الإيمان بجوهر المهنة وحده يصمد في تعريف الصحافي


في عالم فوضوي تتدفق فيه الأخبار أكثر من حاجة البشر وفوق طاقتهم الاستيعابية، يحضر الصحافي المعبر عن جوهر المهنة على أنه صوت العقل التحليلي المتوازن في هذا العالم الرقمي.
صارت لدينا قائمة طويلة ممن يمكن أن نطلق عليهم “صحافيين” لكن ليس من الواضح أي من أولئك المنضوين تحت قائمة المهنة يجب أن نأخذهم على محمل الجد.

من السهولة بمكان أن نرسم صورة نمطية عن المراسل الذي يقف بين الحشود وينقل رسالة تلفزيونية على الهواء مباشرة عما يحدث على الأرض، ونقول هذا هو الصحافي.

بالإمكان أيضا أن نقول إن الصحافي ذلك الذي يجلس خلف المكتب يتابع باهتمام أخبار وكالات الأنباء والمراسلين ويعمل اتصالات مستمرة للحصول على معلومات مفيدة، ليوزع في نهاية اليوم حصيلة ما حدث على صفحات جريدة تصدر صباح الغد.

أيضا يمكن إطلاق تسمية صحافي على ذاك الذي يكتب مقاله اليومي أو الأسبوعي من منزله ويهتم نخبة من القراء بمتابعته والتعليق عليه.

في العصر الرقمي، صار من يجلس أمام كاميرا الهاتف ليصنع قصته في حديث مصور، صحافيا. يمكن أن نضيف من يدوّن على حسابه في فيسبوك قصصا إخبارية وتحليلات من دون تحديد مصدرها أو طريقة التحقق من صحتها، إلى الصحافيين.

كل هذه المجموعة غير تلك الصورة المعتادة عن المراسلين الذين تمنحهم الحكومات أوراق اعتماد لنقل أخبارها إلى العالم.

بطبيعة الحال، صارت لدينا قائمة طويلة ممن يمكن أن نطلق عليهم “صحافيين” لكن ليس من الواضح أي من أولئك المنضوين تحت قائمة المهنة يجب أن نأخذهم على محمل الجد.

إذا كان مقياس عدد المتابعين على مواقع التواصل معيارا رقميا مثيرا ومحرضا على القبول والمتابعة، فإنه أيضا يثير سلطة مشكوكا فيها وفق حدود المسؤولية والحساسية الصحافية، غير الخط الفاصل وغير الواضح بين الصحافي والمواطن الصحافي على وسائل التواصل.

وهناك مرحلة في غاية الخطورة تتمثل باعتماد وسائل إعلام على تصريحات من نشطاء يعلقون على الأخبار أو لديهم معلومات من “القيل والقال” يشاركون الآخرين فيها على منصاتهم الخاصة، باعتبارها مصدرا إخباريا يستحق إيصاله إلى الجمهور، مع أن هؤلاء النشطاء يفتحون أيضا طريقا سهلا لانتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة خصوصا في المجتمعات التي أخذ الناس فيها على عاتقهم ملء فجوات تقصير وسائل الإعلام الحكومية في التغطية.

لا يمكن اعتبار التدوينات على وسائل التواصل والفيديوهات على يوتيوب وإن حصلت على مئات الآلاف من المتابعين، صحافة مرموقة. في المقابل يرى النشطاء الذين يجمعون الملايين من المتابعين أن ذلك هو الوضع الطبيعي لعصر الصحافة الرقمي، وعلى الصحافيين المحترفين أن يتوقفوا عن رؤية أنفسهم بمنظار صحافة الأمس.

فهل وصلنا بعد ذلك إلى تعريف نتفق عليه للصحافي؟

أرى أن علينا أن نعيد تعريف الصحافي ليس كما كان معروفا ومتعلقا بالأخبار بوصفها معلومات يريد البعض إخفاءها، بل من الأهمية أن يرتبط تعريف الصحافي بصناعة الأفكار. ففي عالم فوضوي تتدفق فيه المعلومات أكثر من حاجة البشر وفوق طاقتهم الاستيعابية، يحضر الصحافي المعبر عن جوهر المهنة على أنه صوت العقل التحليلي المتوازن في هذا العالم الرقمي. هذا يعني أن الجهد الذهني المبذول في صناعة القصص الصحافية المعاصرة يتطلب من يفكر بطريقة استثنائية وليس مجرد وسيط لنقل الأخبار.

على الصحافي اليوم التعامل مع الأحداث كرموز لفك نبوءاتها بشكل صحيح لكي يساعد القراء على فهم ما يجري وقراءة المستقبل.

إحساس الصحافي الإخباري جوهري في المهنة، ومختلف كليا عن إحساس المواطن الصحافي الذي يصعب عليه الوصول إلى ذلك الجوهر “هو إحساس بالعمق الحقيقي للمهنة ولا علاقة له ببيولوجية الإنسان” لأن الصحافي الحقيقي من يمتلك طريقة مقنعة للتحدث من خلال القصص السياسية المرنة وعناصر الترفيه المتقاطعة للثقافة والاقتصاد والتغيرات التي تعيشها المجتمعات، من دون أن يعبر الحدود المتعارف عليها في حرية التعبير، كما يسيء فهم المواطن الصحافي تلك الحدود.

وبالطبع يمكن لنا استحضار الصورة النموذجية للصحافي المسؤول، العنيد والموضوعي في آن واحد عندما يبحث عن الحقيقة.

لكن ليس من المستغرب وجود من ينضوي تحت هذه المهنة ممن يدافعون عن أنانية شخصية في ما يتعلق بتوجيه الأخبار لمصالح سياسية وتجارية ضيقة تحت ذريعة جعلها قابلة لاستهلاك القراء!

مع ذلك تحضر تعبيرات موازية عندما ينظر السياسيون على الأغلب إلى الصحافيين بوصفهم “كائنات ضارة” أو “المحاربون المثيرون للقلق” أو ما أشاعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن الصحافي “عدو الشعب” والصحافة مجرد نشرات للأخبار الزائفة!

لسوء الحظ لا نمتلك إحصاءات علمية معتمدة عن ثقة الجمهور العربي بالصحافة لاعتمادها في الدفاع عن أفكارنا المقترحة في ما يتعلق بمهمة الصحافي العربي في العصر الرقمي. وغالبا ما استعنت في كل ما كتبته من قبل بإحصاءات وبيانات من الصحافة الأميركية والبريطانية، وأقدّر في ذلك النقد من قبل قراء على ما كتبت واتهامهم لي بالتركيز على المثال الصحافي الغربي أكثر من العربي، لكنهم مثلي لا يتسنى لهم العثور على إحصاءات مقبولة من الدول العربية للاعتماد عليها.

لطالما تتبع معهد غالوب الأميركي المهتم باستطلاعاتِ الرأي العام، منسوب ثقة الأميركي بالصحافة والصحافيين. لكننا لا نجد معادلا مقبولا له في عالمنا العربي يمكن الاعتماد عليه.

لذلك أعود من أجل الدفاع عن فكرة هذا المقال إلى آخر إحصاءات قدمها المعهد عن تراجع أرقام ثقة الأميركيين بالصحافة على مدار العقود الماضية. ففي عام 2020 كان حوالي 40 في المئة فقط على مستوى العالم لديهم “قدر كبير” أو “قدر معقول” من الثقة في وسائل الإعلام. إلا أن تقرير العام الحالي يؤشر على تراجع منسوب تلك الثقة بوسائل الإعلام التقليدية بمقدار ثماني نقاط.

ذلك يؤثر بالضرورة على تعريف الصحافي بوصفه صانع أفكار وليس مجرد ناقل أخبار في عصر إخباري متدفق لا سبق صحافي فيه.

طالما اقترحت من قبل تعريفات للصحافي في عصر البصائر الآلية المتغيرة، لأن التعريف التقليدي غير قادر على الصمود مع التغيرات الوجودية التي يشهدها نموذج أعمال الصحافة بالأساس. ما يصمد فقط، سواء تغيرت أعمال الصحافة التقليدية أم تراجعت، الإيمان بجوهر المهنة في تعريف الصحافي.