التقنية وأزمة التفكير في الوجود الإنساني

التقنية في معناها الواسع تطبيقات عملية ومجموعة من الإجراءات القابلة للنقل والتحويل، والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة.
الانتقال النوعي والكمي من مراحل مختلفة، أضفت نوعا من القدرة الخاصة بالإنسان
عالمنا يحكمه صنّاع البرامج ومهندسو الحواسب، ورواد التقنية من موظفين وتقنيين

التقنية في معناها الواسعة تطبيقات عملية ومجموعة من الإجراءات القابلة للنقل والتحويل، والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة كما جاء في المعجم الفلسفي لالاند،  تستهدف تغيير عالمنا المادي، وإحداث تغيير بالوسائل والآليات الممكنة، تُستعمل في عدة ميادين من الحياة، وتقدم نفسها على أنها الوسيلة الفعالة في الإنتاج والتسويق، وتحويل الخيرات الطبيعية لأشياء مادية، تفيد النوع البشري في وجوده للبقاء، والتكيف مع الحياة، آلات ووسائل أو بمعنى أدق تعني التقنية التطبيقات العلمية للعلم في وحدة مركبة بين النظري والعملي، نظرا للتكامل بين المعطى النظري، والأساس التطبيقي للأفكار والمعارف، مجموعة من الطرائق والإمكانات اللازمة في الاختراع والابتكار. 
وتعتبر التقنية، وما يتعلق بالأدوات المصنوعة القديمة التي لازمت الإنسان، من تقنيات الصيد، ونصب الفخاخ للحيوانات، وإعداد الطعام وتحسن الأوضاع المعيشية، أدوات بسيطة في الاشتغال، كانت بالفعل مقرونة بالأدوات الصناعية، من مراحل مختلفة، ولعل الدراسات الفلسفية للفكر الماركسي بينت ذلك التقبل بين الوسائل والأفكار، والانتقال النوعي والكمي من مراحل مختلفة، أضفت نوعا من القدرة الخاصة بالإنسان، الكائن الصانع والفاعل في تغيير التاريخ، والذات الفعالة في قدرتها على ابتكار وسائل، والفكر الانثروبولوجي مع التطورية، يبين مراحل تطور الإنسان بتطور الأدوات المصنوعة. واللافت للنظر قيمة هذه الدراسات للمجتمعات والثقافات لأجل استخلاص النتائج ورصد حركة التطور التاريخي، تتبع أسباب وعوامل التقدم الثقافي والاجتماعي في المجتمعات البدائية، فعندما يتغلغل الباحث في صلب الثقافة، تتناسب الوسائل والآلات والمعدات التقنية مع نمط التفكير السائد، هذا دليل على دينامية التقنية وملاح العصر التقني، من اختراع الآلة البخارية، والأدوات في الملاحة والفلاحة إلى الثورة الصناعية والتكنولوجية العالية الدقة، والمهارة، جودة الإنتاج والكم من الصنائع، يعني خبرة الإنسان ومهارته في الريادة والسيطرة على الطبيعة، ذلك طموح الفلاسفة من فرانسيس بيكون إلى ديكارت، وراء هذا الطموح النزعة الوضعية للعلم الحديث في التجريب والتجربة وإرغام الطبيعة عل الامتثال، فكانت الأدوات والآلات تعبيرا عن روح العصر وهيمنة التقنية، إنها انكشاف بالتعبير اليوناني، لا تنتج معنى، نوع من التحريض وتسليم الطبيعة، والعبث بكنوزها.    

ما يجعل التقنية بالفعل خطة حياة هادفة ومفيدة في سعادة النوع الإنساني، عندما تكون موجهة لأغراض نبيلة بعيدا عن التهديد والتدمير

لم نتساءل عن القوة التدميرية للتقنية إلا في الآونة الأخيرة، في تساؤلات الفكر الفلسفي المعاصر، الذي ربط بين العلم والتقنية كإيدولوجيا عند هابرماس وغيره، والربط المتين بين التقنية والحقيقة والوجود عند الفيلسوف هايدغر، وهذا الخوف الواضح من تداعيات العصر التقني على الإنسان والإنسانية، في تأملات الفيلسوف إرغار موران للمستقبل البشري، والكم الهائل من الأدوات التي أصبحت تهدد وجودنا وسلامتنا. 
في تأملاتنا للتقنية، غالبا ما ننزح نحو إثبات الجوانب الايجابية والسلبية معا، ونركن في الادعاء الصريح أن التقنية ماهية الإنسان، والعصر التقني لا مفر منه، والإنسان الصانع قبل الإنسان العاقل، والحاجة جعلت الناس قديما يصنعون أدوات ويبتكرون وسائل مناسبة، والتقنية قدرنا في عالم استهلاكي، لا يمكن السيطرة فيه على الطبيعة إلا بالأدوات، وبرمجة التقنية للرفع والزيادة من الإنتاج، وتحسين المردودية حتى نحافظ على سلامة الوجود الإنساني، ونقلل من الحروب والصراعات طلبا في الرخاء عندما تنوب الآلة عن الإنسان، وتصنع من وجودنا ما يريحنا ويسعدنا، ونغفل فكرة أن التقنية اكتسحت عالمنا، وبقدر ما قربت لنا المعلومات، وسرعت من انتشار الأخبار والصورة، لكنها لم تعزز سبل تطوير التفكير وأدوات الفهم لوجودنا، حتى نكون في غاية الإنصات للوجود، واستيعاب خفايا العصر الذي يحمل لنا مزايا وخبايا، قيمة التقنية في المنفعة، وحسن استعمال الأدوات بطرق أرحب، لا نجعل من أنفسنا في علاقة استلاب، تنوب عنا التقنية في كل الأشياء، أي نحن مطالبين، كما بين مارتين هايدغر بالكشف عن ماهية التقنية، والموقف التقني في زمن هيمنتها، أي لا ينبغي اختزالها في الأدوات، وما هو فني وتقني من خلال تخصصات عالية الدقة، أو نسق الآلة المعقدة، أو النظر للتقنية من خلال وظيفة الأدوات المبتكرة، بل منطق الفهم يلقي علينا إمكانية النفاذ لماهيتها وسحرها، طرق التفكير والتأمل في أفكارنا وتصوراتنا عن العالم والأشياء، الأداة التي نستعملها وهي منفصلة عن جوارحنا وأعضائنا، نحن الذين نحرك الآلات، ونتفنن في صناعتها وابتكارها، حتى تمنحنا القدرة في تبسيط الأشياء.
أما الفكر الفلسفي المعاصر في تأملاته الفلسفية، فإنه يقصد تشخيص أحوال العصر والإنسان معا، يحاول كشف المستور، وإزالة الغموض عن العالم، من خلال فك الخيوط المترابطة عن علاقتنا بالتقنية، ومصير الوجود الإنساني، وما يعانيه من اغتراب، وتراجع التفكير في الوجود والانغماس في الموجود، حتى تحول هذا التفكير تقنيا بامتياز، لا يتساءل، بل يكتفي بالجاهز والنافع، ويزيد الحقيقة غموضا، رغبة التفكير المعاصر في خلخلة التفكير الميتافيزيقي، التجاوز كسبيل نحو باء أسس التفكير الذي يعيد الاعتبار للكائن والكينونة معا، في ظل هذا التهديد الذي بدأنا نلمسه في هيمنة التقنية، وسمات العصر التقنية، باعتبارها قدر العصر، ونتاج للحاجات، ودواعي الزيادة في الإنتاج والسيطرة على الطبيعة، منذ ديكارت والتفكير الفلسفي الغارق في الذاتية وهيمنة العقلانية الأداتية، عندما تحول العقل كأداة في تطويع الطبيعة، وتسخيرها بطرق بشعة وصلت حد الاستنزاف. 
عصرنا مسكون بالهواجس، كالخوف على المصير، وضياع الإنسان في عالم الاستلاب والاغتراب، واكتساح التقنية للوجود الإنساني، وتراجع التفكير في الأزمات، والقلق الذي ازداد بازدياد التقدم التقني، الذي يميل لما هو كمي أكثر من الكيفي بتعبير هربرت ماركيوز، أي الزيادة في الإنتاج والتراكم في المجال الاقتصادي والصناعي والتجاري، لم يصاحبه الزيادة في توسيع هامش الحرية والكرامة، وحتى التقنية تهيمن على العلم والفكر. هدف العلم الموجه من قبيل التقنية تحليل الظواهر وقياسها بمقياس المنفعة، وليس العلم الذي نعتقد أنه يؤسس للنظريات العلمية الصلبة، المفيد في التغيير، وفهم القوانين الكونية، يعني العلم ليس مستقلا بذاته في واقع الهيمنة والإرغام من قبل التقنية، ولذلك حاول الفلاسفة الألمان هايدغر وهابرماس وماركيوز وغيرهم من المعاصرين تلمس طرائق جدية في فهم التقنية وعملها، وطرح السؤال عن ماهيتها، وعلاقتها بالإنسان والعصر، في حيثيات الأسئلة، محاولة جادة منهم لإزالة الغموض، واستدراك الأزمة المزمنة، التي تفضي بالتحولات العميقة في مجال الفكر، وانعكاس ذلك على الوجود الإنساني. 
التقنية ليست هي ماهية التقنية، والموقف التقني يعني غياب التحليل والتشخيص، والاكتفاء بفكر يميل للتكميم والمنفعة. التقنية كما يقال ليست وسيلة أو عبارة عن أدوات ومصنوعات ووسائل، بل نمط من الانكشاف الذي يقودنا للحقيقة، لعل هايدغر في مراوغته يعيد النظر في مجموعة من المفاهيم، منها الحقيقة، والتي من فرط استعمالها أصبحت مستهلكة، وبالتالي تستدعي مواقف وآراء جديدة، لكن الفيلسوف وكعادته في التقويض والنقد، يعود للوراء في طرح المعاني السالفة للحقيقة في بعدها الذاتي والمثالي والموضوعي، ويكشف عن تداعي وتهافت الأفكار، من أفلاطون إلى نيتشه، يعود بالتفكير للوراء زمن بارمينيد وهيراقليد، فلاسفة الوجود الثابت والمتغير، الحكماء الذي أزالوا الحجب عن الحقيقة، من فكر تتمركز فيه الحقيقة بين التحجب والانكشاف، الفكر هنا كان مدعوا للفهم والتأمل في الوجود الأصيل، ومنصبا على الوجود، وليس الموجود والأشياء. 

طرأت تحولات عميقة في توجيه بوصلة التفكير نحو الطبيعة بواسطة التقنية في عملية تحريض، حتى تظهر الطبيعة طاقتها، وبالتالي نتجت الآن تحولات كبيرة تنذر بنهاية الوجود الإنساني بفعل تفكير يروم التكميم والعد والحساب، وبات الإنسان صورة من صور الإنتاج، والخوف الشديد أن يتحول الإنسان إلى مادة أولية للتقنية، أو ينتج هذا الفصل النهائي بين عالم الطبيعة والمادة، وعالم الروح والثقافة، هنا نعثر على تأويلات الفيلسوف ديلتاي، والتفكير الألماني بصفة عامة في نقده الشديد لانفصال التفكير عن ذاته في عملية الفهم والتفسير معا للطبيعة والحياة، العلوم التي تدرس الروح هي العلوم الإنسانية، وما تقدمه من معالم الفهم والتأويل للفعل الإنساني، وعلوم الطبيعة، وما تقدمه من تفسير سببي وقوانين خاصة بالطبيعة. 
ما يخشاه هايدغر في هيمنة العصر التقني إذا تحولت التقنية إلى أيديولوجيا تكبل العقول والنفوس، وتفرض نفسها كفكر أحادي خال من الروح والتفكير في الوجود الإنساني، يعني انسداد الأفق، وتلاشي الإنسان، وضياع الأمل عندما يتحول الكائن الإنساني لأداة تسخره التقنية لأغراضها حتى يصبح موظفا للتقنية.   
عالمنا يحكمه صنّاع البرامج ومهندسو الحواسب، ورواد التقنية من موظفين وتقنيين، تراجع السؤال والتفكير على منوال قدماء اليونان، فأصبح عالمنا مهددا بانفلات التقنية من الأخلاق والضمير الموجه للأدوات، حتى لا يفقد الإنسان جزءا كبيرا من إنسانيته، ويصير مستلبا ومكبلا بأغلال الفكر الجاهز دون النفاد لجوهر التقنية، مواقف الفلاسفة من هيجل وماركس ونيتشه كلهم اكتشفوا معاني الحقيقة في الإنتاج والاقتصاد، وفي إرادة القوة، وقدرة العقل اللامتناهي على تغيير الأشياء، في الانتقال الكيفي من الذاتي نحو الموضوعي، محاولات التفكير الفلسفي اليوم هي الكشف عن المستوى الفني العملي لما تقدمه التقنية من مزايا وسلبيات، من التقنية الإعلامية والبرمجيات، وعصر الصورة وتدفق المعلومات، وتوجيه العقول نحو الاستهلاك، وخلق جمهور بمواصفات، إضافة للأجهزة الذكية التي انسلت ودخلت مجالنا الذاتي واقتحمت الصورة عصرنا وبيوتنا، معالم العصر السائل تغيرت فيه الحياة، وصرنا في زمن اللايقين وفقدان المعنى. 
لم تعد الفلسفة تتساءل عن الممكن، لأنها أكثر عناية بالموجود واجترارا لماضيها، ولم يعد الإنسان يكترث بالسؤال والمصير، وكأننا كائنات مبرمجة في نمط حياتها وأسلوب عيشها، وعندما يعيد التفكير الفلسفي صياغة الأسئلة، ليس للحد من التطور التقني، فنحن لا نملك القدرة والاستطاعة في منع التقدم التقني وشل عجلة التنمية، لكننا ملزمين في فهم تداعياتها ومخاطرها على الوجود الإنساني، مأزق الإنسان في العصر التقني، أفول العلاقات الإنسانية، وانعزال الذات في عالم الحواسيب، والهواتف، وكل استدلال يأخذك لعالم الصورة المتعددة الأبعاد، وجمالية الإخراج التقني، وتناسل البرامج والأدوات التقنية، لكننا نعتبر التقنية مفيدة في جوانب الإنتاج والمردودية، بل تحتاج التقنية إلى فعل الأنسنة. طابعها السلبي أصبح طاغيا ومهيمنا للطبيعة والإنسان معا، وعندما يتقدم السؤال ويعبر التفكير الفلسفي عن موقفه في جوهر التقنية، هذا لا يعني الدعوة لإزالتها، بل فهمها حتى ينعم الوجود الإنساني بالطمأنينة، وتوجه التقنية لأغراض مفيدة في استئصال الأزمات وسد الحاجات، والتأسيس للوجود الإنساني الأصيل المفعم بالحيوية والإنسانية، وما يجعل التقنية بالفعل خطة حياة هادفة ومفيدة في سعادة النوع الإنساني، عندما تكون موجهة لأغراض نبيلة بعيدا عن التهديد والتدمير.