من قال: لا أعرف

لم أقابل أبدا أي شخص يقول: "لا أعرف" باستثناء مرة واحدة منذ عدة سنوات على شاشة التليفزيون المصري.
كل من لمس كرة قدم في حياته أصبح محللا رياضيا يفتي كما يحب في شؤون الرياضة
لماذا يحرج بعض الناس من الاعتراف بعدم المعرفة؟

تقول النكتة إن الرحالة المشهور كريستوفر كولومبس أراد الذهاب للهند للإستفادة من تجارة التوابل والبهارات والتي كانت مزدهرة في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي، وتحرك مع سفنه الثلاث من ميناء كاستال في إسبانيا في طريقه إلى الهند، ولكنه تاه في البحر المتوسط، وتوقف في ميناء الإسكندرية لكي يتزود بالمياه والأكل، وفي أثناء وجوده بالإسكندرية سأل بحار إسكندراني عن الإتجاه إلى الهند، وطبعا البحار الإسكندراني لم يكن يعرف أين الإتجاه للهند، ولكنه كأي مواطن إسكندراني مصري محترم عز عليه كبرياؤه أن يقول لكولومبس: "لا أعرف"، فأشار عليه بأن "يتجه غربا ويمشي على طول لا يروح يمين ولا يسار حيلاقي الهند في وشه بعد 3 أو 4 أسابيع". 
أخذ كولومبس بالنصيحة وأبحر غربا بسفنه الثلاث وعبر مضيق جبل طارق، وإستمر "غربا لا يروح يمين ولا يسار" ولم يجد الهند بالطبع ولكنه إكتشف أميركا وأطلق على سكانها "الهنود"، ولذلك يرجع الفضل في إكتشاف أميركا إلى المصريين!
كنت أعمل منذ فترة طويلة مهندسا في شركة أميركية في مصر، وكنا نقوم ببناء محطة كهرباء بوسط الدلتا، وكان مديري هو مستر لنزي والتون وهو مهندس محترم. ولم يكن يعرف الكثير عن مصر إلا من خلال قراءاته، وكثيرا ما كان يسألني عن بعض الأشياء التي يجهلها عن مصر، مثل أقرب محل كشري، أو بتشجع الأهلي أو الزمالك!! وكنت في معظم الأحيان أجيبه بما أعرف، وعندما كنت لا أعرف أقول له: "لا أعرف"، ومرة قال لي: "هل تعرف لإنك أول مصري أقابله يقول لي لا أعرف، عندما لا يعرف"!
وجربت بالفعل مرات عديدة قبل عصر الحاج "جوجل" أن أسأل عن أي مكان أو شارع في أي مدينة في مصر، وكنت دائما أحصل على إجابة سواء صحيحة أم لا، ولكني لم أقابل أبدا أي شخص يقول: "لا أعرف" باستثناء مرة واحدة منذ عدة سنوات على شاشة التليفزيون المصري وكانت قبل الإستفتاء على تعديل الدستور المصري، وكانت كاميرات التليفزيون تأخذ آراء المواطنين المصريين عن تعديل الدستور، وكان معظمهم بالطبع يمدح في تعديل الدستور وأنه "آخر حلاوة"، بالرغم من أني متأكد مائة في المائة بأن أيا منهم لم يقرأ لا الدستور ولا تعديل الدستور، ولا يعرف أساسا ما هو الدستور، غير ربما كلمة "دستور يا سيادي" عندما يكون داخلا على مكان يتوقع أن يكون به "حريم"، مواطن واحد في هذه المقابلات الدستورية قال "لا أعرف" عندما حاول المذيع أخذ رأيه في التعديل الدستوري، والجميل في إجابته أنه قال: "أنا ما أعرفش والله، أصلي مش من هنا"!!
وأخذت كثيرا أتأمل: لماذا يحرج بعض الناس من الاعتراف بعدم المعرفة؟ حتى الحاج "جوجل" نفسه في مرات نادرة يقول: لا أعرف، فما الضرر في أن نقول: "لا أعرف" عندما لا نعرف؟ هل الخوف من اتهامنا بالجهل؟ لماذا لا نتبع الحكمة القائلة: "من قال لا أدري فقد أفتى"؟

بعض مشايخنا الأجلاء يفتون كثيرا بتحريم الموسيقى والغناء وحرية المرأة ويحللون زواج الطفلة وإرضاع الكبير والتداوي ببول الإبل وغيرها من الفتاوي العجيبة، ودائما يقولون بإجماع الفقهاء، "الموسيقى طبعا حرام بإجماع الفقهاء"، وكانوا قد أفتوا من قبل بأن التليفزيون حرام ثم لما صاروا نجوم البرامج الفضائية فجأة أصبح التليفزيون حلالا، وكما أفتوا بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وفجأة أصبح قيادة المرأة للسيارة حلال، وقديما أفتوا بعدم جواز تعليم المرأة أو حتى خروجها من البيت، وقالوا إن المرأة تخرج من بيتها مرتين فقط: "مرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومرة ثانية من بيت زوجها إلى القبر"، وفجأة تغير هذا وأصبح البنات أكثر إقبالا على التعليم في ظل مباركة نفس الفقهاء والمشايخ.
هل حدث ورأيتم أيا من المشايخ يرد على سؤال بقوله: "لا أعرف"، ولكنهم والحق يقال بعد كل فتوى يختمون القول: "والله أعلم" وذلك للتنصل من المسؤولية!
وإسهال الفتاوي والحمد لله قد شمل كل نواحي الحياة، فهذا الخبير الإستراتيجي والمحاسب الكبير يفتي لنا بأن عام 2020 سوف يشهد الحرب العالمية الثالثة بين أميركا والصين، وهذه خبيرة إستراتيجية أخرى تفتي بأن الرئيس ترامب سوف يكون آخر رئيس أميركي وأن أميركا إنتهت بالحرب الأهلية القادمة، ولن يتمكن الرئيس بايدون من دخول البيت الأبيض.
والخبير العلمي والمستشار الطبي يفتي بأن فيروس كورونا هو مؤامرة عالمية من بيل جيتس للسيطرة على العالم، وأن اللقاح سوف يضع شريحة إلكترونية متناهية الصغر في جسمك لمعرفة كل شيء عنك، ليس هذا فقط ولكن لتغيير جينات كل من يأخذ اللقاح! الأمر الذي أثار خوف عديد من الناس الذين يرفضون أخذ اللقاح.
أما خبراء الرياضة (وخاصة خبراء كرة القدم) فحدث ولا حرج، وكل من لمس كرة قدم في حياته أصبح محللا رياضيا يفتي كما يحب في شؤون الرياضة.
تعلموا أن تقولوا "لا" في كل مجال:
لا أعرف
لا للظلم
لا للمحسوبية
لا للرشوة
لا للجهل
لا للكسل
لا للنفاق
لا للسرقة
لا للإرهاب
لا للتطرف
وعلى رأي فيروز عندما ضايقها بعض العشاق:
يا با لا...لا...لا... بتريدي تحاكينا أم لا؟
لا
يعني ما بتحبينا؟
لا
ولا بتردي علينا؟
لا.