الاحتفاء بالحلم والارتحال المضاد

مجموعة مسعودة بوبكر القصصية "الرحيل إلى تسنيم" تنفتح على مدخل مهمّ وسمته الكاتبة بعنوان "بين خيط أريان وحبل مسد".
الكاتبة تروي في المدخل بأسلوبها الخاص أسطورة أريان، لتترك القارئ يتأوّل العلاقة بينها والكتابة
الرحيل تيمة أساسية و"فكرة توليدية" أو "خيط ناظم" في مجموعة مسعودة بوبكر القصصية تتشكل عبرها أحلام الكاتبة ورؤيتها للعالم

تنفتح مجموعة مسعودة بوبكر القصصية "الرحيل إلى تسنيم" (دار البدوي للنشر، ط 1، سنة 2017) على مدخل مهمّ وسمته الكاتبة بعنوان "بين خيط أريان وحبل مسد". هو جزء من عتبات المجموعة يرد بعد كلمة الناشر والإهداء. يستوقفنا هذا المدخل لأهميته في فهم عالم القص في هذه المجموعة، وتبيّن مرجعيات الكتابة وبعض وظائفها كما تعلن عنها الكاتبة. وقد صاغته بعيدا عن التنظير متناغما مع أسلوبها القصصي الموغل في المجاز والتخييل. هو عقد قراءة يعد المتلقي بفضاء التأويل الرحب وقد يكون ضربا من التبرير والتفسير المسبق لعالم القص الذي قد يشاكس القارئ أو يصدمه.
تنهل مسعودة بوبكر في هذا المدخل من التراث الشعبي والأساطير، تنسج منهما رؤية  للكتابة خلاصتها "أظل أنا الحلم، إذ أفتل الحكاية بين خيط حرير وخيط مسد" (ص 11).  وتروي الكاتبة في المدخل بأسلوبها الخاص أسطورة أريان، لتترك القارئ يتأوّل العلاقة بينها والكتابة. فالكتابة في نظرها "هروب من برج القلق الآسن إلى مجرّات الحلم" والقارئ موعود كما تصرّح "بحرير" الكلام وشاعرية المجاز والتخييل في نسج الحكاية، لكنه موعود أيضا "بالمسد" أي بقساوة النار والحديد (المعاني اللغوية للمسد) تنعقد عليها الأحداث في الأقاصيص فيعيش المتلقي أوجاعها ومعاناتها حد الصدمة.
يتناغم الحرير في خيط أريان الأسطورة  مع ما يعد به عنوان المجموعة (الكناية عن رحيل إلى الجنة) في الإيحاء بأهمية الحلم والأمل محققا بذلك أهم وظيفة للعنوان وهي وظيفة الإغراء. فهل سيكون الرحيل في القصص بحثا عن عالم أفضل وواقع جديد يحقق الحلم؟ أم سيكون مغامرة نحو المجهول وهروبا من فداحة الواقع بحثا عن فضاء قد لا يكون الأجمل؟ قد يكون مفهوم الرحيل باعتباره تحولا بين فضاءين مدخلا مناسبا لولوج عالم الأقاصيص والسير في تلافيف الأمكنة والعوالم التي يبنيها التخييل علّنا نتبيّن بعض دلالاته وغاياته.
ويتأكد القارئ في المتن أن الرحيل تيمة أساسية و"فكرة توليدية" أو "خيط ناظم" (بعبارة أوزوالد) في مجموعة مسعودة بوبكر القصصية تتشكل عبرها أحلام الكاتبة ورؤيتها للعالم إذ تتعدد فضاءات الحلم التي سترتحل إليها الكاتبة تخييلا فإذا هي فضاءات الأسطورة والحكايات الشعبية، فضاءات الجنة والحوريات، فضاءات الوهم المفارق للواقع، فضاءات الروح المفارقة للجسد المطلة على الآتي ...وإذا "تسنيم" أو الجنة الموعودة متعددة الصور والدلالة فهي حينا جنة الحوريات والمقدّس الديني، وأخرى جنة الغرب وحضارته، هي جنة المحبة أو جنة التخييل. يغامر القارئ مع الشخصيات لاكتشاف هذه العوالم المجهولة علّه يبني لنفسه الجنة / الحلم الذي يرتئيه.

الكاتبة وعدتنا منذ العتبات الأولى بالرحيل معها إلى عالم الحلم وفضاء أجمل من الواقع، لكن أقاصيص المجموعة بقيت مترددة بين ألق الحلم وفداحة الواقع

1- جنة المقدس الديني:
تعيش الشخصيات في عدد من أقاصيص المجموعة حلمها باحثة عن فضاءات مغايرة لواقعها المختنق والآسن. وحين لا تلقى المساعد في رسم ملامح الرحلة السوية، قد تعرّج على مساعدات أخرى أوجدتها الفوضى في واقعها، أو قد تتجه إلى زمن آخر بعيد  تستمد منه طقوس حلمها أو تبني به المعنى المفقود.
يتجلى هاجس الرحيل إلى عالم المقدس والتراث الديني جليّا في قصص ثلاث هي "الرحيل إلى تسنيم"، و"الفرحيم"، و"فراحيم الحسَن"، حيث يغدو عالم المقدس الفضاء الذي تختاره الشخصيات القصصية لصياغة حلمها أو لاستعادة القدرة على الحلم. وقد نحتت الكاتبة منه أيضا لغتها وعناوين قصصها، فإذا القارئ مدعوّ إلى فكّ الشفرة قبل خوض الرحلة. ليبحث أولا عن معنى الفرحيم (كلمة منحوتة من الفردوس / الجحيم) وليبحث عن تاريخ الشخصيات في كتب التراث الديني (شخصية الحسن الصبّاح أو شيخ الجبل) يستجلي فيها علاقة الحسَن بالطائفة الاسماعيلية والفرق الباطنية، ويعرف بعضا من تاريخ المجازر التي ارتكبها باسم الدين والخدع التي مارسها لأخذ القلاع والسيطرة عليها. 
القارئ مدعوّ إلى التسلّح بثقافة تاريخية ودينية تراثية لأنها الأرضية التي استندت إليها الكاتبة في مشروعها القصصي واستوحت منها رؤية بعض الفرق الدينية المتطرفة لخوض غمار الجهاد. فقد وظفت مسعودة بوبكر التاريخ والمقدس الديني عند بعض الفرق لترسم ملامح الشخصيات، وهي تنسج حلمها عبر رحلة الموت نحو "الفرحيم" بين الفردوس والجحيم.
ففي قصة "فراحيم الحسَن" يلتحق الشاب جُبيل بمجموعة من المجاهدين بعد أن كان ثائرا على الظلم في وطنه. ويتمثل هدف الرحلة كما جاء على لسان شيخ الجبل (الحسن الصبّاح) في الوصول إلى الجنة العلوية بعد القيام بعملية تفجير تهز البلاد التي أضحت موطنا "لأنصار الشيطان". أما في قصة "الرحيل إلى تسنيم" فلا تختلف وجهة الرحلة عن الأولى، حيث يروي السارد قصة التحاق شاب بجماعة جهادية في الشام احتضنته بعد فشله في الدراسة، فإذا هو يقاتل معها ويمارس طقوسها، موعود هو بعالم الحوريات في الجنة. وقبل أن يلتقيها هناك له أن يطفئ لهب الشهوة في "حجرة المتعة" التي أعدها له الرفاق. غير أن لحظة الكشف أو الذروة في القصة تكشف البشاعة في أقبح صورها إذ يلتقي في هذه الحجرة أخته التوأم وهي تنتظره لتمارس "جهاد النكاح" حتى يكون جسدها معراجا للجنة كما قيل لها.
وفي قصة "الفرحيم" يحضر الجسد رمزا لما تعفن في الإنسان بعد أن فارقته الروح ومزقه الرصاص وألقي به في البحر، فإذا هي رحلة الروح التائهة تبحث عن مستقر لجسد فارقته ولفظته "جموع اليتامى والثكالى" وتبرأت منه حتى الأم التي أرضعته ونفرت من رائحته  الكلاب. في هذه القصص الثلاث تنسج الكاتبة الأحداث من "مسد" راهن عايشته في السنوات العجاف الأولى لثورة 2011 ، من واقع بلد لفظ أبناءه ولم يتسع لأحلامهم، فرسم لهم "المردة" أحلاما من رحيق الكلام المخاتل وحرير الوهم فإذا الرحيل إلى عالم المقدس الديني ينكشف رحيلا إلى عالم مدنس بالرعب والدماء منذور للقبح والفناء.

tunis
سيطرة الفكرة على القص ولو بشكل محدود نسبيا 

2- الرحيل إلى جنّة الآخر:
قد تكون الهجرة والرحيل عن الوطن عبر اجتياز الحدود خلسة تجسيدا لهذا الحلم بعالم أفضل. وهو ما يتجلى في قصتين هما "خيط أحمر في الصحراء" و"حيث لا ظل يتبعني" وبينهما نقاط التقاء أهمها الحلم بالعبور إلى جنة الآخر. في الأولى تعمد الشخصية الأساسية (السارد) - وهو شاب يتعثر في دراسته ويفتقد المال والعمل – إلى عبور الصحراء منخرطا في عمليات التهريب التي تفاقمت بحثا عن بضاعة ازدهرت سوقها في الفوضى العارمة "في بلدين هزّهما زلزال الثورة الشعبية منذ غضب الصابرون على بلواهم طيلة عقود وعقود" ص19 (تونس وليبيا) على أن الرحلة خارج الوطن حلما بتغيير الواقع المادي ستفضي بالشخصية إلى أن تقع ضحية لعملية سطو تنتهي بقتلها. بيد أن الكاتبة ستجعل الشخصية – عبر السرد العجائبي - تواصل الرحيل روحا معذبة تلاحق قاتلها وتتغلغل في مسارب عقله وجسمه راجية تعذيبه. تنتقل الكتلة الهلامية الشبحية (روح القتيل) في رحلة مضادة من الصحراء إلى المدينة تنشد القصاص حتى تقضي على قاتلها.
لم يكن الرحيل عبر الصحراء ومحاولة اجتياز الحدود مجرد سعي للكسب المادي ذلك أن حلم الشاب (السارد) في البدء، وكما أعلن عنه الحوار مخاطبا أمه كان بمجرد "شهادة علمية.. سيطاردها ويغنمها بكل السبل"... "أريد العمل لأكفل ما يسمح لي بالسفر والدراسة". فإذا بالحلم يتحوّل بعد قتله غيلة مجرد توق إلى عالم يتحقق فيه العدل (القصاص) ارتحالا مضادا من الصحراء إلى المدينة ومن الحلم بالمال إلى حلم بالعدالة.
وتتغير وجهة الرحلة في قصة "حيث لا ظل يتبعني" لتكون المغامرة في البحر في قارب هشّ هشاشة ركابه المهاجرين إلى إيطاليا. هروبا من ظل لصيق، هروبا من الذات، هروبا من واقع البطالة والفقر وسوء الحال. حلما بجنة الحضارة الغربية توفر لأهلها المال والحرية والعدل، حتى لو كان الرحيل في زورق جهنمي نحو بلدان تعرف الشخصيات مسبقا أنها أوصدت حدود بلدانها في وجه الباحثين عن نزر من الأمل، حتى لو كانت نهاية الرحلة كرامة مهدورة أو تحولا إلى طعام للأسماك.
ولئن بدت نهاية الرحلة في هذه القصة موسومة ببعض الأمل عبر حركة رمزية (توزيع صدريات النجاة) فإن ضمور الشرط الإنساني في الرحلة وكثافة التشبيه بالحيوان في رسم وضعية الركاب المهاجرين تؤكد استمرار المعاناة وتؤشر لجحيم آخر وحبل مسد يسيّج الآتي. "طلعت من القاع كسلحفاة .. الأيدي المرتفعة مثل أعناق غرانيق تنبثق من الجليد" (ص 43). لقد اختارت الكاتبة مصير شخصياتها ووأدت أحلامها وحوّلتها إلى كوابيس من النار والمسد. ربما لأنها رأت أن هذه الأحلام لم تكن غير وهم بالنجاة من عالم الفوضى أو لأنها لن تكون سوى ضرب من التيه الجديد أو ارتحالا  نحو الجحيم.
3- الرحيل إلى عالم المحبة وجنة التخييل:
غير أن الجنة التي بشّر بها عنوان المجموعة "تسنيم" قد تشكلت في قصص أخرى جنة للمحبة في أسمى مظاهرها، جنة للأمومة عطاء لا محدودا، أو الوهم المفارق للحقيقة، أو جنة التخييل والأدب، رغم أن السبيل إليها لا تكون إلا بمفارقة الواقع الحسي.
تبدو المحبة قيمة مهمة ترمز إليها الأم في قصة "الزيارة". الأم يعدها ابنها بزيارة قريبة فتستعد لها بلهفة العاشق حريصة على تحقيق كل رغبات الابن متناسية متاعب الجسد السبعيني الهش. غير أنها تفضل في النهاية عدم فتح هاتفها وعدم الاستجابة لرنينه المتواصل يوم الزيارة خوفا من احتمال قوي يجتاحها هو إمكانية إلغاء الزيارة. وبذلك يكون ارتحال الأم إلى عالم الوهم بتناسي القلق والخوف والحزن الذي قد تعيشه لو تأكدت من إلغاء الزيارة، ذلك أن وهم المحبة الدائمة والوفاء لدى الابن هو وحده المحقق للسعادة ولو كانت وقتية.
الوهم نفسه تعيشه شخصية المرأة في قصة "حيّ ..أبدا" وهي تسترجع ذكرياتها مع الحبيب بعد سهرة في المسرح البلدي. فإذا ماضيها مع الحبيب يسكن في تلافيف القلب والدماغ ويهيمن على الحاضر وينتهي بها إلى ضرب من الهوس أو الهذيان والتهيؤات وهي تركب تاكسي العودة وتطلب من السائق الوقوف أمام المقبرة لينزل الحبيب من التاكسي (الميت أو الشهيد)، ذلك أنه حيّ أبدا في قلبها وذاكرتها حتى بعد ارتحاله أو موته غدرا بيد الإرهاب في جبال الشعانبي.
يمكن قراءة الرحيل إلى الزمن الماضي أو إلى عالم الوهم في هذه القصص باعتباره توقا إلى عالم الوفاء وحلما بعالم يسوده الحب وتخليدا لقيم وأفكار آمنت بها الشخصيات (قيمة  الفن في قصة حيّ أبدا ، قيمة الوفاء والمحبة في الزيارة. قيمة العدالة في قصة خيط أحمر في الصحراء ..) فالوهم أو الحلم بهذه القيم هو الذي يحقق للشخصية توازنها المفقود ويوفر لها بعض الأمان والسعادة.
وفي قصة "الدليل" يتجسد الوهم مفارقا للواقع عبر شخصيتين: فتاة تسير ليلا في أزقة المدينة لتصل قبل موعد حظر الجولان إلى بيت زميلتها، ورجل مجهول يقودها إلى المكان المحدد دليلا لها. تقوم الحبكة على مراوحة بين الواقع (الرجل دليل يرشدها إلى المكان المقصود) والوهم (تهيؤات الفتاة نتيجة خوفها من إمكانية اعتداء الدليل عليها). وتحتد المفارقة في لحظة الكشف أو الذروة حين تكتشف الفتاة عبر الحوار أن مرافقها كان فعلا في السجن لكنه لم يكن يخفي سكينا في جيبه كما تهيّأ لها بل عقدا من الشمع صنعه في السجن هدية لأمه. هل يكون الرحيل إلى عالم الوهم دائما هو الذي ينقذنا من كوابيس الواقع؟ ألم يتحول الوهم كابوسا مفارقا للواقع الذي تجاهلنا بعض النور الخافت فيه؟ 
لذا يمكن أن نتساءل: هل سيكون الرحيل إلى عالم التخييل في قصة "رفوف الوجد" مولّدا للكوابيس أم محققا لسعادة الروح في فضاء أجمل؟ إن تأرجح الشخصيات القصصية بين عالمي الوهم والواقع سيفسح المجال لحضور العجائبي في عالم القص، وهو ما يتجلى بقوة في "رفوف الوجد" حيث تعبر الشخصية (الساردة) المكان والزمان الدنيويين لتتشكل في القصة روحا فارقت جسدها، تتأمل من خارج المدار الدنيوي حفيدتها من الجيل الرابع وهي تقلّب كتب الساردة في مكتبتها. تلمّح القصة إلى التداخل بين الكاتبة والساردة عبر إيراد حرفين من اسم الكاتبة في عنوان المكتبة "من مكتبة الراحلة م. ب". وتسافر الساردة - بعد عودتها إلى العالم الأرضي - عبر كتب قرأتها وأثرت فيها، تروي حكايتها مع النصوص وعالم التخييل. فإذا الرحلة الجديدة تمتد زمانا قرونا إلى الوراء وتمتد مكانا شرقا وغربا في حوار مع كتابات زولا ولوركا وديكارت وأراغون وإيكو، ومع ابن عربي وفدوى طوقان والطاهر الحداد وجبران، فالجنة التي تعود إليها الساردة بعد فراق الجسد تتخفى بين رفوف الكتب وتتجلى في عبق الأفكار ورحيق الكتب، في فيض أصوات المبدعين والمفكرين المنادية بالحرية والحب أو الخائضة في عالم الحكي أو الباحثة في ماهية الكون.
يغدو الرحيل ثنائي الأبعاد في هذه القصة، هو ارتحال عن الدنيا ثم عودة إليها. الارتحال الأول كان نتيجة عشق الساردة للكتاب ولعالم التخييل وتحدّيها للمرض وهشاشة الجسد   وسقوطها نتيجة ذلك تحت ركام الكتب (تناصا مع قصة موت الجاحظ تحت الكتب)، وهو ارتحال ثان ومضاد بعودة الروح إلى الموطن الأول (الدنيا) حنينا إلى عالم التخييل حيث تلتقي روح الساردة حفيدتها لتراها تمارس نفس طقوس عشق الكتاب وبذلك تغدو الجنة الحقيقية في الرحلتين هي جنة التخييل والفكر والإبداع.

الرحيل لم يكن في أقاصيص مسعودة بوبكر هروبا من فداحة الواقع إلى جنة الحلم والوهم بقدر ما كانت ارتحالا مضادا وكشفا لتشوهات الأحلام وتداعي الخيبات

تتعدد في مجموعة مسعودة بوبكر صور الجنة (تسنيم) ورموزها وتتعدد روافدها لتتنوع معها الدلالات. هي الحلم تختلف مسالك الوصول إليه والسبل لكنه يبقى مع ذلك هاجس الإنسان الهارب من كوابيس واقعه ومن سجونه المرئية واللامرئية.
هل يمكن تصنيف أقاصيص المجموعة في خانة الواقعية؟ وأي واقعية هي والدراسات التنظيرية تعدد أنواع الواقعية لتصل إلى ما يجاوز العشرين في حين يختصرها آخرون في واقعيتين فقط: النقدية والاشتراكية. هل استطاعت الكتابة - كما ورد في المدخل- "الهروب من برج القلق الآسن إلى مجرات الحلم"؟ هل كانت الكتابة فضاء للحلم وهروبا من كوابيس الواقع أم انغراسا في الواقع الآسن قصد تفكيكه وإعادة قراءته؟
الواقعية والبحث عن المعنى / نحو رؤية متناسقة للعالم: 
إن الواقعية كما يرى أوزوالد لا تكون إلا "بقدر ما يكون العالم في الأقصوصة مشوشا متواريا غائبا. ولأن الواقع غير مسلّم به بالذات، تجلى هاجس الواقعية أو بالأحرى ضرورة الواقعية التي ترتكز على البحث عن معنى ما، وإعادة تشييد نظام ما للواقع".
والعالم في أقاصيص مسعودة بوبكر في هذه المجموعة يبدو عالما مشوشا فوضويا يكاد المعنى فيه يتوارى ويغيب، وهو ما يجعل هاجس البحث عن المعنى فيها مهيمنا. الواقع المشوش هو واقع بلد هزّه "زلزال الثورة" واخترقت مدنه الفوضى العارمة وهي صفة تتكرر في عدد من الأقاصيص. تلح الكاتبة على هذه السمة عبر حركة الشخصيات وأعمالها وأحلامها ومواقفها، عبر بواطنها وخواطرها. فإذا هي شخصيات تتوق إلى الهروب من واقعها والرحيل إلى حيث تجد المعنى أو إلى فضاء تحقق فيه حلما لم يتسع له هذا الواقع. 
لقد اختارت مسعودة بوبكر التقاط الأسرار المختفية وراء الواقع وحاولت فك ألغازه في عدد من الأقاصيص عبر النزوع إلى العجائبي والتوجه نحو ضرب من الواقعية السحرية. وهو ما يمكن تبينه في ثلاث قصص هي: "خيط أحمر في الصحراء"، وقصة "الفرحيم"، و"رفوف الوجد". إذ تحضر فيها الشخصية الرئيسية روحا لا جسدا، متحولة من العالم المرئي إلى اللامرئي، تروي قصتها سواء في ملاحقة قاتلها أو هروبا من تيهها أو شوقا إلى عالم فارقته. ترصد الروح لحظات فراق الجسد وتستعيد ما قبلها أو تتأمل عالمها الجديد. تلامس الكاتبة العجائبي دون أن تستقيل من الموروث الشعبي والمتخيل الجمعي بل تستمد منهما عوالم جديدة وتنسج واقعا تخييليا مفارقا. ففي قصتي "خيط أحمر في الصحراء" و"الفرحيم" يستدعي العجائبي الموروث من الحكايات الشعبية - ومنها الحكاية المعروفة "يا قاتل الروح وين تروح" - ينسج منها فضاء للدلالة ورؤية للعالم، تأكيدا لقيم افتقدها الواقع لكنها تشكل حلما للإنسانية جمعاء، لعل أبرزها قيمة العدالة تتحقق عبر القصاص، ومبدأ عدم الإفلات من العقاب.
تعمد الكاتبة إلى دكّ الحدود بين الأزمنة والأمكنة وصهرها متحولة من العوالم المرئية إلى العوالم اللامرئية وذلك باستحضار الأرواح في عالم المادة في سرد عجائبي فيه كما يرى إدوار الخراط "كسر للترتيب السردي والعقدة ...وتوسيع دلالة الواقع لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشعر ووضع المعجز الخارق موضع الحقيقة المسلم بها دون دهشة". تمارس الكاتبة لعبة العجائبي متأثرة بتيار الواقعية السحرية فتعرض الحقائق كما تراها هي أو كما تشعر بها وتترك القارئ مترددا بين التفسير الطبيعي للأحداث والتفسير غير الطبيعي.
في قصة "رفوف الوجد" تستعيد الشخصية (الساردة) بعد موتها وعبر الخارق والعجائبي حنينها إلى عالم الكلمة والحرف فتزور مكتبتها. تعبر الروح الأزمنة والأمكنة لكنها لا تتخلص من مشاعر ألفتها في حياتها الأولى: عشق الكتب. تستدعي الساردة نصوصا ألفتها لتحاورها في ضرب من التناص المباشر. وكأن الكاتبة تؤكد بذلك حقيقة أن الأدب أو الفكر وحده هو الأزلي، وأن الكلمة والحرف لن يمحوهما مر الزمان وفناء الجسد.
إلا أن الواقعية في قصص المجموعة لم تستند إلى العجائبي والواقعية السحرية فقط لبناء عالم سردي تخييلي، بل عمدت أيضا إلى توظيف التراث الديني وتوظيف التاريخ في صياغة تحاكي الواقع لتهدمه، وتستند إلى الرمز والمفارقات وشعرية الصورة لتوليد الدلالات. يتجلى التراث الديني في قصتي "الرحيل إلى تسنيم"، و"فراحيم الحسَن" حيث يُصوّر الجسد معراجا لبلوغ الفردوس المفقود في بعض كتب التراث للوصول إلى "عالم الحق والسعادة الدائمة" بعد نيل رضا "شيخ الجماعة". يحضر المقدس الديني في لغة تراثية معتقة مضفورة بمصطلحات ارتبطت بالمدّ المتطرف، حيث يتحقق نيل رضوان الرب "بجهاد النكاح" وتغدو الوسيلة للصراع ضد الشر ومواجهة الفساد في العالم "تفجير الأجساد" قبل العروج إلى الفردوس الأعلى. 
لذا تستحضر الكاتبة من أعماق التاريخ شخصية الحسن بن الصباح أو شيخ الجبل زعيم الطائفة الاسماعيلية الباطنية ذلك الذي عرف بإرساله الدعاة والجند لأخذ القلاع عن طريق الخدع وارتكاب المجازر، تستدعيه رمزا من ماض بعيد لتصوغ تخييلا واقعا جديدا يعيد فيه الشباب نفس الصراع ضد "أنصار الشر" عبر التفجيرات وتحت عيون الكاميرا، بسخرية قاسية سوداء يسرد الراوي حكاية الشاب "جبيل" الذي برهن على طاعته لشيخ الجبل بتنفيذ عمليات التفجير، ويصف مواقف الحكواتي الجديد في التلفاز ودعوته لمواجهة هجومات الحسن  الصبّاح "الجديد" والدمار الذي ألحقه بالمدن.
وتمثل المفارقات و"التهويل الحاسم" بعبارة أوزوالد إحدى الخصائص الفنية البارزة التي وسمت هذه المجموعة وحددت جمالية القصّ. تحتد المفارقات في بعض القصص ويشكل "التهويل الحاسم" ذروتها وتتعدد الأصوات محملة برؤى وإيديولوجيات مختلفة (في قصص الدليل وحي أبدا والفرحيم مثلا). في قصة "الرحيل إلى تسنيم" تنمو الأحداث تصاعديا في ترتيب زمني تسلسلي تروي حكاية الشاب "أبي البلاء" يتبع دليله متجها إلى حجرة المتعة قبل التوجه إلى القتال والشهادة. لكن السرد يتخذ مسارا مغايرا لحظة اللقاء بالجسد الأنثوي وقبل أن يتعرى الجسد تماما يكتشف الشاب جزءا منه يعرفه جيدا. شامة سوداء عند الذقن لدى أخته التوأم. حينها يختل نظام الزمن والكون ويتكسر الترتيب السردي، تمتد اللحظة المرعبة في فضاء الحكي تكتسح الماضي تستعيد بعض مشاهده الأليفة لتعود إلى الحاضر المرعب  ثم تستحضر الماضي من جديد. فإذا الرصاص الذي يطلقه رشاش الشاب على الجسد المعروض أمامه رصاص يوجّه نحو الماضي كله بدءا من الطفولة إلى قراره الالتحاق بكتيبة داعش في الشام، رمزا لانتحار الذات ووأد اللذة قبل تنفيذ مشروع التفجير الموجه "لأنصار الشيطان"، واستعادة لرؤية ذاتية للواقع المشروخ. 
تمتد اللحظة الحاسمة في القصة وتحتد الكثافة الدرامية لتكون الذروة هي "لحظة الخيبة، اللحظة التي ترفع الحجاب عن عبثية العالم"، هي لحظة يتقرر فيها مصير الشخصيات ومصير القصة، تتوتر فيها المفارقات بين "الشهادة" رمزا للنجاح الممكن في البكالوريا التي كان يسعى إليها الشاب وأخته التوأم، و"الشهادة" في معناها الديني يسعيان إليها لتكون جسرا وهميا  إلى فردوس آخر عبر تشييء الجسد وتفجيره، تحتد المفارقات بين نظرة المجتمع إلى الشاب قبل التحاقه بالجماعة المتطرفة وهي نظرة الاحتقار والإهانة، إذ لم تر فيه سوى الفتى الفاشل والمارق من تعاليم العائلة، ونظرة الجماعة المتطرفة تزرع فيه الأمل، وتعيد ثقته في قدرته على الفعل والنجاح من جديد وتجعله "أبا البلاء" القادر على الحلم و"تغيير العالم الفاسد بنصرة الربّ".
تحتد المفارقة في لحظة الذروة ليكون التهويل الحاسم بين ما تلقنه الشاب في الكتيبة الجهادية من استهانة بجسد المرأة باعتباره جسر عبور للذة عابرة ومتعة وقتية، وبين قيمة الجسد الأنثوي في مجتمع تقليدي محافظ وفي عائلة عرف فيها معنى الحب "الأخوي" ومكنته من بناء علاقات إنسانية حقيقية.

تونس
مسعودة بوبكر

صوت الراوي / الإيديولوجيا المتخفية: 
تعددت الأصوات واللهجات داخل قصص مسعودة بوبكر وتعايشت لغات مختلفة تمتح من عوالم متباعدة منها التراثي القديم والمحايث الراهن لتشكل صورا مليئة بالدهشة والغرابة والاستيهامات. استدعت الكتابة اللغة الإيطالية أحيانا (ص42) والعامية التونسية (ص23) وأصوات الكتاب والمبدعين المعاصرين (ومنهم إبراهيم الكوني في رسم صورة الصحراء) كما رددت أصداء لغة تراثية معتقة منسوجة من مرجعيات دينية وتاريخية وأسطورية (ص 103  - ص104). 
غير أن صوت الراوي العليم قد طغى في بعض القصص واتجه نحو الهيمنة وفرض رؤية واحدة هي رؤية الكاتب الضمني مقلّصا بذلك من حرية القارئ في التأويل والتفاعل مع النص. ففي قصة "خيط أحمر في الصحراء" يتدخل الراوي العليم في إدانة واضحة ومباشرة لموقف الجماعة الجهادية دون أن يُنسب هذا الموقف إلى شخصية ما ليكون أكثر خفاء ومصداقية. وهو موقف يتعارض مع مشروع الشخصية الموصوفة في المشهد (شاب يستعد لتفجير نفسه للعبور إلى الفردوس) مما يجلو نزوعا إلى سيطرة الفكرة على القص ولو بشكل محدود نسبيا "غاص رفاقه في نظراتهم الزائغة .. بملامحهم المشدودة إلى جمود لا يشرخه  تعبير يوحي بشعور ما .. أيّ سرّ يمكن أن يجمع بشرا في مرتبة تنسلخ منها علامات التواصل الشعوري البشري؟ روبوتات متأهبة لتنفيذ الأمر لا غير.. إلى حيث لا رحمة ولا احتساب، سوى الدمار والإبادة والدم و النار" (ص45 ).
وقد يتجلى صوت الكاتب واضحا أحيانا عبر إحدى الشخصيات، مما يفقدها الكثير من انسجامها وإقناعها ويجعل "أثر الواقع" محدودا رغم النزعة العجائبية في القصة. من ذلك صوت الأم وهي تلعن جثمان ابنها (الجهادي) بعد أن رفض الجميع دفنه في القرية. تقول الأم "ويحي مما ألقى الرحم .. ها هي الكلاب تنفر من رائحة الجثمان التعيس الملعون، خذوه إلى البحر .. " ويقول السارد (وهو روح الابن الهائمة تبحث عن موطن لرفاتها) "كان صوت التي تبرأت منّي بعلوّ السحاب .. بنبرات لا حزن فيه (كذا) ولا انكسار: لن تحف الملائكة جثمانا تعوي خلفه الكلاب" (ص 76). ليتعارض الخطاب الإيديولوجي المباشر مع منحى الكتابة في توظيف العجائبي والرمز إذ تعتبر العجائبية "الطريقة المثلى لتكسير القوالب الواقعية الضيقة والبحث عن طرائق للترميز بهدف تمرير الانتقادات السياسية والاجتماعية والدينية". 
وقد كان بإمكان القص العجائبي تقويض هذه الخطابات الدينية والسياسية المهيمنة في راهن الكاتبة باختراقها فنيا وتقويضها دون اللجوء إلى الأيديولوجي المباشر كما فعلت الكاتبة في قصة "الرحيل إلى تسنيم". ذلك أن القصة القصيرة تبقى أساسا "نوعا من الكتابة/ البحث التي تعكس عدم قدرة الفهم الإنساني على الإحاطة والشمول لأنها تحاول أن تستخلص لحظة واحدة مفهومة وتعزلها." ورغم هذه الإشارات المباشرة التي تشي بموقف السارد (والكاتب الضمني) فإن النزوع إلى الترميز والإيحاء وتكسير القوالب الواقعية والاحتماء بالأسطوري والعجيب بقي مهيمنا على المجموعة القصصية ولم يحدّ من جمالية الحرير الذي نسجت به لغتها ولا متانة الحبكة في كل قصة.
الخاتمة: 
لقد وعدتنا الكاتبة منذ العتبات الأولى بالرحيل معها إلى عالم الحلم وفضاء أجمل من الواقع، لكن أقاصيص المجموعة بقيت مترددة بين ألق الحلم وفداحة الواقع. وقد استدعت أحيانا القص العجائبي والواقعية السحرية قصد تقويض الخطابات الدينية والسياسية المهيمنة في راهن الكاتبة واختراقها فنيا. كما عمدت في بعض القصص إلى تهشيم التسلسل السردي وتداخل الفضاءات والأزمنة وتعدد الخطابات. وكانت الكتابة /الرحلة متجهة غالبا نحو مسالك التراث والتاريخ وتلافيف المقدس الديني محاولة إعادة قراءة الواقع عبر اللعبة السردية وعبر التخييل المفارق للواقع. 
لكن الرحيل لم يكن في أقاصيص مسعودة بوبكر هروبا من فداحة الواقع إلى جنة الحلم والوهم بقدر ما كانت ارتحالا مضادا وكشفا لتشوهات الأحلام وتداعي الخيبات. إذ بدا كل ارتحال منتهيا إلى رحلة مضادة تكشف الوهم وتمحو ما نسجته خيوط الحرير من أساطير وأوهام، لتترك القارئ وحيدا وقد أهدته الكتابة أسبابا للمتعة والقلق في آن واحد.