علموا أولادكم السباكة والنجارة وكرة القدم!

الأفلام والميديا بصفة عامة والتي أصبحت تشكل الوعي الجمعي لمعظم الناس كثيرا ما تقدم العامل وراء الآلة على أنه أقل من الموظف وراء المكتب.
الهدف من التعليم ليس للوجاهة الاجتماعية وليس لتهيئة الفتاة والفتى للعمل في وظيفة ما
عجز في المهن الحرفية مثل السباكة والنجارة والحدادة والكهرباء
فكرتي تغيرت تماما عن السباكين والمهن اليدوية بصفة عامة

منذ سنوات عديدة كنت أقوم ببناء مشروع سكني في ولاية فلوريدا، وكان يعمل بالمشروع سباك أميركي اسمه واين، وكان شخصية لطيفة ويعمل في صمت، ومرة عزمني على طعام العشاء في منزله، فذهبت وأخذت معي علبة شيكولاتة، وكان منزله في منطقة متميزة من المدينة وأفضل كثيرا من منزلي وعرفني بزوجته الأميركية والتي تعمل مدرسة، وسألت زوجته ماذا أعدت لنا على العشاء، فقالت ضاحكة: واين سوف يتولى تجهيز العشاء، فبدأ الفار يلعب في عبي وقلت لنفسي (محاولا إخفاء ملامح القلق): واين سباك ممتاز، ولكن مال له ومال الطبيخ"! وقال لي واين: تعالى عند المطبخ، ووجدته وراء طاولة المطبخ واضعا مريلة خاصة لحماية ملابسه، وقال لي إنه سوف يقوم بعمل المقبلات أكلة (سوشي) اليابانية، وأنه يطلب مكوناتها خصيصا بالشحن الجوي السريع من مدينة ميامي (أكبر مدن ولاية فلوريدا)، ومنذ تلك الليلة تغيرت فكرتي تماما عن السباكين والمهن اليدوية بصفة عامة.
ومنذ فترة طلبت سباكا أميركيا لإصلاح بعض أعمال السباكة في بيتي، وبعد إلحاح وافق أخيرا على الحضور وقال إنه لمجرد حضوره لمعاينة الإصلاح المطلوب سوف يأخذ 75 دولارا (نظير المشوار فقط) وبعد ذلك يقدم لي عرض أسعار، فوافقت طبعا لأني ما صدقت أنه قبل المجيء وأن لديه وقتا. المهم انتظرته حسب مواعيده هو - وليس حسب مواعيدي - واضطررت لأخذ أجازة من عملي لكي أكون في انتظاره لأنه قال لي إنه سوف يحضر أي وقت بين الساعة 9 صباحا والساعة الثالثة بعد الظهر ولم يستطع تحديد ساعة معينة، المهم أنه في حوالي الساعة الثالثة حضر السباك راكبا سيارة بيك آب كبيرة آخر موديل يضع فيها أدواته، وعرفته بنفسي وقام بعمل المعاينة داخل البيت، وبعد المعاينة اللازمة توجه إلى سيارته وفتح جهاز الكومبيوتر الموجود بالسيارة والمرتبط بطابعة صغيرة، وقام كتابة بعض الأشياء على الكومبيوتر وأرسلها للطابعة ثم أعطاني ما تم طبعه، وكانت عبارة عن فاتورة مكتوب فيها أن العمل سوف يستغرق ساعتين وأن تكلفة المواد حوالي 50 دولارا وتكلفة عمل يده 200 دولار على أساس 100 دولار في الساعة، فقلت له: 100 دولار في الساعة رقم كبير جدا، أنا أعمل مهندسا منذ أكثر من 30 سنة ولا أتقاضى 100 دولار في الساعة، فرد السباك قائلا: هذا صحيح تماما، أنا شخصيا عندما كنت أعمل مهندسا لم يسبق لي أبدا أن تقاضيت 100 دولار في الساعة!
العجز في المهن الحرفية مثل السباكة والنجارة والحدادة والكهرباء، وحتى أصحاب المزارع يعانون من وجود عجز في العامل المزارع، وأصحاب المصانع يعانون أيضا من وجود عجز في العمالة الماهرة، باختصار يوجد عجز عالمي في المهن اليدوية الشاقة والتي تتطلب جهدا بدنيا وعضليا لعدة ساعات يوميا، ولهذا أسباب كثيرة طبعا، من أهمها: ليس كل الناس تحب العمل اليدوي في الحر أو البرد، يفضلون العمل في الظل، ويستسحن في وجود تكييف، وأيضا العمل اليدوي لا يعطي الوجاهة الاجتماعية التي يعطيها موظف المكتب (حتى لو كان شحاتا!)، كثير من العائلات - حتى الفقيرة - لا ترضى أن يتزوج بناتها من عامل حرفي مهما كان دخله. 

الأفلام والميديا بصفة عامة والتي أصبحت تشكل الوعي الجمعي لمعظم الناس كثيرا ما تقدم العامل وراء الآلة على أنه أقل من الموظف وراء المكتب. وتجد أن معظم البلاد تعاني من بطالة كبيرة وخاصة وسط الشباب الحاصل على شهادات جامعية نظرية واجتماعية، إلا أنها تعاني أيضا من ندرة العامل اليدوي الماهر، مما دفع الكثير من الشباب الجامعي لتعلم حرفة جديدة حتى يخرج من دائرة البطالة اللعينة، وهو اتجاه لا بأس به، ولكني أتساءل، أما كان من الأفضل لمثل هؤلاء الشباب الإنخراط في برامج مهنية حرفية لكي يتعلموا حرفة على أصولها العلمية، بدلا من تعلمها في الشارع؟
الرئيس الأميركي الأسبق أوباما، كان يرغب في أن يدخل كل الشباب والفتيات الجامعة أو تكون هناك برامج إجتماعية تساعدهم على ذلك، وهي فكرة إجتماعية جميلة ولكنها رومانسية جدا، لو إفترضنا أن كل الفتيات والشباب دخلوا الجامعة بلا إستثناء فمن يبني لنا البيوت ومن يقوم بالعمل في مصانع السيارات ومن يقوم بصيانة الطائرات ومن ... ومن.... الصحيح والعملي هي أن تقوم سياسة التعليم في المجتمع على أساس تلبية إحتياجات سوق العمل، الهدف من التعليم ليس للوجاهة الاجتماعية وليس لتهيئة الفتاة والفتى للعمل في وظيفة ما أو مهنة ما، فإن كان المجتمع يحتاج إلى ألف محام وعشرة آلاف نجار سنويا فلا معنى لأن تقوم الجامعات بتخريج عشرة آلاف محام سنويا ولا ينزل للسوق سوى ألف نجار فقط، الحل هو في تحويل العديد من المدارس والمعاهد النظرية إلى معاهد مهنية فنية لتعليم الفتيات والشباب أحدث المهن والحرف اليدوية.
والآن تتجه معظم الصناعات لإستخدام الروبوت لكي يحل محل العامل الماهر والذي أصبح عملة نادرة، وأبرز ما يستخدم الروبوت في صناعة السيارات وغيرها من صناعات التجميع.
وطبعا الأهم من مهنة السباك والنجار هو مهنة لاعب كرة القدم المحترف، من حيث المال والشهرة والوجاهة الاجتماعية، لاعبون مثل ميسي ورونالدو ومحمد صلاح، يحصل الواحد منهم في خلال عشرة أسابيع أضعاف ما يحصل عليه مهندس في كل حياته العملية، حتى لو عمل لمدة 50 عاما. حتى اللاعبين (النص كم) يباع الواحد منهم بـ خمسة ملايين وعشرة ملايين دولار، أنا شخصيا عشت طول عمري مهندس شاطر لو قمت بعرض نفسي على شركة وأسألهم كم يدفعون لنقلي من شركتي الحالية إلى شركتهم لرفضوا دفع أي مبلغ بل ربما طلبوا مبلغ مقابل أن أعمل لديهم!