الخطاب المتوتر ومسارات الصراع الإيراني الإسرائيلي

يواصل الرئيس الأميركي جو بايدن المساومة مع إيران على الرغم من وصول الوضع على حدود لبنان لحافة الانفجار.

تفسير الخطاب الناري المتصاعد بين حزب الله وإسرائيل، لا يحتاج جهداً كبيراً في تتبع مساراته. فاستمرار الحرب في غزة، وحرب حزب الله التضامنية مع الأخيرة، وفشل الإقتراح الأميركي بالتهدئة ووقف إطلاق النار، كل ذلك يُقدم مشهداً لحرب مفتوحة، لكنها حرب تُضبط بمعادلات النفوذ الأميركي والإيراني، لاسيما أن التوتر المتصاعد بمستوياته كافة بين إسرائيل ممثلة الولايات المتحدة، وحزب الله ممثل إيران، سيبقي محكوماً بإرادتين أميركية وإيرانية لا تُشجعان حرباً واسعة، ويفضلان رسائل سياسية ومثلها عسكرية، تحت مسميات الردع والردع المتبادل.

الولايات المتحدة أبدت مراراً رغبتها في عدم توسيع رقعة الحرب، ورغم السياسات الأميركية الداعمة لإسرائيل، إلا أن ذلك لم يمنعها من ضبط إسرائيل، والبحث عن موجبات التهدئة على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، والتوصل إلى وقف للحرب في فلسطين، وإيران بدورها إعتمدت مبدأ التطمين عبر الرسائل الدبلوماسية التي تمحورت حول عدم رغبة إيران في الدخول بالحرب، طالما أنها لا تمسها مباشرةً، ورغم أن بعض التصريحات الإيرانية ألمحت إلى أن غزوة طوفان الأقصى جاءت وفق توقيت إيراني، إلا أن الخطاب الرسمي الإيراني نأى بنفسه عن معركة حماس يوم السابع من تشرين الأول العام الماضي، ووضعها في إطار حق الفلسطينيين بالدفاع عن أنفسهم، وفي ذات السياق فإن إيران وعطفاً على تصاعد التهديدات الإسرائيلية، وبعد الخطابات النارية لقادة "حزب الله"، رأت أنه من المناسب الإعلان على لسان بعثتها في الأمم المتحدة أن "المقاومة الإسلامية في لبنان تملك القدرة على حماية نفسها".

تفسيرات الموقف الإيراني واضحة، فطهران لا ترغب في توريط نفسها بشكل مباشر في الحرب، طالما أن هناك فصائل تقوم بالمهمة الإيرانية وتُهندس خيوط إيران الإقليمية، والأمر الأخر فإن تفسير الموقف الإيراني، قد يكون مرتبطاً بالتفاهمات الإيرانية الأميركية، والتي تترجمها استمرار التواصل واشنطن وطهران في محادثات كانت جولتها الأخيرة في أربيل العراقية.

في تفسير التصعيد الإسرائيلي ضد حزب الله، فإن هجمات الحزب أجبرت آلاف الإسرائيليين في الشمال على إخلاء مناطقهم الحدودية مع لبنان، وهؤلاء يشكلون ضغطاً على صانع القرار الإسرائيلي، وبالتوازي فإن إعادتهم الى مستوطنات الشمال، يمثل صراعاً داخلياً في إسرائيل، والأهم ثمة تهديدات تطال الأمن القومي الإسرائيلي، طالما بقي حزب الله منخرطاً في حرب التضامن مع غزة، فإسرائيل لا يمكن أن تقبل بوجود واقع أمني يفرضه حزب الله على الشمال، وثمة تهديدات من قبل حزب الله باقتحام الجليل، إذ لا تزال الذاكرة الإسرائيلية تُعيد مشاهد اقتحام مستوطنات غلاف غزة، والتي كانت نتيجتها الحرب المدمرة الراهنة.

حزب الله وبحسب قراءات لبنانية، فقد دخل حرباً لا علاقة للسلطة الشرعية في لبنان أو لعموم اللبنانيين بها، فالموقف الرسمي في لبنان، يُرحب بأي مسعى لوقف الحرب في غزة، بغية إحتواء التوتر في الجنوب، كما أن الموقف الرسمي اللبناني يرفض ما يقوم به حزب الله، والذي يضعه في إطار توجيهات إيرانية لإزعاج بايدن، ومحاولة استثمار الوقائع الحالية بغية جني المزيد من الأوراق السياسية، من هنا فإن خطاب حزب الله مُهدداً قبرص، هو استثمار اللحظة الراهنة بغية استجلاب المزيد من الإهتمام الأميركي والأوروبي، وتعزيز نقاط التفاوض الإيرانية في المرحلة المقبلة.

وانطلاقاً من أن الموقف الرسمي اللبناني يُرحب بأي مسعى لمنع هجوم إسرائيلي كبير على لبنان، توازياً مع إنهاء الحرب في غزة لضمان الهدوء في الجنوب، وهذا موقف يلائم الحزب صاحب القرار بخوض معركة يقول إنه لا يريد تحولها إلى حرب شاملة، نتيجة لذلك فإن إسرائيل تعرف الوقائع اللبنانية بدقة، وعندما تُهدد بهجوم يُعيد لبنان إلى العصر الحجري، فإن إسرائيل ربطاً بذلك تعرف من يمسك بزمام القرار في لبنان، ومن يتربع على رأس السلطة اللبنانية، وبحسب المحلل في صحيفة "هآرتس" تسفي برئيل فإن الوضع يختلف تماماً عن عام 2006 عندما كان في لبنان حكومة نشطة تتخذ المواقف، والآن "يوجد لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي فقط صلاحية صياغة البيانات لوسائل الإعلام".

بهذا المعنى فإن الخطاب المتوتر بين حزب الله وإسرائيل، وما يتبعه من حدود الخلاف بين إيران والولايات المتحدة، فإن كل ذلك مرسوم بدقة، الأمر الذي يجعل أي تصعيد بين حزب الله وإسرائيل، دافعاً أميركياً وإيرانياً إلى التفكير بأسباب وأهداف أخرى أبعد من محدودية الاشتباك على الحدود والنتائج التي يراد الوصول إليها.

صحيح أن نتنياهو يدفع الأمور في جنوب لبنان إلى المزيد من التصعيد، لكن ذلك يبقى مساراً بشاخصات تحوي رسائل متتالية إلى الإدارة الأميركية، بهدف البقاء في السلطة لمواجهة إرهاب دولي تقوده إيران كما يعتقد، ولم يخف نتنياهو خلافه مع بايدن في هذا الشأن على رغم تولي هذا الأخير دعم إسرائيل في كل معارك الأشهر الأخيرة، وبين هذا وذاك فإن خطاب حزب الله المتوتر تُجاه إسرائيل يخدم في العمق المنطق الإيراني في دوافعه ومفاوضاته مع واشنطن والغرب عموماً، سعياً وراء المزيد من الاستثمارات الإيرانية الإقليمية.

خطاب الحزب هو ذات اللعبة التي يلعبها نتنياهو في محاولة إثارة إنتباه إدارة بايدن، فنتنياهو أيضاً يُريد موقفاً أميركياً أكثر صرامة وقسوة حيال إيران ومشاريعها الإقليمية، وقد يفسر هواجس نتنياهو ما قاله المحلل الإسرائيلي نداف إيال في "يديعوت أحرونوت" إن "البيت الأبيض يريد وقف النار في غزة والشمال، والباقي ثانوي، ليس لأميركا أي استراتيجية بعيدة المدى لتحدي إيران وأذرعها"، والمحلل حرص على التذكير بقول للرئيس روزفلت "تحدث برقة وخذ معك عصا غليظة"، وفي رأي نتنياهو لم يستفد بايدن من نصيحة روزفلت، وهو يواصل المساومة مع إيران على الرغم من استمرار إيران في مشروعها النووي وسياستها التوسعية في الشرق الأوسط.