عام من العزلة في زمن الكورونا

الإنكار تحول بالتدريج إلى حالة من الخوف والقلق الذي تحول إلى هلع عالمي.
نحن مقبلون على عالم جديد تماما، عالم ما بعد الكورونا
الصحة هي أهم شيء في الحياة، وبدون صحة لا توجد حياة حقيقية

مع الاعتذار لعمنا الكاتب الكولومبي العالمي جابرييل جارسيا ماركيز، لقد اقتبست عنواني أشهر روايتين له: "مائة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا" ووضعت عنوان مقالي هذا.
منذ حوالي العام استيقظ العالم فجأة على أن وباء الكورونا بدأ في الانتشار في كل مكان، بدأ الأمر بحالة إنكار تامة، المسؤولون في مصر ومعظم البلاد العربية أنكروا وجود أي حالة أو إصابة بالكورونا، وحتى رئيس أعظم دولة في العالم دونالد ترامب أنكر الموضوع جملة وتفصيلا، واتهم الحزب المنافس، الحزب الديموقراطي والميديا المناصرة بأنه وراء الإشاعة، وأسماها "الأخبار لمزيفة"، وفقد وظيفته بسبب الكورونا، لكي يصبح أول رئيس في التاريخ يفقد وظيفته بسبب "فيروس"!
وبالتدريج تحول الإنكار إلى حالة من الخوف والقلق الذي تحول إلى هلع عالمي، وخلت الشوارع من المارة، وأغلقت المطاعم والمسارح ودور السينما أبوابها، وتم إلغاء كل المناسبات الرياضية بما فيها دورة الألعاب الأوليمبية في طوكيو، وتوقفت حفلات أعياد الميلاد والخطوبة والزواج، وتوقفت الزيارات والولائم، وأغلقت دور العبادة من مساجد وكنائس ومعابد أخرى، وتوقفت العديد من خطوط الطيران المحلية والدولية، وأنهارت البورصات العالمية، وبدا العالم وكأنه على وشك الإنهيار.
وفي هذا الوقت كنت أعيش وحيدا في أميركا حيث زوجتي في مصر لم تتمكن من السفر، وابنتاي تعيشان في نيويورك، وكانت حالات الكورونا في نيويورك آخذة في الإرتفاع اليومي بشكل مخيف مما جعلني في شدة القلق على بنتيّ، ومما ساء الأمر سوءا أنني قمت بتنزيل تطبيق مستشفى جون هوبكنز الأميركية على تليفوني، والذي كان يعطيني على مدار الساعة عدد حالات وعدد وفيات الكوفيد 19، وكنت كل نصف ساعة أنظر إلى تليفوني لكي أطمئن على عدد الحالات في العالم، وخاصة في المدن التي يسكن فيها أقربائي وأحبائي وأصدقائي.
وذات ليلة في أواخر شهر مارس/آذار الماضي كنت في غاية الاكتئاب والتوتر من متابعة تطبيق مستشفى جون هوبكنز، وليلتها قررت أما أن أنتحر وأتخلص من هذا القلق والإكتئاب أو أمتنع تماما عن كل أنواع الميديا سواء ميديا مقروءة أو مسموعة أو مرئية أو وسائل الإتصال الاجتماعية والمهلبية، حتى البوتاجاز بطلت أن أفتحه خوفا من أن تطلع منه أخبار الكوفيد 19.
واستمرت حالة العزلة عندي حتى اليوم، وكنت في السابق أتابع الأخبار حول العالم وكلها أخبار تسد النفس، وكأن مسؤولي الأخبار يتعمدون أصابة المشاهدين والمستمعين بالإكتئاب النفسي من كثرة الأخبار السيئة، ويبدو أنه يوجد عداء بين الميديا والأخبار المفرحة، وخلال العزلة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي فرضتها على نفسي خلال العام الماضي، عرفت أشياء كثيرة جدا:
أولا: ثبت أن الصحة هي أهم شيء في الحياة، وبدون صحة لا توجد حياة حقيقية.

ثانيا: العلماء الذين أكتشفوا لقاح الكورونا أهم كثيرا من كل الرؤساء والملوك ونجوم الرياضة ونجوم السينما ونجوم الصحافة، الذين نقدرهم كما الأنبياء، وصدق عمنا نجيب محفوظ عندما قال في إحدى رواياته بأن: "العلماء هم أنبياء هذا العصر".
ثالثا: فيروس الكورونا كان فيروسا إشتراكيا بإمتياز، ساوى بين الغني والفقير، بين الرئيس والمرؤوس، بين المشاهير والنكرات، بين المصريين والسويسريين والأميركان والهنود.
رابعا: الحمد لله بعد مقاطعة الميديا بأنواعها، إرتحت من مشاهدة الخبير الإسترتيجي والداعية الإسلامي والخبير الكروي والمحلل السياسي وكل مستظرفي التووك شو.
خامسا: الحياة قصيرة جدا ويجب أن نستمتع بقضاء أكبر وقت ممكن مع من نحب، ونقلل من استمرارنا في محاولة تملك الأشياء، وكل شيء تملكه يتملك جزءا منك ومن كيانك.
سادسا: البلاد التي تملك العلم والمعرفة تسود دائما.
سابعا: العالم خسر المليارات، بل التريليونات بسبب كائن لا نراه، ولو استثمرنا جزءا بسيطا من تلك المبالغ على التعليم والصحة ومقاومة الفقر في العالم لأصبحنا نعيش في عالم أفضل، العالم توحد أمام هذا العدو الخفي، لماذا لا يتحد العالم لإيقاف الحروب والمحافظة على كوكب الأرض ونبذ الظلم ومحاربة الفقر والجريمة.
ثامنا: أغلقت دور العبادة (مساجد وكنائس ومعابد أشكال وألوان)، ولم نشعر بأي فرق، لأن من يريد أن يعبد ربه لا يحتاج إلى وسيط أو مكان خاص لكي يتعبد فيه.
تاسعا: نظريات المؤامرة انتشرت في العام الماضي، من أن الفيروس مؤامرة من أميركا على الصين، أو هو مؤامرة من الصين للتخلص من دونالد ترامب، ومؤامرة من بيل جيتس للتحكم في العالم، وضح أن مخترعي تلك النظريات شاهدوا العديد من أفلام جيمس بوند (الشجيع) الذي يحارب بمفرده شخصا شريرا (بمفرده أيضا) يريد أن يتحكم في العالم ولكن مستر بوند يلحق به ويدمره في آخر لحظة.
عاشرا: العمل من المنزل وبعيدا عن المكتب والشراء عن طريق الإنترنت تسبب في توفير العديد من المكاتب والمتاجر والوظائف حول العالم، نحن مقبولون على عالم جديد تماما، عالم ما بعد الكورونا.
حادي عشر: قامت العديد من البلاد وفي مقدمتها أميركا بطباعة تريليونات من الأموال وتوزيعها على الناس لتجنب كوارث إجتماعية وإقتصادية، ولكن كل هذ سوف يسبب تصخما ماليا هائلا قادما.