الدعوة الى عرقنة العراق

تغير العراقيون بسبب الحروب التي دخلوها كراهية. ولكن ليس لدرجة التخلي عن هوية بلادهم.

اختفى المنادون بعودة العراق إلى جذوره ما قبل العربية في سنتي الاحتلال الأوليتين. يبدو أن الملهم الأميركي الذي جند أدباء وعلماء اجتماع طارئين في خدمة مسرحيته كان قد شعر باليأس من إمكانية أن تكون تلك الدعوة مقنعة لشعب لا يتحدث اللغة العربية حسب، بل أنه صُهر من مواد ثقافتها. فات ذلك العبقري الجاهل أن العراقيين كانوا دائما عبر عصور حضارتهم الذهبية صناعا أفذاذا لعروبتهم وعروبة محيطهم. لا يُلام الموظف الأميركي على جهله، بل يقع اللوم كله على مثقفين اعتقدوا أن فك ألغاز الكتابة المسمارية عمل ينطوي على قدر من الإثارة العاطفية التي ستجعل العراقيين يطوون عروبتهم كما لو أنها لافتة ليتجولوا في ظلمة ليلهم حاملين الألواح السومرية باعتبارها مصابيح.

انتهت تلك المسرحية سريعا وصمت كل ممثليها وأسدل الستار عليها. ما حدث بعد ذلك كان أكثر نفعا لمشروع الاحتلال بعد أن تم تثبيت قطيعة العراق مع عروبته فقرة واضحة في الدستور. رسميا لم يعد العراق دولة عربية. فدستوره الجديد الذي أقر عام 2005 ينص على أنه دولة مكونات لا يشكل العرب غالبية سكانه بعد أن تم توزيعهم طائفيا وعرقيا. فالشيعة مثلا هم شيعة وليسوا عربا في نظر القانون العام. لم ترد كلمة "العرب" إلا صفة لسنة العراق. كلما ورد ذكر لهم في الدستور قُيل "العرب السنة" ولم يعد مصطلح "الشيعة العرب" متداولا لأنه يتعارض مع مصطلح كان متداولا هو "الشيعة الفرس" والمقصود به أتباع التشيع الصفوي الذي يختلف عن التشيع العربي من جهة استناده على عالم الخرافة.

حين اخترعوا الحرب الأهلية بين عامي 2006 و2008 اكتشف الأميركان أن سلاح الطائفية أشد مضاء في ذبح العروبة من الدعوة الغامضة إلى أن يعود العراق سومريا بمعنى قلب الخريطة على بغداد بحيث يتم إذلالها من قبل الجنوب وهو ما لم يحدث بسبب تسارع الأحداث ودمويتها في حرب عبثية، كان منسوب المظلومية قد تصاعد ليحل مشكلات الحائرين بهوية العراق. لقد تم تمزيق النسيج الاجتماعي يومها في سياق معادلات إقليمية أشرفت الولايات المتحدة على توازنها بالطريقة التي ينتهي كل فيها لمصلحة إيران. من الواضح أن العقل السياسي الأميركي لم يكن ميالا إلى أن يكون هناك عراق أميركي. كان العراق الإيراني هو أفضل الحلول لإنهاء عروبة العراق. كان القضاء على العراق العربي واحدا من أهم أهداف الغزو الأميركي. أما أن يكون العراق إيرانيا فهو أمر لا اعتراض عليه بالنسبة للولايات المتحدة وبالأخص أنه يحل واحدة من مشكلاتها.

وما بين أن يكون العراق على مستوى حلم البعض ممَن ناصروا الاحتلال أميركيا وبين أن يكون على مستوى الواقع السياسي المباشر إيرانيا فقد العراق هويته. لا أقصد هويته العربية فقط بل أقصد بالتحديد هويته العراقية. العراق اليوم ليس عراقا. لا بالمعنى الذي نعرفه تاريخيا، بل وأيضا بمعنى معاصرته في سبعينات القرن الماضي قبل أن تعصف به الحروب. لقد تغير العراقيون بسبب الحروب التي دخلوها كراهية. ذلك صحيح. ولكن أن يصل الأمر بهم إلى التخلي عن هوية بلادهم التي سُرقت خفية من غير أن ينتبهوا إلى أن ذلك يعني التسليم بهويته الإيرانية فذلك يعني أنهم لم يعودوا عراقيين وأن العراق لم يعد عراقا. لقد اتسعت الشقة بين العراقي وعراقه. بين العراق وأبنائه.   

ما ينبغي على عراقيي اليوم أن يفكروا فيه هو مصير أحفادهم. هل يريدونهم عراقيين أم عبيدا لا يعرفون لهم هوية؟ لا تنفع الطوائف في صناعة وطن. وهي بالتأكيد لا تصلح لتفعيل هوية تاريخية مثل الهوية العراقية؟ ولكن الواقع الذي تعمل الأحزاب الحاكمة على ترسيخه يقول شيئا آخر. وهو شيء يتعلق بصناعة التاريخ. ذلك ما لا ينبغي الاستهانة به. الحفلة التي بدأها مثقفون عراقيون برعاية أميركية وكان الهدف منها تجريد العراق من هويته العربية لا تزال مستمرة. هي اليوم أشد قوة بعد أن هيمنت الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران على الحكم.  

كل ذلك يكسب الدعوة إلى عرقنة العراق شرعيتها ومصداقيتها. ينبغي أن يعود العراق عراقيا. يجب على العراقيين أن يحافظوا على عراقية عراقهم. من غير ذلك لن يكون هناك عراق ولن يكون هناك عراقيون. ما لم يحافظ العراقيون على عراقية عراقهم لن تكون عروبتهم وحدها في خطر، بل أن إنسانيتهم ستُمحى وسيكونون مجرد عبيد.