المعارضة والنصف الميت

العراق نموذج للموقف السلبي من المعارضة السياسية. المعارضة، كانت وتبقى، قرينة الخطر والموت.
مجتمعات بلا معارضة هي مجتمعات ميتة بلا حراك
حكوماتنا في الشرق العربي والاسلامي دأبت على الاعتقاد بأن المعارضة تمثل العدو اللدود
العملية السياسية العراقية فقدت القدرة على إنتاج تحولات حقيقية وهي تدور في ذات الدائرة منذ 18 سنة

الدول المستقرة سياسيا واقتصاديا تعيش تنمية اجتماعية مستدامة تتمظهر باستقرار الأمن المعيشي للمواطن وما تتوفر له من خدمات صحية وترفيهية وغيرها، ما يجعل الحياة ميسرة وهانئة ودون أزمات. أما على المستوى السياسي تلاحظ في هذه الدول وجود معارضة بتقاليد راسخة ومحترمة من المواطنين كافة، معارضة تقف بندية عالية ضد الحكومة أو المؤسسات إذا تراجعت أو لم تلتزم ببرنامجها وهدفها المعلن، وتدعو لإسقاطها بدعم شعبي عام، من هنا تكون المعارضة النصف الحيّ من المجتمع الذي يدفع الحكومات للالتزام بما يخدم المواطن.

تشكل المعارضة جزءا مهما من النظام الديمقراطي وتعد إحدى مراكز الرصد والرقابة على عمل الحكومات والمؤسسات، ولن تتهيب أحزاب ذات تاريخ طويل وجمهور واسع وأسماء مؤثر في المجتمع من الانخراط بالمعارضة، لأن الدولة تكفل نشاطات وحرية عمل المعارضة بكونها تمثل إرادة النصف الثاني من الشعب.

حكوماتنا في الشرق العربي والاسلامي دأبت على الاعتقاد بأن المعارضة تمثل العدو اللدود الذي ينبغي القضاء عليه بالإعدام أو السجن المؤبد، ولا تستوعب فكرة أن يتوجه لها النقد أو الصوت المعارض، لأنه يطعن بشرفها وكبريائها ووجودها الدائم بالسلطة هكذا ترى الأمر، سلوك درجت عليه الانظمة الثورية الاشتراكية والقومية وحتى الاسلاموية التي ترفع شعار الديمقراطية، ولعل الموضوع يصبح أخف وطأة مع بعض الأنظمة الملكية في البلاد العربية، وتلك واحدة من مفارقات الشرق المغطى بالجرائم.

في العراق انبثقت مع العهد الملكي نواة نموذجية لمعارضة برلمانية تمثلت بجماعة الأهالي (والحزب الوطني الديمقراطي المترشح عنها)، الى جانب معارضة سرية كانت تمارسها حركات يسارية ووطنية ومنها الحزب الشيوعي العراقي، لكن سرعان ما اختفت تقاليد المعارضة البرلمانية مع العهد الجمهوري الديمقراطي وسلطة قاسم المطلقة واستمر غيابها مع تعدد الأنظمة العسكرية والفاشية التي تواصلت على حكم العراق، وقضت تلك الأنظمة بإعدام المعارضة مهما كان نوعها حزبية أم فردية وباختلاف اتجاهاتها، بل أصبحت كلمة "المعارضة" قرينة الخطر والموت لدى عامة الشعب الذي كان يتناقل الاخبار عن إعدام هذا أو ذاك مجرد تلفظ ضد الرئيس أو الحزب والثورة وليس ممارسته لعمل سياسي سري. وتضم سجلات السجون والمعتقلات ومديريات الأمن والاستخبارات سجلات لأسماء الاف المعارضين الذين تم اعدامهم بالسجون العراقية بجميع المراحل السياسية.. وحتى لحظة كتابة المقال.

المجتمع الذي يخلو من المعارضة محكوم بالجمود والخضوع وعدم القدرة على التقدم بحكم استسلامه لسلطة النظام الحاكم وقراراته، دون رقابة أو محاسبة من معارضة فاعلة مدعومة برلمانيا وتقود أوسع قطاعات من الشعب، وعودة على التجربة السياسية في العراق التي انتجتها اميركا أثر احتلالها للبلاد، جاءت بديمقراطية معلبة وفق محاصصة طائفية وقومية وأثنية، تتقاسم مقاعد البرلمان وكعكة الحكومة فيما بينها، دون وجود معارضة شعبية قادرة على الصمود والبقاء لتتحول الى كيان سياسي وطني، لأنها ستواجه بسلاح الميليشيات و"الطرف الثالث" لهذه الاحزاب العرقطائفية وقوانين التجريم لتشريعات البرلمان وقرارات القضاء والماكنة الاعلامية للمؤسسات والاحزاب الاسلاموية.

ونحن على أبواب انتخابات نيابية (برلمانية) سوف لا تنتج سوى كتل برلمانية حزبية بتوجهات طائفية وأخرى قومية واثنية وهامش غير فاعل لمستقلين، ثم تعود لتمارس لعبة المحاصصة ونهب ثروات الوطن أمام أنظار الشعب الذي ليس له حول ولا قوة، بسبب غياب المعارضة السياسية المنظمة التي تقود احتجاجات الشعب ونضالاته بقطاعاته المختلفة.

العملية السياسية العراقية وهي تدور في ذات الدائرة منذ 18 سنة فقدت القدرة على إنتاج تحولات حقيقية للمجتمع، وتلك مؤشرات تؤكد تفسخها السياسي في دائرة الموت السريري لأنها لا تملك طاقة الاستمرار أو إقناع الشعب بأهمية وجودها، لأن واقع الحال يفضح سلوكها المتموضع في سلطة المال والنفوذ والسلاح دون اكتراث لحقوق ومصالح الوطن والمواطن.

قبل 2003 كانت حركة المعارضة العراقية في خارج الوطن تضم أسماء لمفكرين مثل هادي العلوي وفالح عبدالجبار وكاظم حبيب ورشيد الخيون وغيرهم، شعراء بقامة سعدي يوسف ومظفر النواب وزهير الدجيلي، فنانين مثل خليل شوقي وناهدة الرماح وفؤاد سالم وكوكب حمزة، ناهيك عن المعارضة السياسية التي تضم الآلاف من مختلف التوجهات والمهن والعناوين. بعد سقوط نظام صدام انتهت توجهات المعارضة بالنسبة لهم، وكأن المعارضة التي تعيش في الخارج تموت في الخارج أيضا.

المشكلة الجوهرية تكمن في غياب الجهات السياسية والفكرية التي تنمي ثقافة ووعي المعارضة لدى الجماهير بنحو عام، نعم هناك واقع يصنع معارضة طارئة وعفوية تتصل بالمعيشة والحريات فينتج عنها الرفض والارتداد ضد النظام، لكن لا تؤطر كمفهوم ومبدأ عام وثابت بكونه حقا وطنيا لا يختلف عن بقية الحقوق الانسانية بالحياة، وهذا المشروع بحسب اعتقادي يمثل مساحة الاشتغال النوعية لرجال السياسة والفكر والفن والثقافة عموما من أجل رفع مستوى الوعي بالحقوق عبر ثقافة المعارضة الراسخة لدى المجتمع.

مجتمعات بلا معارضة تعد مجتمعات ميتة بلا حراك، ولا نقصد هنا بالمعارضة السياسية فقط وهي ما تحدث في العراق بحسب أمواج القمع والإقصاء والاستبداد السياسي، بل نقصد المعارضة بكونها منهج يتصل بالوعي الاجتماعي والذوق العام الذي ينبغي أن يشتغل على جميع مستويات الحياة.