عما يجول هناك ولا يتم التصريح به علنا، مثلما حدث في 3 أو 4 برقيات، (وهي بالمناسبة كما لاحظ العديد أنها أصلا مكتوبة بلغة فرنسية، وتترجم إلى العربية في لغة ركيكة وأسلوب هزيل)، يتمّ نشرها لمّا تشتد القبضة كما يقال ويسرب ويشاع بين أطراف الحكم وتتوتر الخلافات.

في ظنهم - وإن بعض الظن إثم - أن أية كتابة أو نقد ولو كانت النوايا صافية كالعسل، هو وشوشة مؤامرات، وخطط وإستراتيجيات معدة سلفا لتشويه صورة الرئيس ما قام به وما يقوم به، فهو حديث عهد بالملك والملك يحتاج إلى إستواء معلوم ووقت مدروس وتجربة وخبرة ذكية، وأي إختلاف عنهم في الفهم والرؤية هو خلاّف وخصام وعداوة، قد يجر إما إلى قطع رزق الإشهار بالنسبة للجرائد، أو توضع في خانة الترصد والبحث عن أي زلة تشوهك أو تفرغك من وطنيتك، أو يضرب عليك حصار قاتل مميت.

مند نشوء الدولة الجزائرية كانت العلاقة بين السلطة والزعيم علاقة حياة أو موت أو بالأحرى حالة وجودية إن صح القول.. تفرغ هذه الأخيرة من حيويتها بمجرد أن يموت الزعيم مثلما حدث مع أحمد بن بلة، أو يزاح إرثها كما وقع مع هواري بومدين، أو تشيد على حطام من الأوهام كما فــٌعل بالشاذلي بن جديد، أو تغتال للأبد كما جرى لمحمد بوضياف، أو تتعسكر في يد الجيش كما أتضح عند ليامين زروال، أو تستنسخ على صورة بومدين كما فعل عبدالعزيز بوتفليقة.

يبقى أن القاسم المشترك بين كل هؤلاء أن زعاماتهم ولدت بشكل قيصري أملته ظروف البلاد سواء أثناء الإستعمار أو بعد الإستقلال، وهذه الولادة يعاد إحياءها والتذكير بها كلما فشل وأخفق رجال السلطة في الخروج بنا إلى برّ الأمان.

هذا ما يحدث اليوم، حيث تعتصر القلوب، وتشدو الأرواح، وتشهق النفوس وتتحسر على زمن بوتفليقة، وهي ردات فعل غريزية لمّا ينزع النفوذ والمصالح من طرف وتعطى لطرف آخر، وهذا الطرف مستعدا دوما للقتال بشراسة والمنازلة بكل الطرق المستباحة وحتى الخسيسة كي يظل في الحكم والسيطرة خاصة إذا لم يتذوق بالشكل الكافي الشافي حلاوة وعسل السلطة، كما يحدث لمحيط الرئيس اليوم حيث لم يبقى من العهدة الأولى سوى أشهر قليلة.. والله أعلم هل سيظلون هناك أم سيخرجون، كأنهم لم يكونوا شيء مذكورا؟ هذا إذا لم يترتب عن الخروج من سدة القصر تداعيات أخرى فتعصف بهم في ظلمات حالكات.

لذلك اشتدت في الآونة الأخيرة أوار الحملات والتسريبات والملفات الغامضة التي يلوح بها نشطاء هاربين من العدالة والقصاص تحت مسميات عدة.. إنها كما يقولون حرب عصب وأطراف داخل نظام ما زال يغذي بإحتياطاته الكبيرة والواسعة جمر هذه النيران، حيث لا بارقة أمل تظهر للكف عن هذه الممارسات والقطع مع فصول هذه السلسلة التراجيكوميدي المملة، حتى ولو ثبت أنها مجرد أوهام Overdose.

يذهب أو لا يذهب إلى العهدة الثانية؟

هذه هي لبّ الحكاية وما فيها، التي تتقلب في حديث الصالونات والأمكنة الضيقة وفي وسائط إفتراضية، رغم أن البوادر الحقيقية لم تظهر بعد إلا في طراطيش تتناثر هنا وهناك، ولا حديث رسمي موثق ومعلن عنها كما يحدث في دول أخرى ليست بعيدة أو غريبة عنا.

في رأي كي تبرق هذه الكاريزما وتصنع يحتاج الرئيس عبدالمجيد تبون إلى تكثيف العمل على آراء وتقارير وإيجازات أخرى ساطعة تختلف عن ما يقدم له، تلك التي يراد منها تزين عينيه وإراحة عقله وتـهدأت قلقه، وهي في جوهرها تعاكس الواقع أو تتغاضى عنه أو تزيحه من مجال بصره وإهتماماته، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال توسيع دوائر إستشاراته وإنتباهاته وسماعه، والإنتقال بها من لحظة كمون وإنغلاق فريقه الأوحد أين يعتقد الكثير من الملاحظين أنه متخبط، إلى فريق متعدد متفجر بالطاقات والتنوع والتميز، وهذا الأمر سيمكنه حقا من قياس صدقية حضوره الفعلي لدى الرأي العام سواء في الداخل أو في الخارج..

يحتاج الرئيس أيضا إلى معرفة رأي كبار ضباط المؤسسات الأمنية فيه أو في محيطه، فشيفرة الإنسجام والتوافق بينه وبينهم ظاهرة في كل المناسبات، وباطنة في الجلسات الخاصة محمّلة بالكثير من الأسرار التي تخص الإخفاقات في تسير الشأن العام للبلاد، هم كما نرى ونتتبع، معه على قلب رجل واحد وسيوفهم على الكثير من الخونة والمتآمرين والأشرار والمفسدين، عيونهم يقظة ومشغولة بما يحدث على حدودنا.

نحتاج إلى معرفة حقيقة علّة الرئيس ومرضه، وهل تعافى منه حتى لا تتكاثر الأقاويل والشائعات حوله والتي يتوقع العديد من الملاحظين أنها ستزداد مع قرب نهاية عهدته..

نحتاج أن يخرج مستشاره الخاص بوعلام بوعلام في وضح النهار، ويقول للرأي العام أنه لم يلتحق بعد بركب الآلهة حتى تنسب إليه كل القوى الخرافية والأسطورية التي يُتحدث عنها هنا وهناك. نحتاجه يعلن أنه مجرد مستشار بمهمة محددة، يتحرك في إطار معين ويأتمر بتعليمات الرئيس ولا أحد غيره.

نحتاج إلى وزراء وولاة ومسؤولين يلتفتوا بقوة إلى مهاهم فقط، و"يبطلو" من ترداد إسم الرئيس في كل سانحة وبدونها، والزج به في أبسط نشاطاتهم، فالرئيس رئيس ومعانيه أكبر وأوسع من أن تحتمل أكثر من هذه الصفة.

نحتاج أن يتحرر كبار ضباط المؤسسات الأمنية من سطوة الخفاء والتخفي والصمت، وأن يــُـنطق بإسمهم كي تفند شتى التهم والأقاويل والمفتريات عنهم.

يحتاج الرئيس إلى حتمية فتح الساحات المغلقة الثرية بدون خوف أو تردد أو حسابات خاطئة، وأن يحظرها على وجوه وأحزاب وتنظيمات وملل ونحل استهلكت، وطاب جنانها، وتزيد في منسوب الشعور بالإحباط واليأس والغثيان لدى العامة كلما قفزت إلى الواجهة وأقتنصت الفراغ الشاغر.

نحتاج إلى أن ينعم توفيق ونزار ومن لف لفهم من القادة ورجال الدولة الذين تقاعدوا وأكملوا مهماتهم، أن ينعموا بالراحة والدفء، ويقضوا أوقاتا أكثر مع عائلاتهم التي غابوا عنها في كثير من الأحيان، فهم بأمس الحاجة إليهم الآن بعد سنوات مارسوا فيها شتى أنواع الأعمال وجاهدوا لبناء البلاد كل في موقعه.

نحتاج إلى من يفهم أننا نحمل في وعينا ولا وعينا مشاعر متناقضة تتلاوح بين الحلو والمرّ فيما فعله الرئيس تبون طوال عهدته بنا وبالبلد، يجهد كل بنيته وفي مكانه ومقامه في خوض معركة قاسية مشتبكة مع الحياة وواقع يرزح تحت مظلة التهديدات والمشاكل والأعطاب في أرض لا تستلسم بسهولة، وأعتقد أن هذا هو الرد الأنسب على أولئك القطعان الهاربة من قصاص العدالة، المختبئة في الأقاصي، النافخة في الأبواق أو حتى للذين هم هنا يتحركون لتتعقد الخيوط أكثر وأكثر.

سواء أنتوى الرئيس تبون الذهاب إلى عهدة ثانية أم أحجم عن ذلك، فالمؤكد أن الجواب سيظل ملتبسا وحارقا ومبهما ويدور في هوامش القيل والقال وهدرة العجائز وفي يد مجانين يعتقدون أنهم ملاّك الحقيقة المطلقة، وما لم يقطع أهل القرار وأذرعهم مع سياسة الغموض، والضرب تحت الطاولة، والشدّ من وراء الستار، والتلاعب بالحقائق، ومدّ معلومات ضالة أو مضللة أو صحيحة إلى مرتزقة وأصحاب سوابق وعملاء، فالخاسر الأكبر ليس تبون وحاشيته ومن سار في دربهم، بل الجزائر برمتها. تلك الجزائر التي نحلم أن تتقدم بثبات وعزيمة وصدق في خرائط العالم والمستقبل.