المسحراتي تراث ثقافي وموروث شعبي

سكان كل حي يحرصون على تلك العادة ويتابعون تكرارها كل عام، حيث إن انقطاعها في المعتقد الشعبي يعد نذير شؤم.

العناصر التراثية التي تحمل نفحات هذا الشهر الكريم عناصر حفرت مكانا بارزا في الذاكرة الشعبية لهذا الوطن، حيث تبدأ منذ رؤية هلال رمضان سلسلة من الممارسات الشعبية الرمضانية يعد أشهرها تعليق الزينات والأنوار وحمل الفوانيس وغناء الصغار وإعداد الكنافة والقطايف.

وتجتمع هذه الممارسات الشعبية مشكلة تراثا ثقافيا مميزا وهوية وطنية ذات ملامح متفردة وسمات متوارثة تحتفظ بها ذاكرة الجماعة الشعبية.

في واقع الأمر فإن الاهتمام بالمواسم الدينية ظهر خلال العصر الفاطمي وعرفت باسم "ليال الوقود" أي الليالي التي تضاء فيها الشموع والمصابيح والقناديل في المساجد وهي أول ومنتصف شهر رجب وأول ومنتصف شهر شعبان، وكانت إنارة المساجد الستة الأشهر في القاهرة الفاطمية مسجد الأزهر– مسجد الأقمر– مسجد الأنوار– مسجد أحمد بن طولون– جامع عمرو بن العاص– جامع القرافة.

ثم امتد التقليد ليشمل أيام شهر رمضان الكريم بداية من ليلة استطلاع هلال رمضان حتى صلاة عيد الفطر المبارك وقد ذكر ابن بطوطة هذا عندما تحدث عن زيارته لمصر.

ويبدأ طقس الصوم بعد آذان فجر ليلة الأول من رمضان ويستمر حتى آذان مغرب ليلة عيد الفطر المبارك، ومن المتعارف عليه أن طعام السحور يسبق طقس الصوم-أي الطعام في وقت السَحَر -خلال الوقت الذي يسبق آذان الفجر وتقول الآية الكريمة "والذين يقولون ربنا إننا آمنا... والمستغفرين بالأسحار"، وقد رَغب الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام في السحور فقال "السحور بركة فلا تدعوه ولو إن أحدكم جرع جرعة ماء، فإن الملائكة يصلون على المتسحرين".

وكانت مهمة التسحير في عهد رسول الله (ص) هي مهمة بلال بن رباح رضي الله عنه، حيث كان ينادى للسحور فيهرع الصائمون إلى التسحر حتى آذان الفجر.

وفي مصر يعد "عنبسة بن إسحاق" والي مصر أول من نادى للسحور، حيث كان يطوف شوارع القاهرة ليلًا في رمضان ينادي للسحور سيرا على الأقدام من مدينة العسكر حتى جامع عمرو بن العاص، ولكن ما لبث أن تطور الأمر وصار ينادي في المساجد للسحور.

من هنا ظهرت طائفة المسحرين التي أبدعت في فنون الإنشاد الديني وأضافت له فنون الازجال والأناشيد، مما نتج عنه فن شعبي له مفرداته عُرف باسم "فن القوما" وهو فن شعبي يعد في مضمونه شكل من أشكال التسابيح:

أصحى يا نايم وحد الدايم

أصحى يا نايم وحد الرزاق

رمضان كريم

قول نويت الصيام

بكرة إذا حييت

رمضان
الممارسات الشعبية الرمضانية تبدأ بتعليق الزينات والأنوار

وقد حاول المؤرخون تتبع مهنة التسحير، إلا أن هناك شبه إجماع على أن طائفة المسحراتية أسسها أبوبكر محمد بن عبدالغني الشهير بـ"ابن نقطة" والذي كان المسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وعلى يديه تطورت مهنة المسحراتي وأضاف لها استخدام "البازة" للدق عليها أثناء الإنشاد، وهي طبلة صغيرة يصنع تجويفها عادة من النحاس ومن أعلاها يشد عليها رق من جلد الجمل للنقر عليه وتحمل البازة في اليد اليسرى، بينما تكون في اليد اليمنى عصا من الجلد أو خرطوم من البلاستيك للنقر عليها وكانت تستخدم في مواكب الحج لما لها من صوت رنان.

بالطبع إن مهنة المسحراتي مهنة موسمية ليست لها صفة الاستمرارية طوال العام نظرا لارتباطها بشهر رمضان المبارك فقط، لذا فإننا نجد أن معظم العاملين بهذه المهنة من المرتزقة الساعين للرزق مع امتلاكهم بعضا من مفردات فن "القوما".

ويمتلك كل فرد من طائفة المسحرين أسلوبا خاصا يجمع فيه العديد من المرادفات القولية والغنائية يستحسنه من اعتادوا على سماعه ويجذبهم إليه كونه يقوم قبل رمضان بالاستعلام عن أسماء أصحاب المنازل وأسماء أبنائهم ويدرج في نداءه تحية خاصة لكل منهم ضمن إبداعاته القولية.

ويراعي المسحراتي عدم النداء أو الوقوف أو حتى الدق على البازة أمام منازل من لديهم متوفى منذ وقت قريب أو من لديهم مريض يخلد للراحة وتلك أحد أهم آداب وأخلاقيات مهنة المسحراتي.

ويصاحب المسحراتي في جولاته صبي أو صبية يحمل فانوسا مضيئا، ويبدأ المسحراتي جولاته بعد المغرب بثلاث ساعات ويدور في الحي يضرب على البازة ثلاث دقات ثم ينشد "لا إله إلا الله" "محمد رسول الله" ويبدأ في إنشاد الأناشيد الدينية ويحي أصحاب المنازل بكلمات ثناء لهم ولأولادهم ما عدا النساء - وهي من أخلاقيات مهنة المسحراتي أيضا - ويفصل بين بيت وأخر بأربع دقات على البازة، وعندما يأتي موعد السحور يمر المسحراتي على منازل الحي يدق على البازة اثني عشر دقة كوسيلة للتنبيه ببدء إعداد طعام السحور.

وقد ذكر المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين في كتاباته عن المصريين المحدثين "إن نساء الطبقة المتوسطة يضعون قطعة نقد صغير في ورقة ويقذفن بها من النافذة إلى المسحر بعد أن يشعلن النار في الورقة كي يتمكن المسحر من رؤية مكان سقوطها فيقوم برواية قصة قصيرة في سجع غير موزون لهن حتى يسليهن".

ويحرص سكان كل حي على تلك العادة ويتابعون تكرارها كل عام، حيث إن انقطاع العادة في المعتقد الشعبي يعد نذير شؤم، وتكون نفحة المسحر من باب الصدقة، فهو شهر تكثر فيه الخيرات والاستزادة من الأجر مرضاة لله سبحانه وتعالى.

إن مهنة المسحراتي من المهن التي ارتبطت بالشهر الفضيل منذ اثني عشر قرنا من الزمان، مما يؤكد لنا اعتبار فن التسحير أحد مفردات ثقافة المجتمع كون شهر رمضان من أهم المناسبات الشعبية في المجتمع المصري، كما يعد الإبقاء على مهنة المسحراتي دليلا قاطعا على حرص الجماعة الشعبية على خصوصيات هويتها ومفردات عقيدتها التي تعد جزءا لا يتجزأ من تاريخها وجسر التواصل بين الأجيال، لذا فإن التصدي لمحاولات محو وطمس التراث الثقافي المميز للمجتمع يستلزم تضافر جهود كافة المؤسسات للحفاظ على ذلك التراث والعمل على ترسيخه داخل نفوس أبنائنا حتى نعزز قيمنا المجتمعية الأصيلة.

اللهم اجعل هذا الشهر الكريم شهر مليئا باليمن والبركات على أمتنا العربية والإسلامية واجعلنا من العتقاء من النار يا رب العالمين، وكل عام وأنتم بخير.