الدماغ البشري وعلم الأعصاب الاجتماعي

علم الأعصاب الاجتماعي هو مجال حديث العهد نسبيا، ولا يزال لديه الكثير من الألغاز لحلها، ومع ذلك، فإن بعض الأسئلة الأكثر إثارة للاهتمام حول جنسنا البشري هي موضوعات جوهرية في هذا التخصص.

بعض علماء الأعصاب البارزين يعزون ولادة فئة من الخلايا تسمى الخلايا العصبية المرآتية إلى نهوض البشر كجنس حيواني، وهناك مجموعة أخرى من الخلايا العصبية تسمى خلايا فون إيكونومو نسبة إلى مكتشفها، والتي ربما تكون أكثر إثارة للاهتمام من الخلايا العصبية المرآتية السالفة الذكر. تلعب كلتا المجموعتان الخلويتان دوراً في السلوك الاجتماعي البشري، وقد يستقيم القول بأن الحضارة مبنية على الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن البشر هم حيوانات اجتماعية تعمل مع بعضها البعض لتخليق الحضارة التي هي منتج جمعي بامتياز لا يمكن أن يكون فردياً.

علم الأعصاب الاجتماعي

يعد التفاعل الاجتماعي مهماً للغاية بالنسبة لبني البشر، ومن المحتمل أن يكون ضغط عمليات الاصطفاء الطبيعي للأكثر تكيفاً مع شروط المحيط البيئي الحيوي، أحد اهم الدوافع في ذاك الاتجاه، وهو الضغط الذي شكل أدمغتنا خلال تاريخنا التطوري مقاساً إلى حد كبير بقدرتنا على التعايش مع أقراننا وأبناء جلدتنا. ولا نعرف على وجه اليقين سبب تفضيل الانتقاء الطبيعي لصفات معرفية معينة أو سبب تطور أدمغتنا لتبدو كما هي اليوم. لكن هناك بعض الطروحات التي تبدو أكثر إقناعاًمن غيرها.

علم الأعصاب الاجتماعي هو مجال حديث العهد نسبياً، ولا يزال لديه الكثير من الألغاز لحلها. ومع ذلك، فإن بعض الأسئلة الأكثر إثارة للاهتمام حول جنسنا البشري هي موضوعات جوهرية في هذا التخصص.

تظهر الأبحاث الأنثروبولوجية بأن أسلافنا قد بدأوا العيش في مجموعات اجتماعية أكبرفي الوقت الذي يُظهر فيه السجل الأحفوري زيادة هائلة في حجم جمجمتنا، مما يشير إلى زيادة مقابلة في حجم الدماغ،

اقترح بعض العلماء أنه تم اصطفاء حجم دماغنا الأكبر عندما بدأنا في استخدام الأدوات التي هي ناتج لتحوير البشر لمعطيات في طبيعتهم ليتم استخدامها بشكل خاص. لكن استخدام الأدوات يتزامن مع تكوين المجتمعات، وربما تكون فرضية الدماغ الاجتماعي، التي اقترحها عالم الأنثروبولوجيا البريطاني روبن دنبار، أكثر إقناعاً من تلك التي تكون فيها الأدوات هي القوة الدافعة لتشكيل أدمغتنا.

شرع دنبار في فهم سلوك الاستمالةوالتقارب لدى الرئيسيات، وفي سياق بحثه، لاحظ اتجاهاً اجتماعياً يتمثل في أنه كلما كبرت المجموعة الاجتماعية التي تعيش فيها الرئيسيات، كلما زاد متوسط ​​القشرة المخية الحديثة لذاك الجنس من الرئيسيات التي تضم في عدادها قردة البانوبو والشمبانزيوالغيبونوالسعالىوغوريلا الجبال.

قام روبن دنبار بعد ذلك ببناء نموذج يمكنه استخدامه للتنبؤ بالحجم الاجتماعي لمجموعة من الرئيسيات، بالنظر إلى حجم القشرة الدماغية الحديثةفي أفراد تلك المجموعة. وبعد ذلك، توصل إلى طريقة مثيرة للاهتمام لتطبيق هذا النموذج لاكتشاف حجم الشبكة الاجتماعية النموذجية لبني البشر التي تتماشى مع قدرات وبنى أدمغتهمالتشريحية والوظيفية.

أدرك دنبار أنه من بين الرئيسيات، حجم مجموعاتنا البشرية الاجتماعية كبير إلى حد ما، إذ أقرب أبناء عمومتنا، الشمبانزي، يعيشون في مجموعات اجتماعية تضم حوالي 50 فرداً. وأدمغتنا أكبر بكثير من حجوم أدمغة قردة الشمبانزي.

ونظراً لحجم القشرة الدماغية الحديثة لدينا، اقترح نموذج دنبار أنه يمكن لبني الحفاظ على ما بين 100 إلى 200 شخص مقرب يتم اعتباره عضواً في المجموعة الاجتماعية للفرد، والمتوسط ​​هو 150 شخصاً، وهذا الرقم يسمى رقم دنبار.

ويقترح دنبار أن الكثير من آلية عمل عقولنا قد تم تشكيلها عن طريق الاصطفاء الطبيعي لتمكيننا من إقامة علاقات اجتماعية ممثلةببناء مجتمعات تعاونية ومفيدة للأفراد، ولكن هناك حداً أعلى لحجم المجموعة الاجتماعية التي تستطيع عقول البشر التعامل معها وبناء علاقات في نسيجها.

قام دنبار بفحص المجموعات الاجتماعية البشرية ووجد بعض أشكالالانتظامالعفوية للمجموعات البشرية، فنحن نميل إلى تكوين مجموعات ذات أحجام معينة بشكل فطري، إذتتكون مجموعة أعز أصدقائنا وأفراد عائلتنا، أو نظام الدعم الأكثر أهمية لدينا، من 3 إلى 5 أفراد. ثم هناك دائرة من 9 إلى 15 شخصاً هم أصدقاؤك المقربون. ثم هناك من 30 إلى 45 شخصيمكن أن تتواصل معهم بشكل منتظم إلى حد ما. ولقد وجد دنبار دعماً لتوقعاته في السجلات التاريخية، وأفواج الجيش، وحتى تطبيقات الوسائط الاجتماعية، مثل الفيسبوك وتويتر.

لا تفسر فرضية الدماغ الاجتماعي لروبن دنبار حجم المجموعات الاجتماعية لجميع أنواع الحيوانات، إذ هناك أمثلة في المملكة الحيوانية لأنواع اجتماعية للغاية ذات أدمغة أصغر من الرئيسياتوأعداد مجموعاتها تفوق بكثير أعداد مجموعات الرئيسيات، ولكن يبدو أن تلك النظرية تتناسب مع حجوم المجموعات في شجرة الرئيسيات إلى حد ما.وهو ما يومي إلى احتمال أن تكون العلاقة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه الفرضية. من المحتمل أن يكون الذكاء عاملاً، لأن الحيوانات الأكثر ذكاءً قد تجد صعوبةفي التعايش مع بعضها البعض.

الخلايا العصبية المرآتية

في عام 1992، في نفس الوقت تقريباً الذي كان دنبار ينشر فيه ملاحظاته الأولى حول حجم المجموعة الاجتماعية للرئيسيات والقشرة الدماغية الحديثة، كان العلماء في مختبر إيطالي يسجلون نشاط الخلايا العصبية في أدمغة قرود المكاك. كانوا يحاولون فهم كيف تدعم هذه الخلايا العصبية الأفعال الحركية، حيث كان علماء الأعصاب هؤلاء يسجلون الكمونات الحركية مباشرة من القشرة الدماغية المسؤولة عن الأوامر الحركية من خلال القيام بوضع مسابر كهربائية في تلك المنطقة الدماغية وتتبعالإشارات الكهربائية الصادرة بينما كانت قرودهم تقوم بأفعال موجهة نحو هدف، مثل تلقف موزة وتناولها.

واكتشف أولئك العلماء أن بعض الخلايا -سموها فيما بعد الخلايا المرآتية- في هذه المنطقة الدماغية لا تطلق فقطإشارات عندما يأكل القرد وجبته السالفة الذكر في التهام الموزة، ولكنهاأيضاً تطلق إشارات كهربائية أيضاً عندما يلاحظ ذلك القرد قرداً آخر يمسك بموزة أو طعام آخر، وبشكل كما لو أن دماغ القرد المراقب يحاكي كهربائياً ما يحدث في دماغ القرد الذي يتحرك ويحقق هدفاً من تحركه.

يشير وجود الخلايا العصبية المرآتية لبعض العلماء إلى أننا طورنا نوعاً خاصاً من الخلايا يبدو أنه يمكننا من تخيل كيف وبماذا قد يشعر ويفكر شخص آخر. يمكن القول مجازياً بأنها بذرة التعاطف، ويستطيع أن يجادل المرء في أن القدرة على معرفة ما قد يفكر فيه شخص آخر أمر بالغ الأهمية للبقاء في مجموعة اجتماعية.

الخلايا العصبية المرآتية ليست فئة مختلفة من الخلايا شكلياً. تبدو تماماً مثل بقية الخلايا العصبية في القشرة الحركية وأماكن أخرى. لكنهاتتصرف عصبياً بشكل مختلف، إذ لديها مجال استقبالي مختلف.

جميع الخلايا العصبية لديها مجموعة محفزات معينة تجعلها تطلق استجابات على شكل إشارات عصبية. فمثلاً تستجيب خلايا القشرة البصرية لمحفزات بصرية مختلفة، وتستجيب خلايا القشرة السمعية لأصوات مختلفة. ولكن في حالة الخلايا المرآتية تستجيب تلك الخلاياعصبياً بإطلاق استجابة كهربائية على شكل إشاراتعصبية عندما يقوم شخص (أو قرد) بفعل ما، أو عندما يلاحظ شخصاً آخر وهو يفعل ذلك الشيء.وذلك يقود إلى الاستنتاج بأن عمل هذه الخلايا هو الذي يمنحنا القدرة على فهم ما يجري في عقل الأفراد الآخرين ونحن نراقب سلوكاتهم اليومية، وتمنحنا القدرة على فهم مشاعر وعواطف الآخرين والتعاطفمعهم. ومن المحتملأن تكون تلك الخلايا مجرد خلايا في شبكة أكبر من الخلايا العصبية التي تكمن وراء هذه القدرة.

وهذا قد يقودنا إلى الاستنتاج الذي لم يثبت بحثياً بشكل واثق حتى اللحظة الراهنة والذيمفاده: إذا كانت هذه الخلايا العصبية أساسية للتعاطفوتفهم ما يجري في عقول الآخرين، فربما تكون هي الخلايا التي تخفق في الأشخاص الذين لديهم مشاكل في التعاطف والتفاهم الاجتماعي، مثل الأفراد المصابينبالتوحد.

خلايا فون إيكونومو العصبية

خلايافون إيكونومو العصبية، التي سميت على اسم طبيب الأعصاب النمساوي الذي اكتشفها في عام 1929، وتسمى أيضاً خلايا المغزل الكبيرة، لأن هذا هو شكلها. توجد في مناطق من دماغ بني البشر يُعتقدبأنها تطورت مؤخراً.

ارتبطت هذه الخلايا بسمات بشرية معقدة، مثل الشعور بالذات والوعي، وقد لوحظت في الأنواع الأخرى التي تعيش في مجتمعات، مثل الفيلة والدلافين، ولكن ليس في العديد من أنواع الرئيسيات أقرب الحيوانات لبني البشر في مملكة الحيوانات.

ونظراًلأن خلايا فون إيكونومو العصبيةمتميزة من الناحية الشكلية، يمكننا رؤيتها تحت المجهر وبالتالي عدها في أنواع وأشخاص مختلفينوهو ما يتم من خلال التشريح ما بعد الوفاةبحسب التقنيات المتاحة في الوقت الحالي، حيث قد يأتي وقت تكون فيه تقنيات التصوير لدينا متطورة للغاية بحيث يمكننا في الواقع رؤية ما تفعله الخلايا في دماغ حي.

تتواجد خلايا فون إيكونومو بكثرة في منطقتين في الدماغ البشري هما القشرة الحزامية الأمامية والقشرة المعزولة الأمامية. وتتداخل هذه الأجزاء من الدماغ في وظائف تميز الإنسان بوضوح، مثل تقديرنا للموسيقى، والقدرة على التعرف على أنفسنا، والوعي الذاتي، والقدرة على حل النزاعات الداخلية بين الرغبات المختلفة.

في نموذج علمي رصين، اقترح عالم الأعصاب بود كريج أن الجزيرة - الجزء المعزول من القشرة المعزولة الأمامية - متداخلة بشكل وثيق مع آليةعمل وعينا الذاتي. ويشير إلى أنه تم العثور على تنشيطكهربائيلمنطقة الجزيرة في دراسات التصوير العصبي خلال مجموعة متنوعة من المهام، مثل لحظة التعرف الواعي على موضوع شخصي، واتخاذ القرارات التي تتآثر مع الآخرين، والاعتراف بخصوصية الذات، وهي من سمات ما يعتبره معظم العلماء أهم مميزات الوعي البشري.

ويقترح كريج أن ما يربط هذه التجارب معاً هو إدراكنا لها، وأن الجزيرة تشارك في جمع المعلومات من جميع أنحاء الدماغ ومنحنا إحساساً بأنفسنا في اللحظة الحالية.

لا نعرف مدى دقة نموذجه حتى الآن، لكننا نعلم أن هناك شيئاً واحداً يميز القشرة الحزامية الأمامية والقشرة الأمامية المعزولة عن الأجزاء الأخرى من الدماغ وهو كثافة خلايا فون إيكونومو العصبية في نسجها.

ونظراً لحجمها وخصائصها المورفولوجية واتصالاتها، يعتقد كريج وآخرون أنخلايا فون إيكونومو العصبية مناسبة بشكل خاص لنقل معلومات متكاملة للغاية حول حالتنا وسلوكنا العاطفي بسرعة، وأنها قد تكون مفتاحاًللقدرة على تشكيل وعي ذاتي بمشاعرنا وأفكارنا وأفعالنا.

وخلايا فون إيكونومو العصبية وفيرة في البشر البالغين، ولكنها نادرة عند الرضع وتنمو عددياً بشكل مضطرد بين سن 1 إلى 4. كما أنها موجودة، ولكنها نادرة في الغوريلا والبونوبو والشمبانزي، ولم يتم العثور عليها في قرود المكاك.

وجدير بالذكر أن المرضى الذين يعانون من الخرف نتيجة التنكس العصبي في الفص الجبهي الصدغي من الدماغ، وهمالذين يفقدون الوعي بمشاعرهم ووعيهم الذاتي، يظهرون تدهوراً تدريجياً وتناقصاً نسبياً لخلايا فون إيكونومو العصبية. تشمل أعراض هذا المرض قصوراً في الوعي الذاتي الاجتماعي والعاطفي، والقدرة على تفهم واستقبال مشاعر الآخرين، والتفكير الأخلاقي، والتعاطف.

وبينما يبدو أن الخلايا العصبية المرآتية تلعب دوراً في فهم وتقليد الآخرين، يُعتقد أن خلايا فون إيكونومو العصبية مهمة في قدرتنا على معرفة أنفسنا.

ونظراً لأن الخلايا العصبية فون إيكونومو مشاركة في المهارات الاجتماعية والتعاطف والوعي الذاتي ولأنها تتطور وتنضج عندما يكون الأطفال ما بين 1 إلى 4 سنوات من العمر، فقد تساءل علماء الأعصاب عما إذا كانت أعراض اضطرابات طيف التوحد قد تنجم أيضاً عن مشاكل متعلقة بنضج خلايا فون إيكونومو. لكن بعض الدراسات التي أجريت بعد الوفاة على أدمغة البالغين المصابين بالتوحد أظهرت عدم وجود فروق عددية أو تشريحية نوعية بين خلايا فون إيكونومو في أدمغتهم وتلك الخلايا في أدمغة الأصحاء، ويترك الباب مفتوحاً للبحث العلمي اللازم والضروري في هذا الموضوع المهم والحساس طبياً واجتماعياً في آن معاً.


تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.