'التحنين' موروث شعبي بنفحات الرحلة المقدسة

رغم التعددية الثقافية للمجتمع المصري وتعدد اللهجات من منطقة لأخرى إلا أن أغاني الحجيج جاءت في كلمات متشابهة مؤداه بطقس واحد.

تطل علينا هذه الأيام نفحات الشهر المقدس الذي يحمل في جنباته أعظم رحلة عرفتها الإنسانية رحلة الحج المقدسة، الرحلة التي يرجوها العربي والعجمي من أهل الإسلام، القاصي منهم والداني، من يتمناها من الله ومن آداها ويأمل في العودة، تلك الرحلة التي جاءت تتمم أركان الإسلام لمن استطاع إليها سبيلًا.

لبيك اللهم لبيك

لبيك لا شريك لك لبيك

إن الحمد والنعمة لك والملك

لا شريك لك

نعيش في تلك الأجواء المباركة منذ الأول من ذي الحجة وتبدأ المناسك من يوم التروية حتى نهاية أيام التشريق وطواف الوداع مرورًا بيوم النحر وهو أول أيام عيد الأضحى أعادة الله على أمتنا الإسلامية باليمن والبركات.

تحمل رحلة الحج المقدسة العديد من الطقوس الدينية وأيضًا العديد من الطقوس الشعبية حيث صورت أفكار الجماعة الشعبية صورة خاصة لمفهوم الرحلة المقدسة ووضعت لها مفرداتها الشعبية وعناصرها الروحانية وآدابها وفنونها وأبدعت لها مجموعة من الترانيم باللغة العربية الفصحى تارة وباللهجة العامية تارة أخرى.

تمثل الأغانى الشعبية المرتبطة بالحج أحد السمات المميزة عند وداع أو استقبال الحجيج وأحد العناصر التراثية المرتبطة بشعيرة الحج حيث تعد طقس شعبي له إبداعاته ونصوصه، وتكشف تلك النصوص عن الطبيعة الروحية لهذه الشعيرة في نفوس العامة من أفراد الجماعة: -

فاطنة يا فاطنة يا بت التهامي

أنا جاي يا فاطنة ابوكي دعاني

وفي هذا المقطع يتضح لنا تصورات الجماعة الشعبية لمفهوم الرحلة المقدسة إنها دعوة من رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وبرغم التعددية الثقافية للمجتمع المصري وتعدد اللهجات من منطقة لأخرى إلا أن أغاني الحجيج جاءت في كلمات متشابهة مؤداه بطقس واحد ومقسمة إلى ثلاث أقسام : -

أغاني توديع الحجاج.

أغاني استقبال الحجاج عند عودتهم من الأراضي المقدسة.

أغاني ينشدها الحجيج بأنفسهم خلال الرحلة المقدسة.

وتندرج تلك الأقسام من أغاني الحجيج تحت مسمى "التحنين" أو "حنون الحجيج" وقد جاءت هذه المسميات حيث يحن كافة مسلمو الأرض إلى زيارة تلك الأماكن المقدسة تحقيقًا لقوله تعالى "ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون".

تشغل أغاني الحجيج مكانة هامة في الثقافة الشعبية للمجتمع حيث تعد إرث شعبي ينتقل من جيل لآخر ومن عصر لآخر، وقد شاعت في بادئ الأمر بين النساء كون المرأة حاملة التراث الشعبي تنقله شفاهًة بتلقائية وفطرية من خلال مفردات تبدو سطحية في ظاهرها إلا أنها ذات دلالات رمزية عميقة.

ويحرص أهالي الحجيج منذ لحظة سفر الحاج إلى الأراضي المقدسة على البدء في طلاء منزل الحاج وتزيين جدرانه الخارجية بأحد رسومات الحج المعروفة في إشارة إلى ان هذا المنزل يضم أحد حجاج بيت الله الحرام مع إضافة بعض العبارات مثل حج مبرور... وذنب مغفور.

وعند عودة الحجيج من الأراضي المقدسة تستقبلهم الأغانى التي تحمل كلماتها تهنئة للحجاج على إتمامهم مناسك الحج منها على سبيل المثال : -

مبروك يا حاج مبروك

الفين مبروك

زرت الكعبة وصليت

بين الصفا والمروة سعيت

بالسلامة رجعت البيت

من الملاحظ أن معظم أغاني ومدائح الحج تعتمد على الارتجال في كثير من الأحيان؛ لذا فإن كلمات الأغاني والمدائح قد تختلف من جماعة شعبية لأخرى وهو أمر وارد ومقبول في الأغاني الشعبية حيث تعد أحد سمات الأغنية الشعبية كونها قابلة للحذف والإضافة والتبديل أيضًا، كما أنها تتوافق وتتوائم مع ما يناسب المكان المقدس؛ لذا فقد جاءت أغاني الحج كموروث شعبي يعبر عن قطبي الأمة سواء من المسلمين أو الأقباط فنجد أن أغاني الحجيج في الرحلة المقدسة قد تتشابه بين المسلمين والأقباط.

ففي التقديس (الحج المسيحي) يقال:

على فين يا مقدسة بتوبك القطيفة

رايحة ازور المسيح وأعول الضعيفة

وفي الحج الإسلامي يقال:

رايحة فين يا حاجة يام الشال القطيفة

رايحة ازور النبي والكعبة الشريفة

وهو ما يدلل به على أن أغاني الحجيج موروث شعبي واحد يعبر عن الوجدان الجمعي المصري ويكرس لأداء الشعائر الدينية ويحرص على الاحتفاء بالحجيج في رحلتهم المقدسة، ويعكس الشعور الحسي لدى الجماعة الشعبية إزاء أداء تلك الشعيرة الدينية.

في واقع الأمر فإن الباحث في الثقافة الشعبية يرى مدى ما تحمله أغانى الحجيج من دلالات تأصل وتأسس لتراث ثقافي من شأنه ربط الفرد بجماعته وموروثاته الشعبية بهدف دعم وتعزيز الانتماء لديه، بالإضافة إلى تأصيل الهوية القومية بداخله.

إن موروثنا الشعبي هو الجذر الضارب في عمق التاريخ يشكل شخصية ووجدان هذا الشعب ويميز ثقافته الإنسانية ويحقق التوازن بين ماضيه وحاضره .

كما أنه يعد الملهم للأجيال القادمة مما يضمن استمراريتها ويعزز هويتها وشخصيتها المتفردة ويكرس لأصالتها وتراثها الحضاري.

بحبك يا بلادي