الاحتلال الأذكى والفشل الحتمي

الأميركي يتعامل مع القوي على الأرض. الايراني يصنع القوي على الأرض.
العراق أصبح مثالا عالميا للتخلف والفساد القياسي
ايران زحفت حتى الخط الثاني والثالث من مواقع المسؤولية في العراق
الاحتلال الاميركي لم يكن معنيا بالتحولات الكارثية التي اصابت العراق

يشهد تاريخ العراق على ما قدمه الاحتلال البريطاني من تأسيس للبني التحتية للدولة العراقية من مشاريع النقل مثل سكك الحديد والموانئ والطيران واستكشاف النفط وتصنيعه وتصديره، كذلك في الصحة والتعليم والطرق والجسور وقوانين الإدارة والمالية ويطول الحديث عن منجزات ما زالت شاخصة إلى وقتنا الراهن، رغم انقضاض الطائرات والصواريخ الاميركية عليها في حربين انتهت باحتلال اميركي جارف للعراق.

جاء الاحتلال الاميركي حاملا لوعود واحلام الديمقراطية التي يشكو جفافها مناخ العراق السياسي منذ سقوط نظام الملكية، واستبدل تلك الوعود بنظام سياسي هجيني يحمل عناوين ديمقراطية، لكنه يقوم على تفريق الآصرة الوطنية على أسس مكوناتية تحمل معها أسباب احترابها، وتضع نيران خلافاتها تحت رماد فسادها المتخادم بين أحزابها وشخوصها التي أوكل لها الاحتلال تمثيل طوائفها واعراقها بنحو شكلاني احتكاري زائف، سرعان ما فضحته الاحداث وأسقطته احتجاجات الجماهير العراقية من شمال الوطن إلى جنوبه.

كشف الاحتلال الاميركي عن عدم امتلاكه لمشروع استراتيجي في العراق، وبات الأمر مترددا بين الادارتين الجمهورية والديمقراطية، ما بين الانسحاب أو البقاء في العراق!؟ احتلال غير معني بالتحولات الكارثية التي اصابت العراق بوجود سلطة متشكلة من احزاب وتشكيلات تتبع ولاءها الطائفي، وتنتمي لعمقها الإثني والقومي وتهمل كل ما يعني بالمواطنية العراقية وحقوقها، واقع سمح بامتدادات وتدخلات ناعمة وصريحة لدول جوار العراق تحت انظار السفارة الاميركية، وبرغبة الاحزاب الحاكمة التي وفرت بيئات مستقبلة حتي غدا التواجد العسكري والميليشياوي لدول الجوار صارخا ومتحديا للنظام السياسي المسخ والهش وطنيا، ما جعل دول الجوار تجد فرصتها التاريخية لتمارس النهش والتسليب الانتقامي من العراق الذي أرهبها طوال نصف قرن بقوة نظامه الدكتاتوري وسلاحه الفتاك واستعداده الدائم للحرب، مهما تعارضت الظروف، وهو ماساهم بسرعة سقوطه المدوي عام 2003.

نستطيع القول أن سياسة ايران في العراق نجحت أكثر من السياسة الاميركية، فالأميركي يتعامل مع القوي على الأرض، بينما الايراني يصنع القوي على الأرض تحت أكثر من عنوان، تارة بولاءات طائفية عقائدية، وأخري تحت غطاء اسلاموي، وثالثة في حسابات النفوذ والمواقع المهمة في العراق، حتي صارت المواقع الرئاسية والوزارية والأمنية بالدولة لا تمر دون ختم موافقة طهران التي زحفت حتي الخط الثاني والثالث من مواقع المسؤولية بالعراق.

تفوقت سياسة ايران على اميركا بالعراق في سعيها لوجود نظام سياسي هش وضعيف لـ"الدولة" والي جواره تشكيلات عقائدية مدنية وميليشياوية تمثل أذرع عسكرية لها، وما بين الأثنين تشتغل آليات اللادولة لتتوازن او تتفوق على الدولة، وبهذا تستحكم بمراكز السلطة الفعالة، المال والأمن والقضاء، مستفيدة من الصناعة السياسية الاميركية لنظام سياسي عراقي مغترب وبلا حدود أو هوية مواطناتية عراقية.

السلطة القوية تكتسب طاقة استمرارها من الشعب وبالقدر الذي توفره له من حقوق وحريات ورفاهية عيش وخدمات، وتفقد طاقتها على الاستمرار مع قسوة الواقع وتضخم المعيشة وتزايد الأزمات وسقوط الاقنعة الطائفية والعرقية، كيف يكون الحال ونحن نتحدث عن حكومة هشة فاسدة وضعيفة مراكز سلطتها تخضع لتبعيات طائفية واستقطابات دولية!؟ نعم انكشفت حقائق السلوك السياسي لأحزاب الفساد ونهب ثروات البلاد حتى أصبح العراق مثالا عالميا للتخلف والفساد القياسي!؟ عندها استيقظ الشعب على احتجاجات عارمة تواصلت منذ عام 2011 وتوجت بثورة تشرين 2019 التي رفعت درجة الغضب والرفض لأحزاب السلطة وتمدد دول الجوار، ولم تزل إرادة تشرين تمد جذورها في جميع أرجاء الوطن العراقي الذي صار يعلن صراحة بمقاطعة الانتخابات ورفض النظام السياسي إذا لم يُصلح من سلوكه ويخرج من بحر الفساد.