أفول نجم النشطاء في الجزائر: نحو نهاية أوهام مسيطرة

تمدد النشطاء في فراغ الساحة الخالية من الحرية المسؤولة والعقل الصارم وقوة العلم وعلو الثقافة وإعلام منتبه.سادوا لأنهم وجدوها خالية أو بالأحرى معطوبة ومضطربة.

يبدو أن من النشطاء في الجزائر من وصلوا إلى مرحلة ستلقي بهم إلى حافة الجنون والهبال، ستتعاظم معه رؤية حبال المؤامرات تلتف حولهم في كل مكان وزاوية، وتحاك ضدهم خطط سرية وعلنية للإغتيال أو الخطف، لذا وجب أن يتلقوا بأسرع ما يمكن علاجات نفسية مكثفة تقيهم السقوط المروع في مجاهيل ومتاهات يصعب الخروج منها هذا إن لم يكونوا سقطوا فيها بالفعل.

"عاجل جدا.. الوضع خطير وخطير جدا غليان شعبي في كل مكان وصمت رهيب من قبل السلطة.. حروب تتطاحن وتمزق أجنحة النظام، قتال عنيف سيأتي على الأخضر واليابس.. إبن ضابط كبير متقاعد يقود جناح عسكري سري ضد أحد أقوى رجالات الرئيس تبون.. مغادرة أحد ضباط جهاز الشرطة المرافقين للرئيس أثناء إحدى زيارته إلى الخارج.. مغادرته الوفد خلسة دون أن يلحظه أحد لا الشعب السرية للأمن ولا عيون المخابرات، يحمل حقيبة ثقيلة محكمة الغلق، ومليئة حسبه بالأسرار، إلى وجهة أخرى وتسليمها إلى جهات معادية في لقطة لا تحدث إلا في أفلام الجوسسة وحدثت في رأس قائلها أو من وخزه وهمس بها في أذنيه."

ذلك غيض من فيض، ما تمّ مسرحته من قبل بعض النشطاء في مشهد عام يكاد يكون فريدا من نوعه وخاصية تنطبع على جبينهم. تحيرك وأنت تتابع ما يلهثون به، ستخال أن البلاد "خلاص عليها"، وأشتد العصف في كل مكان وجهة وحي وشارع وثكنة ومكاتب ووزارات وغيرها من المواقع التي تعبق برائحة الدولة، ولا أحد يمكنه أن يصد موجات الإنهيارات المتصاعدة فيها، وأن من يحكمها كارتلات وعصابات وفسدة وطغاة، لا يردعهم قانون ولا أخلاق ولا مسؤوليات، يعبثون بها كيف ما شاءوا وأين ما شاءوا، حتى ولو فندت الصور الناطقة والأفعال الصادقة والنوايا الطيبة ذلك تماما.

تقول السرديات الرسمية، ليس هناك صراع ولا نزاعات ولا حروب مضنية.. وأن النظام يسير وفق هندسات جديدة تقتضي الكثير من الصبر والمعالجات الخاطفة المشحونة بالإندفاع للتفكك مما توارثه، وهو ليس بالأمر الهين كما يبدو.. فمن أتى بتبون إلى "الحاكمية" لم يسقط من السماء أو من الغيب. ومن جاء بشنقريحة ليس بلاعب نرد.. ومن وضع بوعلام بوعلام في ذلك المقام ليست يدا غير مرئية.. ومن رتب جلوس بن الشيخ على كرسي الأمن الوطني لم يرد في باله أنه يضع هناك عميلا وخائنا وفاسدا مثلما يصر هؤلاء الهاربين من العدالة على قوله والثرثرة به.. وقس على ذلك كل أركان الدولة.

لا لبس على أي ملاحظ نبيه القول بتوالي الخطوب على الجزائر، تجتاحها العديد من المشاكل والأعطاب والإنسدادات، بعضها حقيقي وبعضها مفتعل والآخر يهب من الخارج.. هذه نتيجة تراكمات ثــَـقــُــلت مع الوقت والتحولات، أتيحت لها الفرصة للتغلغل داخل نسيج الحياة العامة والشأن الجاري، كان قدر رجال الدولة السماح بحسرها في مضايق رؤيتهم الآنية دون طرح حلول مبتكرة وخلاقة تمتص الغضب، وتجتث جذريا منظومة حكم كانت كل التحليلات والمؤشرات تنذر بتآكلها ليس اليوم فقط بل منذ الإستقلال.

لكن هل تآكل النظام فعلا، ولم تتبدل هويته مع كل الأحداث التي مرّ بها من الثورة إلى غاية الحراك المبارك حسب توصيف الرئيس عبدالمجيد تبون له، إلى غاية ما يروج له ونقصد به بشائر الجزائر الجديدة.

لم يتغير شيء حسب أكثر المتشائمين نبرة، وهناك طلائع تلمع ولو بقدر معلوم في الأفق حسب المتفائلين، تخفف قليلا من ضنك وحسرة ومعاناة رجال الدولة وهم يطمحون لنقلنا من نظام كسيح إلى نظام مزدهر ومتخم بالمنجزات.

3 سنوات أو أكثر أستهلكها تبون ومحيطه في بسط التوازنات داخل النظام المصاب بفيروسات منتشرة في كل أركانها، لجأ الكثير من رجالاته إلى الحركة السريعة لكي يسدوا النقص الحاصل في العديد من القطاعات أو طرائح بدائل ورؤى جديدة، وتنكب البعض منهم في التحرك خشية القطف والزبر، وتسرب آخرين بنفوذهم الذي أعطي لهم على حين غرة.. تسربوا على الهوامش يلعبون بمكر ودهاء وحيلة في مضمار ضيق لصيق بالمصالح والمنافع.

أخفقوا أم أصابوا؟

لا يبدو المشهد "حلو" خاصة في أعين النشطاء الذين شاعوا على هامش كل هذا.. استثمروا في الأخطاء وهي طبيعية، واستخفوا بالجهود الكبيرة المبذولة ولو شابتها الأخطاء والفراغات، ونصبوا أنفسهم حكاما وقضاة وعارفين ومتخصصين وفاهمين في كل شيء بل وضع أحدهم نفسه المحرك الفعلي الأوحد للحراك وأنه هو من أشعل ناره، رغم أنه يعيش منذ سنوات لاجئا في إحدى الدول الغربية، محتو من طرف أجهزتها، وهاربا من قصاص العدالة التي تلاحقه، أسعفهم في ذلك غياب كلي لأصوات جادة تختنق من شدة الحصار الملموس والمحسوس، وتسللوا بخسة إلى العقول الكسولة والنفوس العليلة، وهو ما كثف مرة أخرى السؤال: هل قدر الجزائر هو هكذا؟

يشق على كل متابع حصيف أن يرى كيف تطوطم هؤلاء في مضارب وعي العامة والخاصة وعطلوه في أفق الكذب والتقول والتشهير والإفتراءات والشائعات؟ واختصرت الحياة الجزائرية في نماذج تتشابه وتتكرر وتتكاثر في نفس القالب والشكل والمنظر والحطة.. كما لو يراد لها أن تتأبد إلى ما لا نهاية، كما لو أن إرادة أن تكون مجتمع "متشوشع" أو "متزيطط"، أو ما يمكن أن يضيفه نحت الألقاب والصفات للتعبير عن الأسف والحسرة والضيق والتبرم من هيمنتهم وسيطرتهم على المشهد.

إنها التفاهة التي نلتقطها نحن الذين نتابع بوعي إنغماس هؤلاء في شرك الإستغلال المشين لكل شاردة وواردة تأتي من إرادة الرجال الخيرين وشجاعتهم وإقدامهم لإصلاح الأعطاب أو القفز بالمجتمع إلى الواسع من الحياة الرحبة، تمدد هؤلاء النشطاء في فراغ الساحة الخالية من الحرية المسؤولة والعقل الصارم وقوة العلم وعلو الثقافة وإعلام منتبه.. سادوا لأنهم وجدوها خالية أو بالأحرى معطوبة ومضطربة، واستهانوا بكل شيء، وفي ظنهم أنهم وحدهم آلهة الحقيقة وما عداهم ليسوا إلا مجرد عبيد وتوافه لا قيمة لهم.

غاب عن هؤلاء أن هناك حقيقة أخرى "رآها" تطل بحزم وشدة ودقة وإطراد، غير متلبسة بالجرم أو مسكونة بالخوف مثلما يعتقدونه، يقف على رأسها رجال يعملون ليل نهار في تفكيك شبكات العمالة الخسيسة والمبتزة، حيث بدأ الضباب ينقشع في وضح النهار كاشفا وجوههم المتخفية وراء وطنيات مفبركة وزائفة، ومع الوقت والضربات المتتالية في العمق ها هي أحجار الدومينو تتهاوى على رؤوسهم، حيث سنعرف قريبا جدا حجم الأوهام التي صنعتهم في غفلة من الزمن أو بالأحرى الحاضنات السرية التي أحتوتهم.