التأجيل (الإلغاء) قد حصل، ماذا بعد؟

السؤال الذي يطرحه أغلب الفلسطينيين اليوم: ما الذي سيحدث بعد التأجيل الذي هو إلغاء لأجل غير مسمى؟ الجواب: لا شيء.
إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة تنطلق من شوارع القدس
موافقة اسرائيل ستصبح سيفاً جديداً مسلطاً على الحياة السياسية الديمقراطية الفلسطينية

أُجلت أو أُلغيت الانتخابات الفلسطينية، السبب المُعلن يتمثل في منع سلطات الاحتلال اقتراع المقدسيين في مدينة القدس، والأسباب الخفية الأخرى تتراوح بين ما روج له الإعلام الصهيوني من توقعات بفوز حماس بالأغلبية، وهي أكذوبة لا مكان لها في الحقيقة، لصعوبة حصول ذلك وفق نظام الانتخابات الفلسطيني الجديد، وخلافات فتح الداخلية كما يقول معظم المراقبون من المطلعين الفلسطينيين.

هذه هي الأسباب المباشرة وغير المباشرة أو الخفية لا غيرها التي تقف خلف القرار.

القدس هي مهوى الأفئدة لاشك، وهي طريق الألآم أيضاً ماضٍ وحاضر، ولكنها أيضا وأيضاً المخرج من الأزمات إذا ضاقت الظروف على الفلسطيني فهي مكمن شرارة الانتفاضة ومركز شعلة الإله بها يحيي الحمية الدينية والوطنية ولكنها أيضاً وكما جرى خلال اليومين الماضيين سبباً لتأجيل الانتخابات.

إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة تنطلق من شوارع القدس، ومن قلب الحرم القدسي، لتنتقل إلى حارات وشوارع الوطن الفلسطيني مدن وقرى ومخيمات، وتتجاوزه إلى حيث الفلسطيني في منفاه، اضطراراً لجوءاً واغتراباً، تصدح الحناجر بنشيد القدس، التي هي قلب فلسطين وعنوان الصراع ومفتاح الانتصار أو الهزيمة فيه.

فقد الهب ياسر عرفات الزعيم الخالد للشعب الفلسطيني مشاعر الفلسطينيين خلال انتفاضة الأقصى بشعاره الذي مازال يتردد صداه مدوياً "على القدس رايحيين شهداء بالملايين". ويثور أهل القدس بين الفينة والفينة لأسباب مطلبية لها علاقة بالمضايقات والممارسات الصهيونية في البلدة القديمة وبواباتها وكذلك لأسباب دينية تتعلق بمساس قطعان المستوطنين بالمسجد الأقصى وباحاته، لكن أي فعل مقدسي يحرك الكل الفلسطيني دون بحث في الأسباب، فالخاص المقدسي عام لكل فلسطيني. وما هو عام للفلسطيني إذا أشتعل يتحول عاما عربيا وإسلاميا.

من انتفاضة البراق عام 1929 مروراً بكل الانتفاضات وآخرها انتفاضة مدرجات باب العامود عام 2021 كانت بسبب حدث ما في القدس.

ومنذ التوقيع على أتفاق أوسلو وموضوع الانتخابات في القدس، يعد سبباً من أسباب القلق خشية تعطيلها من قبل سلطات الاحتلال فإن تجري الانتخابات أو لا تجري يرتبط بأجرائها في القدس، وعادة ما كانت الولايات المتحدة وضغوطاتها على سلطات الصهاينة مخرجاً من هذه العقدة، لكن بعد إعلان ترامب ونقل سفارة الولايات المتحدة، لم يعد التدخل الأميركي ممكناً،

وما ظهر يوم أول أمس ومن خلال ما جاء في خطاب الرئيس أبومازن نفسه أن المواقف الدولية، لا يعول عليها، في الضغط على الصهاينة، والأمر لا يتعلق بالموقف الأوروبي فقط، بل بالمواقف الدولية الأخرى.

وكذلك الأمر فيما يتعلق بقيمة ما يتفق عليه مع الصهاينة من اتفاقيات، فما يوقع عليه الفلسطيني (كما يتبين) ملزم له أمام الصهاينة، وما يوقعون عليه يعتبر توقيع صوري، يخضع لتفسيراتهم ولمزاجية الحكومات الصهيونية والظروف الداخلية لديهم والتغيرات في مواقف الإدارات الأميركية.

يتبين فلسطينياً أن الرهان على الخارج رهان محدود التأثير، لذلك على الفلسطيني أن ينتبه للداخل أولاً وأخيراً حيث عناصر القوة الحقيقية.

مبررات التأجيل التي ساقها الرئيس الفلسطيني سواء كانت هي الحقيقة وهي في بعض من منها كذلك أو تقف خلفها أسباب خفية أخرى وهي جوهرية لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، تفصح عن أن سلطة فلسطينية تحت الاحتلال كما هي اليوم تعني فيما تعني أن الاحتلال هو الذي يقرر لها، هذا ما يقوله المنطق.

ولذلك على الأطراف الفلسطينية أحزاباً وحركات وقوائم انتخابية أي كل من يود المشاركة في إدارة سلطة تحت الاحتلال أن يقبل بهذه الحقيقة، التي تقول "الاحتلال وحده هو من يملك المفاتيح السياسية والاقتصادية لحياة الفلسطيني" وذلك وفق منطق وجوهر اتفاق أوسلو الذي كان اتفاقاً مرحلياً وتحول إلى أتفاق أبدي بعد مرور واحد وعشرين عاماً على انتهائه رسمياً بالفشل.

والموضوع لا يتعلق بالانتخابات في القدس فحسب، بل يشمل ذلك أيضا كل مدينة فلسطينية أخرى تحت الاحتلال، فهي بحاجة أيضاً لموافقة الاحتلال، تسجيل المولود الفلسطيني بحاجة لموافقة سلطات الاحتلال، اصدار بطاقة هوية كذلك. السماح بالسفر، كل حياة الفلسطيني في الداخل هي حبيسة موافقة المحتل. والقبول بسلطة وهمية وخوض صراع حولها، هو بحد ذاته ابتلاع لهذا الوهم المسمى سلطة وسيادة وتحرر.

لماذا؟

كون السعي للمشاركة في الحكم يعني تلقائياً القبول بلعبة الاحتلال، وإذا كان الاحتلال هو الذي يقرر؟ فلما العتب على السلطة الفلسطينية ورموزها التي هي محصلة عقد اتفاق بين منظمة التحرير وسلطة الاحتلال؟

لن يقبل الاحتلال بتغيير الواقع الذي نشأ بعد قرار ترامب في مدينة القدس، والإدارة الاميركية الجديدة لن تغير سياسة سلفها، وأوروبا كما تبين ليس لديها حل، إذاً على ماذا سيعول في تغيير موازين القوى بين الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال وقوة الاحتلال الصهيوني؟

في العادة تلجأ حركات التحرر لشعوبها، لكن فلسطينياً وبحسب مخرجات اجتماع أول الامس القيادي، لا يمكن التغيير الا إذا وافقت حكومة الاحتلال. وإلى أن توافق وفق المعادلة الأميركية الجديدة (مخلفات إدارة ترامب) قد يستغرق الأمر سنوات وقد لا يحدث مطلقاً.

موافقة المحتل ستصبح سيفاً جديداً مسلطاً على الحياة السياسية الديمقراطية الفلسطينية وتعطيل إعادة البناء الديمقراطي المنشود شعبياً كونه الذي سيمهد لوحدة وحرية الشعب الفلسطيني بعد خمسة عشر سنة من الانقسام والتناحر الداخلي على سلطة وهمية تحولت إلى عبأً ثقيلاً على الفلسطيني بدلاً من تحريره من ربقة الاحتلال وطغيانه.

جعل الأمر برمته في قبضة الاحتلال يعني أن من كان يحلم بتجديد أو تغيير الحياة السياسية والنظام السياسي الفلسطيني، يغط في نوم عميق، فكل ذلك سيحدث يوماً، لكن في الاحلام. لأن الإرادة السياسية الفلسطينية باتت معطلة أو معوقة أو مرهونة بإرادة الاحتلال.

ولا يمكن القول أن الرئيس محمود عباس يخدع شعبه أو يكذب أو يتحايل عليه، على العكس هو صادق فيما يقول، الرجل كان ومازال مخلصاً للاتفاقيات الموقعة، وهو حريص على تطبيقها إسرائيلياً وفلسطينياً، هو أحد صناعها ومنظريها منذ عقود، ويعتقد أنها المعيار أو الوسيلة الوحيدة للحصول على الحقوق، وبذلك هو يتماشى مع قناعاته المعلنة بأن موافقة سلطات الاحتلال لا المواجهة معها في القدس أساسية وضرورية لإجراء الانتخابات.

باقي الفصائل والقوائم التي تبحث عن مخارج لإنجاح العملية الديمقراطية، هي أيضاً مخلصة لقناعاتها بأن قرار إجراء الانتخابات في القدس يجب أن ينتزع انتزاعا وليس طلبا أو توسطاً أو استجداءً من الصهاينة.

هناك عدم انسجام في الرؤى وهذا ليس جديد. هذا هو الوضع فلسطينياً وهذا ليس اكتشافاً جديداً، فمنذ سنوات عديد هناك رؤية ترى التفاوض وبناء جسور الثقة مع الصهاينة طريق ستؤدي إلى تسوية وهناك من يرى أن ذلك وهم وأن الحقوق بحاجة لنضال بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح الشعبي والمسلح لتحرير الارض والانسان.

صراع الرؤى في النهاية قاد إلى الوضع الراهن فلسطينياً، ليس في قضية الانتخابات فقط، بل في كافة القضايا.

ملخص خطاب الرئيس محمود عباس أول أمس يقول لا انتخابات قريبة طالما لم يعترف الصهاينة بالاتفاقيات.

وإذا نظرنا لموقف الإقليم فإن لا أحد من دوله يرغب في تحرير إرادة الشعب الفلسطيني من الاحتلال. فنهج فلسطيني جديد يعقب انتخابات حرة ونزيهة، يعني مشاركة الكل الفلسطيني في صنع القرار ولا شيء يجمع الفلسطينيين أكثر من النضال من أجل التحرر الوطني ولا شيء يثير حميتهم الوطنية والدينية أكثر من القدس.

وهذا إن حصل سيبعثر أوراق وتحالفات كثيرة في المنطقة سعت لتجاوز الحق الفلسطيني وتحويل الصراع شرقا وشمالاً نحو إيران وتركيا.

لذلك من المؤكد كما تشير تقارير إخبارية أنه قد مورست منذ البداية ضغوطات على القيادة الفلسطينية، حتى لا تجري الانتخابات بحجة فوز حماس التي واقعيا لن تحصل على أكثر من 35-40 مقعد في أحسن الأحوال بينما ستهيمن قوائم فتح الثلاثة على نتائج الانتخابات وفق كافة استطلاعات الرأي السرية والعلنية.

وفي النهاية القدس هي عنوان التأجيل لكن هناك في الخلفيات دوافع أخرى كثيرة منها كلفة التغيير، السؤال الذي يطرحه أغلب الفلسطينيين اليوم: ما الذي سيحدث بعد التأجيل الذي هو إلغاء لأجل غير مسمى؟

الجواب: لا شيء، ستصدر سلسلة بيانات شاجبة لقرار التأجيل كما حصل بالأمس وقد يستمر التنديد والاحتجاج أياماً أخرى.

بعدها سيهدأ الجمع، وستبدأ مرحلة الصراع على الحقائب الوزارية في الحكومة التي سيدعى إلى تشكيلها قريباً، ستصمد الحكومة بضعة أشهر، وستسقط كمن سبقها من حكومات بسبب العجز عن حل مشاكل الاقتصاد والغاء الحصار عن غزة واختلاف الاجندات وستعود الفصائل المتخمة بالأزمات للبحث عن حلول غير تشكيل الحكومات وإدارة الأزمة، وتثبيت الانقسام وتعميقه وسفريات إلى القاهرة والدوحة واسطنبول وذلك بعد أن يسبقها سلسلة من الاتهامات تحمل عبارات مثل "تكفير، تعهير، تخوين، تشكيك".    

ولسان حال المخلصون من أبناء فلسطين "لن يكون جديد إلا إذا عدنا للنضال والنضال وسلطة تحت الاحتلال لا يلتقيان."