البشرية ما بين الوباء وصراع الكبار

كورونا اختبار الله بنظر المتدينين من كل الأديان، وهو اختبار العقل من قبل العلماء والمفكرين، وهو فرصة للحرب والجشع بالنسبة لتجار الحروب والكوارث.

سيطرت الصين إلى حد كبير على الوباء الذي بدأت بؤرته الأولى في مدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي، لكن رغم ذلك ما زلت تتصدر الدول الأكثر انتشاراً للفايروس بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية. وقد أشاد كثير من المراقبون بجهودها الجبارة في محاولة أحتواءه، حيث برزت أمكاناتها المتقدمة في المجال التكنولوجي، باستخدامها الروبوتات الذكية كممرضين ومستخدمين لنقل الأغذية والأدوية وقياس درجات حرارة الأجسام، وتعقيم الشوارع والطرق، واستخدمت الكاميرات الرقمية للمراقبة والتعرف على المرضى بالفايروس من أولئك المشاة في الطرقات، واستخدمت الطائرات المسيرة "الدرون" بكثافة لحظر الاختلاط والتجمعات منعاً لانتشاره وغيرها من الوسائل المبهرة.

فرضت الصين حجراً صحياً ملزماً على ستين مليون إنسان ولمدة طويلة (تعتبر الأطول في التاريخ)، وسارعت الصين لنجدة كلاً من إيطاليا وصربيا بالأطباء والأدوية والمعدات الطبية، وقد أشادتا بجهودها ونقل تجربتها لهما، بل أن الرئيس الصربي أدان أوروبا التي تقاعست، بل رفضت دعم بلاده في مواجهة الفايروس. وقد أظهر الوباء هشاشة الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالكوارث إذ رفضت المانيا وفرنسا دعم إيطاليا وإسبانيا بالكمامات الواقية، بحجة أن مخزونها يكفي لمواطنيهما فقط، وهو ما يجعل الاتحاد الأوروبي وقت الشدائد ليس أكثر من كذبة، وفق ما قاله الرئيس الصربي بالحرف في خطاب له قبل أيام.

ترافق انتشارالفايروس عالمياً وتحوله إلى جائحة إلى حرب إعلامية تخفي خلفها حرباً أقتصادية، بين الصين والولايات المتحدة، حيث اتهمت الصين الولايات المتحدة رسمياً بنشر الفايروس من خلال جنودها الذين زاروا الصين وشاركوا في أحد الأنشطة الرياضية، ودعمتها روسيا في ذلك وكانت إيران ثالثهما، دون تقديم أي دليل علمي يؤكد تصنيع الفايروس مخبرياً، في المقابل استخدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب عند الإشارة إلى الفايروس "كوفيد 19" مصطلح الفايروس الصيني، مما أثار حنق الصينيين وغضبهم، فهم يعتبرون أن منشأ الفايروس أميركياً.

يرى البعض في التسمية التي يُطلقها ترامب منطقاً، ولا تحمل العبارة أي معانٍ ذات دلالات سياسية، فتاريخ الأوبئة يُسجل تسميات بأسماء دول منشأها، كالأنفلونزا الإسبانية أو باسم عالم ينتمي لدولة اكتشفت أسبابها، كالحمى المالطية. وهناك الانفلونزا المكسيكية (الخنازير). وفايروس ماربورغ مثلا، الذي يُسبب حمى نزفية، وكان قد ظهر في بلدة ماربورغ الألمانية، وفيروس هيندرا الذي أكُتشف في ضاحية هيندرا بمدينة بريزبان بأستراليا، وفيروس "زيكا" الذي حمل اسم غابة في أوغندا. وفي تصريح لافت وإصرار على التسمية قال ترامب: "لست عنصرياً لكن الفايروس جاء من الصين". واردف في تصريح لاحق "أن على الصين التوقف عن اتهام الولايات المتحدة بنشر الفايروس"، وهذا يعني أن التسمية التي أطلقها تحمل فعلاً أبعادً سياسيةً لا منطقية على الإطلاق.

إذاً ما يعتبر منطقي من أن اسماء الأوبئة لا تحمل عادة دلالات سياسية أو أقتصادية، لا ينطبق على فايروس كورونا فهو على ما يبدو قد تحول إلى أداة للصراع الدولي، بين الصين والولايات المتحدة اللتين قامتا بإغلاق مؤسسات إعلامية لبعضهما البعض بدعوى التحريض السياسي. مع تهديدات متبادلة.

كذلك هناك صراع على انتاج اللقاح المضاد للفايروس، يمكن اعتباره ضمن مسمى الحرب التجارية حيث تجري محاولات من قبل الدول الكبرى لشراء براءات الاختراعات وحقوق الإنتاج، كان أخطرها محاولة الرئيس الأميركي شراء شركة انتاج ادوية المانية برشوة قدرها مليار دولار كي تنتج اللقاح في الولايات المتحدة لتحتكره الأخيرة وتستخدمه ضمن أستراتيجيتها الأقتصادية العالمية، وهو ما أثار غضب الألمان بقولهم "المانيا ليست للبيع".

ما يحدث في العالم أشبه بحالة حرب وفي الحرب هناك رابحون وخاسرون، حتى اللحظة الكل خاسر، الفايروس القاتل الذي وصف بعدو الإنسانية غير المرأي يفتك بالجميع دون تمييز.

انهارت أسعار النفط عالمياً بعد فشل الاتفاق الروسي السعودي ووصلت أسعاره إلى الحدود الدنيا وهو ما سيؤدي إلى تراجع النمو. البورصات في أميركا والغرب وفي آسيا ومنطقة الشرق الأوسط شهدت تراجعات ملحوظة، وتشير قناة CNBC الأقتصادية إلى خسارة البورصة في الولايات المتحدة وحدها، إحدى عشر ترليون دولار بعد كورونا.

ثمة تقديرات من قبل منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن مواجهة كورونا من خلال التوصل إلى لقاح فعال للوقاية منه تستلزم مدة زمنية تقارب 18 شهرا، وهو ما يعني استمرار إغلاق العديد من المنشآت الصناعية والخدمية والطيران وغيرها على صعيد العالم.

ويعني ذلك تكبد اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى خسائر بترليونات الدولارات وقد يعني أيضاً انتشار المجاعة والفقر المدقع في الدول النامية.

في ظل هذا التسارع للأحداث في المجالات الصحية والاقتصادية والسياسية فإن وباء كورونا أسقط العديد من المسلمات التي رُسمت كمستقبل واعد للبشرية مثل مقولات "عالم بلا حدود" أو "عالم بلا كيانات سياسية مغلقة". شكل فايروس كورونا الجديد اختبارا للعولمة، وأغلق الحدود والأجواء والمياه، وباتت الأزمة تُحتِّم إعادة تقييم شاملة للاقتصاد العالمي المتداخل.

في خضم الصراع ضد الفايروس الذي وصف من قبل مدير منظمة الصحة العالمية "عدو الإنسانية" اكتشفت الدول والشركات مدى ضعفها وهشاشتها.

إذ من يصدق، كما يروي صديق مقيم في بريطانيا، أن مشافي بريطانيا وفرنسا ليس فيها كمامات نموذجية لأعضاء الطواقم الطبية، وأن الكمامات التي وزعت عليهم هي من النوع المستخدم في غرف العمليات الجراحية، الذي لا يصلح لمواجهة هكذا فايروسات، وأن الكثير جدا من أعضاء الطواقم الطبية يشترون الكمامات النموذجية على حسابهم الشخصي، كما قالوا وهم على وشك البكاء على شاشات التلفزة البريطانية!؟

من يصدق أن آلاف المواعيد الطبية جرى إلغاؤها أو أعيدت جدولتها حتى إشعار آخر، بسبب اهتراء القطاع الطبي وعجزه؟  

من المحتمل أن ينهي الفايروس القاتل ثقافة العولمة ويعيد نظام الحمائية، ويلغي سياسة الحدود المفتوحة ويطيح بالاتحاد الأوروبي ككتلة اقتصادية سياسية بلا اسيجة، وجدران عازلة، وحدود، ويفككه من جديد، وقد يعيد دوله إلى التغريد بمفردها، كما كانت قبل انشائه وكل ذلك يصب في صالح الشعبوية ذات النزعات القومية الشوفينية والعنصرية، التي تتخذ شعار "أنا أولاً وأخيراً" التي يقف على رأسها اليوم أمثال دونالد ترامب وبوريس جنسون وبولسنارو …وغيرهم وفي هذا تراجع للبشرية.

اعتبرت المستشارة الألمانية انغيلا ميركل فايروس كورونا "أهم تحدي يواجه البشرية بعد الحرب العالمية الثانية"، وهي محقة في ذلك.

الحرب العالمية الثانية انتجت نظاماً ثنائي القطبية، قاد البشرية إلى نوع من الاستقرار رغم الصراع الذي اتخذ اشكالا مختلفة، وتطورت البشرية في ظله، علمياً وتكنولوجياً بشكل مذهل، لكن نظام القطبين الذي حفظ التوازن الدولي، سقط نتيجة انهيار المنظومة الاشتراكية، وفي ظل العصر الأميركي المتوحش، عصر القطب الأوحد، المهيمن على العالم منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي شهدت الإنسانية عدة كوارث هائلة، منها حرب العراق وأفغانستان وانتفاضة العام 2000 في فلسطين وكوارث ما سمي ربيعاً عربياً ومجازر راوندا وبورما وسربرينتسا، وانقسام الدول وتفكهها في أوروبا، وغيرها. عالم ما بعد انتشار فايروس كورونا قد يكون عالماً مختلفاً عن عالم ما قبل انتشاره، على أقل تقدير هذه هي الرؤية الاستشرافية، إذ يرى مراقبون ونحن منهم أن البشرية أمام إحدى احتمالين فإما ستتجه نحو عالم أكثر إنسانية وأقل جشعاً، وإما ستتجه إلى حرب عالمية طاحنة للسيطرة على العالم أقطابها الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، والصين وروسيا وايران وكوريا الشمالية وآخرين في الجانب الآخر.

والنصر هنا غير مضمون لأي من القطبين بل هكذا حرب ستجلب دماراً هائلاً لم تشهده البشرية من قبل.

كورونا اختبار الله بنظر المتدينين من كل الأديان، وهو اختبار العقل من قبل العلماء والمفكرين، وهو فرصة للحرب والجشع بالنسبة لتجار الحروب والكوارث، من سينتصر في النهاية؟

نتمنى أن يكون النصر حليف الإنسانية جمعاء، بتضامنها معاً في قهر الفايروس القاتل، وأن يقودها هذا التضامن أن تسير نحو نظام عالمي أكثر عدلاً، يساعد على تطور الإنسانية ويبعدها عن عالم التوحش الحيواني، عالم الخوف والرعب، عالم الغاب حيث يأكل القوي الضعيف.

يقول أينشتاين أن الحرب العالمية الثالثة ستستخدم فيها الأسلحة الذرية بينما الحرب العالمية الرابعة ستكون أدواتها الحجارة، من الجنون تدمير هذا العالم الجميل الواعد في سبيل أحلام المجانين لاهوتيين وعنصريين وتجار حروب.