القهوة بين عادات الضيافة والموروث الشعبي

المشروب يشكل شعبية دبلوماسية كونه يعزز التواصل بين أفراد المجتمع ويكرس لطيب العلاقات بينهم وتأصل لقيم الترابط والتزاور، مما جعله عنصرًا اساسيًا في الثقافة الشعبية العربية يحمل أبعادًا ثقافية ودلالات رمزية كما تعده الجماعة الشعبية العربية تراثًا مميزًأ له اسس منهجية يتوافق مع ظروف بيئتها.

ارتبطت المناسبات الاجتماعية والدينية دائمًا بالعادات والتقاليد داخل مجتمعاتنا الأصيلة وشكلت تلك العادات  طقوسًا وموروثات شعبية نسجت خيوطها داخل الوجدان الجمعي وشغلت بعدًا ذو آثر نفسي طيب، حيث أعتاد المجتمع العربي ان يستقبلتلك المناسبات بروابط اسرية وعائلية مؤكدًا على صلات الرحم والمحبة التي تجمع بين أفراده بعضهم البعض.

يرصد الباحث التراثي في مجتمعاتنا العربية الكثيرمن عادات الطعام والشراب المميزة لكل مجتمع، والمرتبطة بالعديد من المناسبات الدينية والاجتماعية، وهناك شبه اجماع على بعض انواع من الأطعمة والمشروبات الا انطرق الأعدادقد تتشابه او تختلف.

وتحتل القهوة مكانة مميزة بين شعوب الوطن العربي في كافة المناسبات واللقاءات بل انها أحد أهم طقوس الضيافة بصفة عامة لذا تحرص اجدات والامهات على تجهيزها كرمز من رموز الضيافة وكرم الاستقبال، والقهوة عادة قديمة وتقليدًا متوارثًا متأصلًا في الذاكرة الشعبية ينتقل عبر الأجيال والازمان وتشغل مكانة هامة في التراث الثقافي والهوية العربية.

اشتقت كلمة "قهوة" فى اللغة العربية من الجذر إقهاء بمعنى إقعاد لذا ف أن كلمة "قهوة" تعني قعدة، لذا تسمى اماكن تقديم مشروب البن بالقهوة حتى يومنا هذا، وقد جرت العادة في المجالس ان يحث المضيف ضيفه على إحتساء القهوة بكلمة "اتقهوى" أي تفضل أحتسي القهوة.

والقهوة عند العرب أحد أهم طقوس الضيافة الشعبية ورمز الكرم والترحاب بالضيف، وقد شغلت الشعراء والأدباء العرب وابدعوا فيها من قصائد الشعر وتغنت بها اشهر المطربات على مر العصور، وقد دارت العديد من النوادر والحكايات عن كيفية اكتشافها؟ وكيف أكتشفت؟ ومتى واين أكتشفت؟

والبن نبات حمل العديد من الخصائص والاساطيرايضا فمن المؤرخين من ذهب إلى ان النبي داوود أول من أكتشفها حيث جاء في حديثه أن في اليمن ثمر يغرس حبه في مارس ويقطف في أغسطس وهو يساعد على الاستيقاظ والتنبه، ومنهم من ذهب إلى ان شجر البن قد أكتشفها أحد الرعاة حين وجد قطيعه من الغنم تنشط وتمرح عندما تأكل من هذه الشجرة، فيما ذهب بعضهم إلى أن الحبشيين أول من أكتشفوا حب البن وكانوا يمضغونه نئ ثم ما لبثوا أن شربوا منقعوه وكان يستخدم للتداوي.

اما المثبت فعليًا انه شاع في اليمن على يد الشيخ الجليل جمال الدين أبي عبد الله بن سعيد والملقب بالذبحاني حيث أقام في الحبشة مدة من الزمن فوجد أهل الحبشة يشربون منقوعه فيذهب عنهم النعاس والكسل فلما شربه وجد فيه إجتلابًا للسهر وتنشيط البدن، ومن اليمن انتقلت القهوة إلى الأتراك في عهد سليمان القانوني حيث جلبها الأتراك من اليمن إلى أستانبول وأضافوا إليها السكرثم ما لبثت أن انتقلت من تركيا إلى أوروبا في أوائل القرن السادس عشر.

تجهز القهوة بوضع حبوبها في المحامص على النار وتقلب حتى تتحمص جيدًا ثم توضع الحبوب في نجور من النحاس (الهون) وتطحن لتحويلها إلى مسحوق ناعم ثم تذاب في الماء الساخن وتترك دقائق قبل شربها، وتتفنن المجتمعات العربية في طرق إعدادها فيضاف لها القرنفل والروز مارى في مصر والزنجبيل والفلفل الأسود في السودان أما في الخليج والسعودية يضاف لها الهيل.

للقهوة عادات وتقاليد عند العرب فتقدم للضيف فور دخوله للترحيب به فإذا كان مجيء الضيف في طلب فإنه يمتنع عن شرب القهوة حتى يجاب طلبه،وعادة ما يشرب الضيف عدد من المرات حسبما يرغب حتى اذا انتهى هز الفنجان عدة مرات، وهز الفنجان عند العرب له دلالة رمزية حيث أعتاد العرب في الماضي اختيار الساقي الذي يقوم بتقديم القهوة من ذوى الصم والبكم حتى لا يسمع او يتحدث بما يدور في المجلس من احاديث واسرار، ويعني هز الفنجان إكتفاء الضيف بما شرب من القهوة وهي عادة مترسخة في المجتمعات الخليجية والبدوية.

تقدم القهوة باليد اليمنى ويبدأ الساقي بكبار القوم أولًا ثم بقية الرجال تباعًاويستمر الساقي في الدوران حاملًا الدلة باليد اليسري ليصب منها لمن يرغب من الضيوف حتي يسلم الضيف الفنجان للساقى، وللقهوة دلال مختلفة الا ان أشهرها الدلال المصنوعة من النحاس الأصفر، والتي تصنع في سوريا وتحمل اسم "رسلان" وهي عائلة سورية اشتهرت بصناعة الدلال النحاس وتوارث ابناؤها تلك الصنعة.

وتعددت اسماء فناجين القهوة عند العرب طبقًا لطقوس تقديم القهوة عند العرب ومنها:

فنجان الهيف: وهو اول فنجان في الدالة ويشربه المضيف أمام ضيوفه حتى يطمئن المضيف لطعم القهوة، ويحمل هذا الفنجان دلالة رمزية عند العرب حيث يدل على ان القهوة صالحة للشرب وليس بها ما قد يثير قلق الضيف.

فنجان الضيف: وهو فنجان تحية الضيف ويقدم للترحيب به، ويحمل هذا الفنجان دلالة رمزية عند العرب حيث يدل على العهد بين الضيف والمضيف بعدم الغدر والخيانة ويشبه رباط العيش والملح في العادات الشعبية.

فنجان الكيف: وهو الفنجان الذي يعبر عن اعجاب الضيف بمذاق القهوة ويحمل هذا الفنجان دلالة رمزية عند العرب حيث يعبر عن سعادة الضيف بترحاب المضيف.

فنجان السيف: وهو يمثل عهد يأخذه الضيف والمضيف على أنفسهما بالزود والدفاع عن بعضهما البعض.

فنان الحيف: وهو يمثل حق للضيف أو مظلمه للضيف عند شخص ما فيذهب إلى شيخ قبيلته فلا يشرب قهوته حتى يعود له حقه أو ترد عليه مظلمته، ويتبع ايضًا في حالات الثأر فإذا شرب احد الحاضرين فنجان المعتدي وجب عليه الثأر والقصاص منه.

فنجان المواساة: وهو ما يشرب في العزاء ولا يزيد عن فنجان واحد ويعاد للساقي مصحوبًا بعبارة "خاتمة الأحزان" أو اى عبارة تدل على مواساة أهل المتوفي ومن المعروف أن القهوة المرة بدون سكر تقدم في مناسبات العزاء في مصر.

ذكر المستشرق البريطاني "ادوارد لين"في كتابه "عادات المصريون المحدثون" ما بين 1833 -1835، ان المصريين يعدون القهوة من ثمار البن وقشوره وأن سكان شبه الجزيرة العربية يعتمدون هذه الطريقة في تحضير القهوة، سائر بلدان الشرق الأخرى فيعدون القهوة من قشور البن الطازج المحمص بعد سحقه، وجدير بالذكر أن حفظ البن أخضر دون تحميص أو طحن يزيد من المواد الفعالة والمنشطة به، وتعد عملية تحميص وطحن القهوة عند إعدادها ثم شربها إذا ما تمت في آن واحد تحفظ للقهوة خصائصها وميزاتها.

وقد شغلت القهوة مكانة هامة ضمن الأدب الشعبي دلالة على عشق العامة لشربها وارتبطت ببعض الأمثال الشعبية عند العديد من المجتمعات العربية ففي مصر يقال "سكب القهوة خير" وايضًا " أستغنى عن قصر ولا تستغنى عن قهوة العصر"، وفي الأردن يقال: القهوة قص والمنسف خص"، وفي فلسطين "دخان بلاقهوة راعي بلا فروة" ويقال في الأمارات "اللي ما عنده دلة ما حدا يندله" بمعنى من لا يملك دلة ليس له مكانة بين الناس.

من هنا شكلت القهوة شعبية دبلوماسية كونها تعزز التواصل بين أفراد المجتمع وتكرس لطيب العلاقات بينهم وتأصل لقيم الترابط والتزاور، مما جعلها عنصرًا اساسيًا في الثقافة الشعبية العربية تحمل أبعادًا ثقافية ودلالات رمزية، كما تعدها الجماعة الشعبية العربية تراثًا مميزًأ له اسس منهجية يتوافق مع ظروف بيئتها الغنية بالموروثات الشعبية.

بحبك يا بلادي