الجنة، هي أن تقرأ

صحيح أن الروائي أو الشاعر يبدأ من "واقع افتراضي"، إلا أنه في نهاية المطاف نوع من "خالق". وهو بذلك يمتلك شيئا، ولو رمزيا، من صفات الخالق.
رواية ليست خالدة بذاتها ولكنها على عكس كل الروايات الأخرى، تنتهي بما لا ينتهي
لا أعرف كيف أصبحت كاتبا. ربما بالصدفة أو بالغواية. ولكني أعرف من أين جاء الكاتب

تذهلني القراءة. إنها عالم عجيب. شيء يشبه السحر. بل إنها هي السحر. إذ من ذا الذي يمكنه أن يُخرج الأرنب من القبعة أفضل من أديب عظيم أو كاتب بارع؟ ولئن كنت أقرأ كل يوم، بحكم العمل، فإن ما أقرأه لا يكفي. أتمنى لو أقرأ ثماني ساعات عملا، وثمانية أخرى سحرا.

لا أعرف متعة أكبر من متعة القراءة. بعض الكتابة يمنحك شعورا مطابقا تماما لمتعة مطلقة، إلا أن نشوة القراءة أبلغ. إنها الاسترخاء التام. والانفعال التام أيضا. وهذا مزيج لا تمنحه الكتابة بالتمام نفسه، لأنها بطبيعتها معركة؛ مغالبة بين النص ومجراه وغايته. القراءة تعني، أن تعيش المعركة. تخوضها. ولكن من دون عناء الصنع أو الخلق. يخوضها كاتب نيابة عنك. واجبه الأول، أن يغريك، ويغشي على بصرك، ويسحرك، فيأخذك في رحلة، لا تعود منها كما كنت. ولتكتشف عوالم لم تكن لتحلم بها، ولتعثر على قيم وأخلاقيات لم تكن لتعرفها، ولترى حيوات ما كان بوسع عالمك الضيق أن يتيحها لك.

مثل ما لا يقل عن مليار إنسان، يقرأ حتى وهو نائم، أشعر أني خلقت في زمن ليست القراءة فيه أصلا من الأصول. وأن ما قرأته قليل، وأن لدي قائمة تضم عشرات الكتب تُلح وتغضبني من نفسي، وأن الوقت يضيق عليّ، وأن هناك عددا من الكتب التي وعدت نفسي بأن أعود لأقرأها للمرة الثانية، وفي النهاية، فإني سوف أذهب وفي نفسي ألف كتاب آخر. ولا أعرف ماذا أفعل. إلا مشاعر اليأس والحسرة، على زمن لم يتح لي غير هذا القليل.

لا أعرف كيف أصبحت كاتبا. ربما بالصدفة أو بالغواية. ولكني أعرف من أين جاء الكاتب.

كنت ما أزال مراهقا. وعلى مدى ثلاث عطل صيفية، تمتد الواحدة منها مئة يوم، كنت أقرأ كتابا كل يوم أو يومين. أصعد الى سطح الدار، واختفي في ظل، وأقرأ، لأقطف من طلح المعرفة، وما لم يكن ليخطر لي أن أعيش فيه. لا أسمع صوتا ولا مناديا، إلا قرقرة بطني ساعة أجوع.

لقد كانت تلك هي الجنة التي لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما. ولا من تُسأل عنه، ولا من يُسأل عنك، وتغرق في عالم من السحر العجيب. ومن كتاب الى آخر، كان الإنسان ينمو، وتنمو اضطرابات مشاعره. فتتعارك مع نفسها ومع عالمه كله.

لقد كانت تلك هي الجنة، التي طُردت منها، لخطاياي الأخرى، فبقيت أحن إليها، والى ظلها الممدود، وطلحها المنضود.

والى يومي هذا، لا أزال لا أعرف سبيلا الى زمن يلائمني ويلائم مليارا آخر من البشر مثلي، أنّى نحيا لنقرأ. ونُعطى راتبا، أو معيشة، مقابل أن نقرأ فقط.

ولقد صيّرني الوقت من الذين يقدسون الأدب، بل وكل قول بديع، عميق، يُسفر عن معنى لم أكن لأدركه أو يسحرني مغزاه، أو ما يكشف. وأود لو أقبل جبين كل كاتب يبدع في قولٍ يفتحُ أفقا، أو ينيرُ طريقا، أو يسلط ضوءا على نقطة مظلمة في الحياة. وأن أنحني لألمس قدميه، كما يفعل الهنود مع كبارهم.

ولطالما بقيت أردد: إن القول البديع، هو ذاك الذي إذا ما رفعت رأسك من قراءته، ترى أن عالمك لم يعد هو نفسه.

الكاتب الحق، هو من يضيء لك شمعة. والكاتب الحق لا يستنقص كاتبا آخر نجح في إضاءة شمعة. ولو تجرد من مطامع المبتذل، فإنه لن يرى فيه غريما، ولو اختلف الفكر. ومن ثم، فإن الشمعة لا يضرها أن تنير بنارها شمعة أخرى. فنمضي بين جيل وجيل.

مثلما أن هناك من علماء الفيزياء، الكيمياء، البايولوجي، الرياضيات، الهندسة...، من يقولون إن الله هو أعظم عالم في الوجود، فإنه، على وجه الحقيقة، أعظم روائي أيضا. إنه الوحيد الذي يصنع تراجيديات ويجسد شخوصها في الواقع الملموس. مليارات البشر، مثل مليارات الكواكب والنجوم، تخوض صراعات مع الحياة، لتكسب خبرات ومعارف وتستولد قيما، في رواية ليست خالدة بذاتها، ولكنها على عكس كل الروايات الأخرى، تنتهي بما لا ينتهي.

ولن يستطيع إلا خالق عظيم، أن يروي كل ما ترويه الحياة، وأن يُسطر تراجيديات هائلة، وان يمتد بها لعشرات الآلاف من القرون، وأن يضع لها نهاية مذهلة.

صحيح أن الروائي أو الشاعر يبدأ من "واقع افتراضي"، إلا أنه في نهاية المطاف نوع من "خالق". وهو بذلك يمتلك شيئا، ولو رمزيا، من صفات الخالق. وهذا ما يجعله يكتسب، بحكم طبيعته بالذات، استحقاقا استثنائيا. وإذ أنه خالق لقيم، تهذب النفس، فتهذب البشر، وتجعل من الإنسان إنسانا، ففي ذلك ما يجعله نوعا من رسول. يقول شوقي: "قم للمعلم، وفه التبجيلا – كاد المعلم أن يكون رسولا". فما بالك بالأديب الخالق؟ ما بالك بمن يظل يمنح الإنسانية معناها، ويضفي عليها النبل والسمو والعطاء الكريم الذي لا تني تفتقده في زخم الصراع الوحشي القائم بين الإنسان والآخر؟

إنه خالق مشاعر أيضا. خالق أحاسيس يمكنها أن تثير كل الغرائز، وتحرك كل الهرمونات. تبكي، تضحك، تغضب، تحزن، تخاف، تقلق، تُستثار، تيأس، تتفاءل، تهدأ، تطمئن، وكل شيء آخر.

هذا خلق. ومع كل ما يُثمره من قيم إنسانية رفيعة، ومعارف، ومشاعر، فإنه يمنح خالقه منزلة ترقى الى منزلة الرسل. إنهم رسل. ولو من نوع مختلف.

وإنك إذ تقرأ لهم، وتنسحر بما يخلقون، فكأنك تنظر في قدرة الخالق، وترى وجها من وجوه عظمته.

الجنة، هي أن تقرأ. هي أن تعيش ألف حياة أخرى، ما كان بوسع حياتك الواحدة أن تعيشها. هي أن تكتشف من المعاني ما لم يكن بوسعك أن تكتشفه بنفسك.

والجنة هي أن تجعل من أولئك الرسل رفاقك على الأرائك متقابلين. وتقرأ الى ما لا نهاية. لا تكون مسؤولا عن أحد ولا حتى مسؤولا عن نفسك، إلا عندما تجوع، فتأكل من قطوفها الدانية.

وإني لأسأل ذا الجلال والإكرام، أن يرسل معي كل ما لم أقرأه، ويا ويحي كم هو كثير. ولكن الوقت هناك طويل.