الجيوش في مواجهة وباء كورونا "كوفيد ـ 19"

شادي عبدالوهاب منصور يؤكد أن تفشي وباء كورونا "كوفيد ـ 19" أدى إلى لجوء العديد من الدول للاعتماد على قواتها المسلحة لمواجهة التهديد البيولوجي الجديد.
إلقاء الضوء على الأدوار المتعددة التي لعبتها الجيوش التابعة للدول المختلفة في مثل هذه الأزمة
بيان تأثير الأمراض الوبائية على سير المعارك والصراعات المسلحة في ضوء التجارب التاريخية والواقع المعاصر

مثلت الأوبئة عبر التاريخ الإنساني تهديداً كبيراً لملايين البشر، فقد تسببت الأمراض الوبائية التاريخية، مثل الإنفلونزا الإسبانية والكوليرا والطاعون، في القضاء على ملايين البشر خلال فترة زمنية محدودة نسبياً، وفشلت الأنظمة الصحية التي كانت سائدة حينها في إيقاف أعداد المصابين والمتوفين جراء هذه الأمراض. ولاتزال هذه التهديدات تفرض تحدياً كبراً على الأمن القومي للدول، فعلى الرغم من تطور قطاع الرعاية الصحية في العديد من الدول المتقدمة والنامية، على حد سواء، فإن بعض الأمراض الوبائية المستحدثة، مثل "سارس" و"ميرس"، لم يتم اكتشاف لقاح أو علاج لها، ولعل هذا ما دفع العديد من الأشخاص، على اختلاف خلفياتهم السياسية، أو الأمنية، أو الطبية، إلى التنبؤ بتهديد قادم أشد فتكاً من نظرائه السابقين. ومع ذلك، لم تتمكن أي دولة من الدول من تطوير إجراءات أو تدابير مضادة لمواجهة الأمراض الوبائية التي تندرج ضمن طائفة التهديدات "المعروفة المجهولة"، أو الحد من تداعياتها، الأمر الذي دفع العديد من الدول للجوء إلى الجيوش الوطنية لمواجهة التهديد المفاجئ، والذي لا تزال الدول، حتى الآن، تسعى لمعرفة أبعاده وتداعياته، ناهيك عن معرفة طرق علاجه.
في ضوء هذه الرؤية طرح د.شادي عبدالوهاب منصور رئيس التحرير التنفيذي لدورية اتجاهات الأحداث ورئيس وحدة الدراسات الأمنية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي، تساؤله عنوان دراسته "ما هي مهام وأدوار الجيوش في أزمنة الأوبئة؟"، مؤكدا أن تفشي وباء كورونا "كوفيد ـ 19" أدى إلى لجوء العديد من الدول للاعتماد على قواتها المسلحة لمواجهة التهديد البيولوجي الجديد، وكشفت تصريحات رؤساء الدول الغربية أن هذا التهديد لا يقل في خطورته عن التهديدات التي تفرضها الحروب، على نحو ما وضح في تصريح الرئيس الأميركي ترامب في أوائل أبريل/نيسان 2020 "إننا في وضع جيد للانتصار في الحرب ضد وباء كورونا. نتعامل مع عدو غير مرئي، لكننا سننتصر عليه" واعتبار الرئيس الفرنسي ماكرون أن بلاده في "وضعية حرب صحية".

فيروس “كوفيد – 19" لم ينجح في أن يؤدي إلى وقف الصراعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة اليمن وليبيا، ولو بصورة مؤقتة، وعليه فمن المتوقع أن تستمر هذه الصراعات، وإن شهدت بعض الهدنات المؤقتة

وقال شادي: ساهم في توسع الدول في اعتمادها على قواتها المسلحة في مواجهة وباء "كوفيد ـ 19" الانتشار السريع للفيروس، وارتفاع عدد الوفيات الناتجة عنه، بالإضافة إلى الشلل الذي أصاب الحكومات والمستشفيات المدنية في العديد من الدول، فضلاً عن حاجة بعض الدول إلى اتخاذ تدابير وإجراءات استثنائية، تم التعويل خلالها على القوات المسلحة، بسبب ما تتمتع به من انضباط وكفاءة، وكذلك قدرة على إدارة عمليات لوجستية ضخمة، وقدرة على التنفيذ بالتزامن مع التخطيط.
وسعى شادي في دراسته الصادرة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بأبوظبي، إلى تحليل التأثيرات الأمنية للأمراض الوبائية، وتطور النظر إليها باعتبارها مهددا أمنيا للأمن القومي للدول، فضلا عن إلقاء الضوء على الأدوار المتعددة التي لعبتها الجيوش التابعة للدول المختلفة في مثل هذه الأزمة، وبيان تأثير الأمراض الوبائية على سير المعارك والصراعات المسلحة في ضوء التجارب التاريخية والواقع المعاصر.
وأضاف: تلجأ الدول إلى توظيف الجيوش في أوقات الأزمات والطوارئ، ولا تعد أزمة كورونا استثناء من القاعدة، فقد اعتمدت العديد من الدول على قواتها المسلحة في إدارة هذه الأزمة، نظرا لما تمتلكه الدول من خبرات واسعة في مواجهة الأمراض والأوبئة.
أبرز شادي رصدا وتحليلا للأدوار التي لعبتها الجيوش ومنها تطبيق الحجر الصحي، ومساندة السلطات المدنية، تنظيم العمليات اللوجستية الضخمة، تصنيع المعدات والمستلزمات الطبية، ودعم القطاع الصحي من خلال تقديم الإسناد لقطاع الرعاية الصحية، وتفعيل الطواقم العسكرية الطبية، وتطوير الأبحاث الطبية البيولوجية كجزء من جهودها لتوفير الحماية للقوات المتحاربة.
وأوضح أنه مع تصاعد حدة الأزمة، تتصاعد أدوار الجيوش، حيث يدخل ضمن مهام الجيش الأميركي قيامه بتوزيع المعدات الطبية التي تقوم الحكومة الأميركية بشرائها، وتوزيعها على الولايات والمستشفيات التي تحتاجها، ويلعب الجيش الأميركي هذا الدور إلى جانب القطاع الخاص، ولا يحل محله، بل يقوم بدور تكاملي معه. 
وقال: في هاييتي تفشى وباء الكوليرا في أعقاب زلزال 2010 والذي أصاب أكثر من نصف مليون من أبناء هاييتي، ولقي قرابة 10 آلاف مصرعهم، ولعب الجيش الأميركي بالتعاون مع نظيريه في البرازيل والتشيلي أدوارا عديدة امتدت إلى معالجة المياه وتوليد الكهرباء وتحقيق مستوى أساسي من النظام والاستقرار بن المدنيين. ولم يكن باستطاعة أي وكالة مدنية تحقيق ذلك بالنظر إلى حجم الأزمة الطارئة. وبالمثل، أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية أنيجريت كرامب كارينباور في 19 مارس/آذار أن الجيش الألماني يعد استعداداته للمساعدة في جهود مكافحة فيروس كورونا، إذا عجزت المؤسسات الحكومية والإدارات المدنية الأخرى عن مواجهة المرض. وقالت: نحن نستعد لسيناريو أسوأ الحالات، حيث يتعرض عدد كبير جدا من الناس للإصابة، ولدينا الموارد البشرية للمساعدة. وأضافت كارينباور أن الجيش اتصل بالفعل بمئات جنود الاحتياط الطبيين في القوات المسلحة، كما سيقوم الجيش بحماية البنية التحتية الحيوية وتوزيع المعدات والأدوية الطبية إذا أصبح ذلك ضروريا. 
ولم يختلف الوضع بالنسبة للجيش الإسباني، والذي شرع في تطهر المباني العامة والخاصة، والتي تظهر فيها حالات المرض، كما قام حوالي 3 آلاف طبيب عسكري بمساندة قطاع الصحة المدني في إسبانيا، بل إن بعضهم ممن أحيلوا للتقاعد تمت إعادتهم للخدمة مرة أخرى. وفي مصر لعب الجيش دورا في ضبط عمل الأسواق خلال الأزمة، فقد قامت القوات المسلحة المصرية بتوفير الاحتياجات والسلع الأساسية والضرورية للمواطنين لمواجهة حالة الغلاء والاستغلال المحتملة من قبل بعض التجار، ومنع حدوث أي حالة خوف مجتمعي من إمكانية نقص المواد الأساسية في هذه الأزمة.

وأضاف شادي أن القوات المسلحة لأغلب الدول تتمتع بميزة أساسية، وهي قدرتها على إطلاق عمليات لوجستية كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، إذ يتوفر لديها الكثير من القوى العاملة المرنة والمركبات الثقيلة، والخبرة اللازمة لنقل كميات كبيرة من الأشياء والمعدات من مكان إلى آخر. كما يمتلك الجيش القدرة على التخطيط أثناء التنفيذ بطريقة تفوق قدرة أغلب الأجهزة المدنية. ففي الأسبوع الواحد، تقوم قيادة النقل في البنتاجون الأميركي بأكثر من 1900 مهمة جوية و10000 عملية شحن بري في المتوسط. ويتم استغلال القدرات اللوجستية للجيوش في نقل القوة البشرية والمعدات، بل ومستشفيات كاملة في أرجاء العالم في غضون أيام أو حتى ساعات قليلة. ولعبت وزارة الدفاع الأميركية دورا لمواجهة تفشي وباء إيبولا في غرب أفريقيا منذ سنوات قليلة، وذلك من خلال إرسال مستشفيات جراحية متنقلة، والنقل الجوي للإمدادات الحيوية مثل السترات الواقية.
وفيما يتعلق بتصنيع المعدات والمستلزمات الطبية رأى شادي أن الجيوش تملك قدرات هائلة تمكنها من التعامل مع الأوبئة، نظرا لأن أفرادها مدربون على العمل في مواجهة الأسلحة البيولوجية، كما يملكون المعدات الثقيلة وتجهيزات الحماية الشخصية اللازمة للعمل داخل البيئة المصابة. وأذن الرئيس الأميركي دونالد ترامب باستخدام قانون الإنتاج الدفاعي في أواخر مارس/آذار 2020 لمطالبة شركة جنرال موتورز بإنتاج المزيد من أجهزة التنفس، بسبب انتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة، وذلك بعد تعثر المفاوضات معها للقيام بذلك بصورة طوعية. ويمنح القانون الرئيس، من بين سلطات أخرى، إعطاء الأولوية للعقود الحكومية للسلع والخدمات على العملاء المتنافسين، وتقديم حوافز للسوق المحلية لتعزيز إنتاج وتوريد المواد والتكنولوجيات الحيوية عند الضرورة للدفاع الوطني. وتقوم وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون"، بموجب السلطات الممنوحة لها وفقا لقانون الإنتاج الدفاعي بتنفيذ أول مشروع لها من أجل إنتاج أكثر من 39 مليون قناع "إن 95" ضمن الإجراءات المصممة لمواجهة الجائحة وستبلغ تكلفة المشروع حوالي 133 مليون دولار، كما قامت بتوفير 10 ملايين قناع من هذا النوع من مخزنها الخاص لوزارة الصحة والخدمات الانسانية.
وفي مصر، تقوم قوات ووحدات الحرب البيولوجية بتعقيم المؤسسات والمنشآت الحيوية كافة في الدولة، كما قام الجيش المصري بتوفير الأدوات المستخدمة في عمليات التعقيم والتطهير للمواطنين من خلال إنتاجها محليا، وتوفير هذه الأدوات في عدد من المنافذ بأسعار ملائمة للمواطنين، مثل كمامات الوجه، خاصة بعد ارتفاع أسعارها في السوق المحلية، نتيجة لتصاعد الطلب عليها بصورة مفاجئة لمواجهة فروس كورونا.
وخلص شادي إلى القول إن تردد الدول في وضع الأوبئة في مقدمة تهديدات أمنها القومي ارتبط بعاملين أساسيين، وهما الطابع الإقليمي الضيق لمناطق انتشار الأوبئة السابقة، مثل الإيبولا، أو بالتداعيات البسيطة نسبيا للأمراض الوبائية، التي ظهرت في السابق وانتشرت على نطاق واسع، مثل إنفلونزا الطيور والخنازير، فضلاً عن وجود عقاقير وأدوية نجحت في الحد من نسبة الوفيات جراء الإصابة بهذين المرضين. وفي المقابل، فإن جائحة "كوفيد ـ 19" أصابت أغلب الدول في قارات العالم الست، كما أن نسب الإصابات والوفيات جراء الفيروس، فاقت نسب الإصابة والوفيات بالنسخ السابقة من المرض نفسه، وتحديدا سارس وميرس، الأمر الذي قد يدفع دول العالم لإعادة النظر في إدراج الأمراض الوبائية في مقدمة تهديدات الأمن القومي للدولة. 
ونظرا لأن الدول لم تضع تدابير استباقية لمواجهة تفشي الأمراض الوبائية على نطاق واسع، فضلا عن وجود صعوبات عملية في وضع تدابير واحتياطات في مواجهة فيروس افتراضي مجهول، لا تتوفر بشأنه أي معلومات، فكان من البديهي أن تعجز الحكومات وقطاعات الصحة المدنية في الدول المختلفة عن مواجهة المرض، خاصة مع ارتفاع معدلات الإصابة بين السكان بوتيرة تفوق أيا من الأمراض الوبائية السابقة، فضلا عن صعوبة إيقاف انتشار المرض، إلا من خلال تدابير متطرفة، مثل الوقف التام لحركة السياحة والتجارة، وهي تدابير ليست فقط ذات تكلفة اقتصادية مرتفعة، ولكن من المستحيل عمليا تطبيقها، بالنظر إلى اعتياد كل دول العالم تقريبا في استيراد جانب من احتياجاتها الأساسية على الخارج.
وقال: في ضوء ذلك الوضع، لم يكن أمام الدول، سوى اللجوء إلى مؤسساتها العسكرية، والاعتماد على ما تمتلكه من بنية لوجستية وطبية يمكن الارتكان إليها لتعزيز قطاع الصحة المدنية لديها، فضلاً عن فرض إجراءات وتدابير أمنية مثل عزل المدن، أو فرض الأمن والنظام في بعض المناطق التي تضررت بصورة واسعة بالمرض. كما عمدت بعض معاهد الأبحاث الطبية التابعة للجيوش في بعض الدول إلى تطوير لقاح وعقاقير في مواجهة الوباء المستجد، وذلك إما بصورة فردية، أو بالشراكة مع الشركات الطبية المدنية والمعاهد البحثية التابعة للجامعات. وعلى الرغم من كون القوات المسلحة لأي دولة أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الوبائية، فإنها في المقابل، لم تترك تداعيات حاسمة على سير المعارك العسكرية في العصر الحديث، بل ولم ينجح فيروس “كوفيد – 19" أن يؤدي إلى وقف الصراعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة اليمن وليبيا، ولو بصورة مؤقتة، وعليه فمن المتوقع أن تستمر هذه الصراعات، وإن شهدت بعض الهدنات المؤقتة.