"التراشق بالعطر التاسع" حكمة تتعالى في الفضاء

تيه طويل يبحث عنه القاص العراقي نشأت المندوي ويسطره على الورق الأبيض حتى يلسع به قلوبنا المتصدئة.
 الانكسارات المؤلمة للنفس البشرية من الصعب اقتناصها، إلا من يملكون المواهب والذين يبحثون عنها ويشتغلون عليها في تفاصيل الحياة اليومية
ما بين القص وفلسفته مسافة خاصة تشكل الرؤيا الجمالية عند المبدع الذي يكتب القصة أو الرواية

عن دار سطور للنشر والتوزيع بشارع المتنبي ببغداد، مدخل جديد حسن باشا - صدرت المجموعة القصصية للقاص العراقي المغترب الذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية نشأت المندوي، والمعنونة "التراشق بالعطر التاسع" وتقع في 85 صفحة من القطع المتوسط.
تشتعل في كل ذات إنسانية مجموعة من الآهات ترافقها انكسارات، والتي يُطلق عليها "انكسارات الحزن الإنساني" وهذه الانكسارات المؤلمة للنفس البشرية من الصعب اقتناصها، إلا من يملكون المواهب والذين يبحثون عنها ويشتغلون عليها في تفاصيل الحياة اليومية.
"علتنا في ثقافة الكراسي" (ص71).
وخاصة من المعنيين في المجال الأدبي والفني، عبر آليات تدفعهم إلى طرق أخرى، محاولين بذلك تخفيف وطأة هذا الحزن الإنساني، الذي أصبح يشكل خطرا على الحياة اليومية على مستوى الأفراد في كل مكان "الحرب إنتاج بشري بذيء يكثر حين يغيب العقل" (ص 27).
وهم يؤسسون للقيم العليا في المجتمعات،  ومن هؤلاء البشر هم الأدباء، ولأن الأدب الملتزم هو أن يحمل الأديب هموم الناس الاجتماعية والسياسية ومواقفهم الوطنية، كارهين جميع الحروب وكل ما يخدش الإنسان. والمعني بهذا الشأن يواكب مسيرة هؤلاء الناس بكل دقة ويحاول رسم  أفقه النير عبر العديد من الطرق المشتعلة بالحب والحياة، وأن يقف الأديب بحزم لمواجهة ما يتطلبه هذا الأمر، ويصل إلى حد إنكار الذات في سبيل ما التزم به. 
"خبز السلطات ملوث لأنه يفتقر للمحبة" (ص71).

القصة تعبير عن إيقاع الحياة، وإعادة صياغة الحياة بحس فني قصصي راق

وهذا التيه  الطويل الذي يبحث عنه القاص المندوي ويسطره على الورق الأبيض حتى يلسع به قلوبنا المتصدئة، والتي تعبت جراء الحروب، والموت، والقتل، والمشاكل التي أوصلتنا إلى ما هو عليه الآن بسبب البعض، حتى صرنا في واد والعالم في واد آخر. وهنا نقول للقارئ العربي بوصف النص كما يصفه البعض من المشتغلين في الحقل النقدي تعبيرا عن حساسية العلاقة بين الذات والآخر، أو بين القاص صاحب المنجز والواقع، أو بين النص والوجود، لأن الوجود بحد ذاته نص مبهم يحتاج إلى من ينهض به ويفك طلاسمه. 
"إن النواح لا يحمي وحيدك، كثري القطرات فالحزن الأبيض إذا اقتحم الروح رمًدها" (ص 29).
وحتى لا يغيب عنا وعن المشتغلين في هذا المجال، وأقصد المجال القصصي، ومنهم القاص المبدع  نشأت المندوي الذي يكتب قصصه بمضامين إنسانية نابعة من أعماق إنسان يعيش المعاناة والحرمان "تتلوى بين محنة الانتماء ونظرية الوطن" (ص29).
إن ما بين القص وفلسفته مسافة خاصة تشكل الرؤيا الجمالية عند المبدع الذي يكتب القصة أو الرواية، فالكل يعرف أن القصة رسالة وفلسفة تحمل رسالتها المجتمعية والإنسانية في قالب جمالي، وما يدور من حوله من صور ومشاهد مؤلمة وخاصة نحن الذين يعيشون في هذا العصر، وهو عصر الانحطاط  ورائحة الدم التي أصبحت تتناثر في مدننا المتعبة.
"إن الحياة تتمدد لفصول باليوم وتضيق لساعات بالمزاج" (ص44).
ومن إستعمال اللغة القادرة على الوصف والتوصيف، وصولاً بالقارئ إلى الرؤيا الجمالية التأملية، ومن خلال العنوان يتدفق هذا السيل الجارف بعذابات هذا الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، كما أن للقصة دورا في تقليل مقاومة التغيير، والقصة تجعل الموضوع حقيقا للمتلقي أو الجمهور وذلك لسهولة فهمها عبر لغة مختزلة، ومكثفة، وفيها من الدلالات الكثير حتى يضعك على جادة الصواب.
"متى يقلقك الوطن فتشعر بوجوب التضحية" (ص81).
يقول عنه الناقد الكبير الدكتور د. حاتم الصكر: يترك المندوي لقارئه التراكيب والعبارات، النهايات غالبا مفتوحة وأن يسهم في تخيل وقائعها. مؤكدا للقارئ لا تعيش القصة القصيرة هذه الأيام أفضل حالاتها، بسبب الهبَة الروائية الكاسحة التي نشهدها  منذ سنوات. وجاء القاص المندوي منذ العنوان إلى آخر قصة في مجموعته برسائل تبحث عن إيجاد حلول لمشكلات هذا العالم، وهي إنسانية في غالبها تنحاز للمهمشين ومنهم المرأة خاصة وموقعها في المجتمع، وكذلك ما يحصل لشخصيات عادية من الشبان  واليافعين أو الكادحين، ومن هنا تأتي مجموعة القاص العراقي نشات المندوي تعضيدا لهذا الفن الموصوف بأنه الأخت الصغرى للرواية، وهي موضوعات تقترب من الواقعية، ولكن المندوي ينقذها من الفوتوغرافيا باعتماده لغة شفيفة، ترينا ما فيها من مجازات وتشبيهات مقدرة الشاعر على الارتفاع عن أرضية الحدث لخلق عالم سردي.  

The Iraqi story
كتب إستثنائية تحمل شحنة إبداعية 

"بداخلي صعد الشيطان ثملا، وفي مخيلتي تبخرت كل تشوهاتي  قاطبة" (ص18).
والمندوي الذي بدأ بكتابة القصة والنقد والمقالة منذ منتصف الثمانينيات وله نتاجات أدبية منها "رائحة التفاح" مجموعة قصصية عام 2005، "مرافئ خجولة" مجموعة قصصية عام 2009 "حين يتكلم الجسد" عام 2014.
ولا ننسى أن القاص المندوي ومن خلال قصصه التي كتبها في هذه المجموعة "التراشق بالعطر التاسع" وهو السارد يحاول شحن مفرداته بطاقة معبرة نسق يمنحها التماسك، وهو يسرد ويصورّ كيف جرت الأمور معه في هذه الحياة، وما حقيقة عصره المبتلى فيه، حيث نجد قصصه التي تحمل كل ندوب هذا العالم الذي يأخذ مكانه تحت أسواط هذا العالم الذي تسيطر عليه الأيدلوجيات، وكل هذا نجده في قصة "جندي"، "الكبرياء"، "محنة" وغيرها. 
"لأن الحرية حين تتساقط ليست لها فصول" (ص82).
وحتى لا يفوتنا في هذه المقالة لمجموعة القاص المندوي الذي أراد القول إن القصة هي تعبير عن إيقاع الحياة، وإعادة صياغة الحياة بحس فني قصصي راق، تقول عنه الكاتبة اللبنانية مريم شهاب في جريدة "صدى الوطن" ثمة كتب إستثنائية تحمل شحنة إبداعية كما لو كانت بيت شعر أو حكمة أو مثل، فيها ما قل ودل، ومنتصرة باختزالها.
"سنين وطاحونة الوهم تدور بي كناعور، يتأرحج بين أمل متهور وثرثرة بائسة" (ص63).
"التراشق بالعطر التاسع" وهو يسيل ببساطة وسلاسة وأدبا رفيعا في قالب ذكي يفوح عطرا ودفئا ورشاقة وبدون تشنج.