رمضان بين الذكريات والموروث الشعبي

طقوس مصر في الشهر الفضيل بدأت منذ قرون عديدة وعاشت واستمرت في ربوع تلك الأرض الطاهرة حتى لحظتنا هذه.

جنة الرحمن ..... هبة الخالق لشعب وادي النيل .... النيل في أحضان الشجر.... المواوويل في ليالي القمر .... بهية .... المحروسة.... هبة النيل.

الزينات والفوانيس.... الكنافة والقطايف.... المدفع وموائد الرحمن... المسحراتي والشيخ مصطفى رفعت.... إنها مصر وطقوسها ذات المذاق الخاص في رمضان حين بدأت تلك الطقوس كانت منذ قرون عديدة وعاشت واستمرت في ربوع تلك الأرض الطاهرة حتى لحظتنا هذه.

تنسم نسائم الشهر الفضيل منذ منتصف شهر شعبان وتلف نسماته داخل كل شارع وكل منزل، تنتشر سلال البلح والياميش تمتلئ بها الشوادر والدكاكين، ينشط باعة المخللات بألوانها التي توشك أن تنادي عليك، تفرش مناضد المشروبات الرمضانية في الشوارع بدايًة من العرقسوس والتمر هندي مرورًا بالسوبيا والدوم ونهايًة بالخروب والكركدية، ويفد صناع الكنافة والقطايف على الأحياء والقرى.

تلك الطقوس الرمضانية التي يمتزج فيها كل طوائف الشعب ويندمج فيها قاطني الأبراج الراقية وساكني المناطق الشعبية في ملحمة مقدسة من العادات والموروثات لدى كافة طوائف الشعب.

إن الممارسات الشعبية الرمضانية المحملة بنفحات وروحانيات الشهر الفضيل هي أحد ملامح المجتمع المصري وهي قصة عشق لا تنتهي تمتلئ بأريج ذكريات الطفولة والصبا تحمل حنينًا لا يوصف إلى سنوات الماضي حين كنا صغارا نخرج مع آذان العشاء حاملين الفوانيس ننادي أبناء الحي لنجتمع ونصحب الآباء والأجداد حتى المسجد ليؤدوا صلاة العشاء ونحن نردد "وحوى يا وحوى"، ثم ننطلق ندق أبواب الجيران تستقبلنا الأمهات بالبلح والياميش نحملها زادًا للطريق الذي تسير فيه تلك القافلة من الصغار تداعب شعلة شمعات الفوانيس خطواتنا وترقص مع حركاتنا، ونظل لساعات بذات النشاط والمرح حتى يقترب موعد السحور ويأتي نداء الأهل مطالبًا بالعودة للمنزل فنتفرق على أن نجتمع غدًا في ذات الوقت لنمارس ذات البهجة.

وتنتقل خطواتنا في ليالي الشهر الفضيل لتأتي طقوس شراء ملابس العيد فنذهب بعد صلاة العشاء إلى المحال التجارية في وسط المدينة لننتقي أجمل ثياب العيد، وكنا صغارًا لا علاقة لنا بالتكاليف المالية ولا الظروف الاقتصادية، بل كان كل ما يشغلنا تلك الصور التي تداعب مخيلتنا حين نتصور أنفسنا نرتدي تلك الثياب.

وفي الحقيقة فإن الآباء كانوا لا يترددون في تلبية مطالبنا وشراء احتياجاتنا برغم ما يتحملون من أعباء مالية تزيد عليهم في هذا الشهر المبارك كرمًا وحبًا لنا ورغبًة في رؤية علامات السعادة والفرح على وجوهنا، ونعود من رحلة شراء الملابس يقتلنا الشغف لارتدائها والخروج للعب مع أقراننا من أبناء الحي ونظل نتكتم شكلها وألوانها حتى يأتي يوم العيد ونرتديها.

وحين يقترب العيد تأتي أسعد أيامنا في الشهر المبارك حين تبدأ أمهاتنا في صناعة كعك وبسكوت العيد فنتشارك معهم ونتسابق مع الأقران ونتنافس مع أبناء الجيران في وضع مكونات الكعك من الدقيق والسمن وندخل فيهما وتمتلئ ملابسنا بهما حتى نصنع عجينة جاهزة للتشكيل فنتناول قطع العجينة لنشكلها ونصنع كعكات خاصة بنا تحمل تصاميمنا الفطرية الإبداعية ونطبع عليها لمساتنا الطفولية التلقائية ونشترط ألا يمسها أو يأكلها غيرنا ثم نشارك في رحلة الذهاب إلى الفرن لخبز الكعكات ونظل نلعب أمام الفرن وكأننا نحرس صواني الكعك حتى ينضج وتعود الرحلة أدراجها مرة أخرى.

وحقيقة الأمر لم تكن صناعة الكعك المنزلي عادة وموروث شعبي تلازم نهايات أيام الشهر الفضيل فقط بل كانت تحمل أيضًا قدرًا كبيرًا من المباهاة بين الأسر، حيث يشير عدد صواني الكعك والبسكوت إلى المكانة الاقتصادية والاجتماعية للأسرة.

في الواقع إن ذكرياتنا في الشهر الكريم ما هي إلا جزء من ذاكرة مجتمعنا التي تحمل سمات هويتنا الثقافية وموروثنا الشعبي الذي يتمتع بملامح متفردة ومضامين تعبر عن وحدة ثقافتنا الشعبية وتراثنا الإنساني الأصيل.

لقد شكلت نفحات هذا الشهر الفضيل إرثًا وجدانيًا عميقًا له جذور ممتدة وضاربة في نسيج هذه الأمة، وعمقت تسابيحه وروحانياته المودة وصلات التقارب والتراحم بين أفراده، وظلت بمثابة أسلحة ثقافية حمت هذا الشعب ودافعت عنه ضد محاولات محو وطمس التراث الثقافي التي تواجه الشعوب في الوقت الحالي، وجعلت خصائص المصريين الديموغرافية ثابتة على مر العصور مكونًة شخصية وتاريخ هذا الوطن.

بحبك يا بلادي

كل عام وأنتم إلى الله أقرب.