الاستمتاع بالجهالة

لماذا لا ننعم جميعا ونريح البال ونستريح ونترك "ذوي العقل" في شقائهم وبلاويهم؟
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
في مرحلة لا حقة نخرج من مرحلة الجهالة إلى مرحلة الجنون، وهي "نيرفانا" العقل

من أجمل أبيات المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وعلى رأي أمي الله يرحمها كانت تقول لي: "روح يا ابني يا سامي ربنا يكفيك شر الفكر"، وبالطبع كانت تعني كثرة التفكير.
ونحن منذ نعومة "وخشونة" أظفارنا قد تربينا على عدم التفكير، وفي المدارس كانوا ولا يزالوا يعلموننا حفظ النصوص وحتى المعادلات الرياضية والكيميائية كنا نتدرب على حفظهأ، وأصبحت المدارس مجرد معامل تفريخ آلات صماء تحفظ التراث والعلم وكل شيء وتدخل الإمتحان بالملايين "تطرش" ما حفظته، وبعد أجازة الصيف تنسى كل شيء تمهيدا لجولة حفظ جديدة في العام الدراسي الجديد.
وقلة منا قررت عدم الإكتفاء بالحفظ، بل وتجاوزت تلك المرحلة وتجرأت ليس فقط إلى مرحلة الفهم، ولكن والعياذ بالله تخطتها إلى مرحلة "التفكير" كفانا الله وإياكم شر هذه المرحلة، بل ولم تكتف هذه الفئة "الضالة" بالتفكير بل وبدأت في قراءة أشياء خارج المقرر مثل "أستغفر الله" قراءة الفلسفة والمنطق ووصل الأمر إلى قراءة نظرية الإنفجار الكبير ونظرية دارون في "أصل الأنواع"!
ولكن والحمد لله الأغلبية لا تزال صامدة ولم ولن ولا تنوي الوصول إلى مرحلة الفهم، ناهيك عن مرحلة التفكير، ولماذا التعذيب والتعب إذا كان شاعر العرب الأكبر المتنبي بجلالة قدره يقول:
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فلماذا لا ننعم جميعا ونريح البال ونستريح ونترك "ذوي العقل" في شقائهم وبلاويهم، وفي الحقيقة هذا ما فعلته مؤخرا، قررت أعطاء عقلي أجازة مفتوحة، وقدرت أهمية دعوة أمي رحمها الله عندما طلبت من الله أن يكفيني شر الفكر والتفكير. وهذا ما حدث لي:
فمنذ شهرين وعند اشتداد أزمة فيروس كورونا، أصبحت "مدمن" كورونا، أفتح التليفزيون أجد أخبار كورونا، أفتح راديو السيارة أجد أخبار كورونا، أفتح أي موقع على النت لا أجد سوى كورونا، حتى بدأت أشك أحيانا وجود أخبار كورونا عندما أفتح الثلاجة أو البوتاجاز.

كورونا
أعمل بدعوة أمي وأبتعد عن التفكير تماما

وكان هناك العديد من المواقع يعطيك كل ساعة أرقام حالات الكورونا حول العالم بلدا بلدا وأرقام الضحايا، وكل ما تتخيل من أخبار تصيب الإكتئاب بل وربما تحرضك على محاولة  الإنتحار للتخلص من هذا العالم الكئيب. وفي ليلة ما وأنا في قمة اكتئابي قررت أن أضع حلا لكل هذا التفكير وسيل المعلومات الكئيب والمزعج، وكان أمامي حلا من اتنين:
أما أن أقدم على الإنتحار وأتخلص من تلك الحياه الكئيبة ..
أو ..
أعمل بدعوة أمي وأن أبتعد عن التقكير تماما.
وواضح أني اخترت الحل الثاني، ومنذ أكثر من شهرين امتنعت تماما عن الإستماع ومشاهدة أخبار راديو السيارة والتليفزيون والنت، حتى الأخبار التي يرسلها بعض الأصدقاء عبر النت، لا أفتحها وأقوم بإلغائها فورا، حتى الثلاجة أصبحت أفتحها "بشويش" خوفا من خروج أخبار الكورونا منطلقة في وجهي!
ولا أستطيع أن أصف لكم النعيم الذي أصبحت أعيش فيه منذ أن قررت أن أكون "أخو الجهالة" (على رأي عمنا المتنبي). وأصبحت أشاهد يوميا مسلسلات كوميدية وأفلام كلاسيك قديمة، وأصبحت أستمع إلى الموسيقى أكثر، بل وأخذت اقرأ مرة أخرى كتبا لا علاقة لها بالكورونا.
ومؤخرا عندما يقلق عليّ بعض أصدقائي وأقربائي ويسألوني عن الأخبار المزعجة والأحوال في أميركا أقول لهم: الأحوال في أميركا "زي الفل" ولا توجد أي مشاكل.
إن تدفق فيروسات المعلومات علينا من كل مكان وللأسف الكثير منها أخبار "مفبركة" وكثير من الأخبار أصبحت ملوثة برأي من يبثها، وأصبح الناس لا يفرقون بين الخبر والرأي، حيث "أختلط الحابل بالنابل"، (بالمناسبة سؤال إلى الأخوة من فقهاء اللغة العربية عندي سؤال: ما هي خطورة أن يختلط الحابل بالنابل؟ ثم الأهم من ذلك: من هو الحابل؟ ومن هو النابل؟)!
لذلك تعالوا نستمتع جميعا بالجهالة ونقاطع الأخبار التي ترهقنا وتقهرنا على مدى الـ 24 ساعة يوميا، ولا نسمع منها إلا كل الأخبار السيئة، ولو لم تكن هناك أخبار سيئة لأخترعوها.
وياريت لو في مرحلة لا حقة نخرج من مرحلة الجهالة إلى مرحلة الجنون، وهي "نيرفانا" العقل، حيث إن المجانين في نعيم!