هل يعمل الدماغ بشكل حصيف رشيد؟

معرفة نقاط ضعف العقل البشري هو الخطوة الأولى للاتكاء على نظام التفكير البطيء من أجل استنباط أنهاج سلوكية لا بد من تبنيها إرادياً والتدرب على الالتزام بها للحد من مفاعيل التفكير السريع التلقائي السلبية.

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنكليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

نميل إلى الاعتقاد بأن العقلانية والحصافة والرشاد هي الدافع وراء قراراتنا الكبيرة، وأننا لا نتخذ قراراً مهماً إلا بعد تقييم خياراتنا بعناية وتقييم جميع الإيجابيات والسلبيات. لكن أبحاث علم الاقتصاد السلوكي الجديد نسبياً، إلى جانب عقود من الدراسات في علم النفس وعلم وظائف الدماغ، تشير إلى ثغرات كبيرة إلى حد ما في هذا التصور.

العقلانية والرشاد

تستند النظرية الاقتصادية القياسية على افتراض أن البشر يسترشدون بالعقلانية فإذا كان هناك طلب كبير على بضاعة نادرة، سيدفع الناس مقابلها ثمناً أعلى مما لو لم يكن هناك طلب عليها أو إذا كانت البضاعة وفيرة. والرؤية الشائعة حول نمط مقاربة خيارتنا هو أننا إذا احتجنا إلى إجراء تغيير ما في موضوع يرتبط بحيواتنا سواء فيما يتعلق بوظيفة أو منزل أو الذهاب في نزهة، أو ما كان على شاكلتها، فسنضع قائمة ذهنية بالإيجابيات والسلبيات ونجمعها معاً، وستكون نتيجة هذا الحساب هي التي ترشدنا في اتخاذ القرار.إذا أخطأنا واتخذناخياراً غيرعقلاني، مثل دفع سعر مرتفع جداً لبضاعة يمكن الحصول عليها بسهولة، فسنكتشف ذلك بسرعة إلى حد ما، وسيعمل السوق بشكل عام، المكون من علاقات بين ملايين أو مليارات الكائنات العقلانية من الأفراد الآخرين، على تصحيح الخطأوالحفاظ على سعر وسطي للبضاعة يتفق مع وفرتها.

لكن النظرية الاقتصادية القياسية السالفة تفشل في شرح ما يعتبره خبراء التسويق أمراً مفروغاً منه، ألا وهو أنه غالباً ما نتأثر في اتخاذ قراراتنا بمؤثرات قد يتجاهلها أي كائن عقلاني حقاً.

أتقنت الشركات الرأسمالية استراتيجية تسمى تأثير الشرك أو المصيدة التسويقية منذ أن بدأتبيع منتج وحيد من فصيلته، لنقل أنه كان مطحنة للقهوة،فكان واقعه التسويقي وجود خيار واحد فقط على الساحة لمن قد يرغب بشراء ذاك المنتج، فكانت مبيعاته متدنية. ولكن من خلال إضافة إصدار ثان للمنتج الأول، مع حجم أكبر وسعر أكبر ممن المنتج الأصلي الأول، تم بيع المنتج الأصلي الأولبشكل كبير.

تأثير الشرك يطرح سؤلاً عميقاً عن صدقية النماذج العقلانية لصنع القرار. لماذا يجب أن يقودنا إدخال خيار أعلى سعراً إلى اختيار منتج قد نتجاهله بطريقة أخرى؟ ألا ينبغي أن يستند قرارنا إلى تقييم ما نحتاجه حقاً؟ ألن نختار بشكل معقول العنصر الذي يلبي هذه الحاجة بأقل سعر؟

على عكس ما يمكن توقعه، فإن تأثير الشرك يكون بنفس القوة في أسواق العقارات والاستثمارات المالية، كما هو الحال في سوق أدوات المطبخ الصغيرة.

المبدأ الأول في اتخاذ قراراتنا غير العقلانية، ويجب التشديد هنا على عدم عقلانيتها، هو أن كل عنصر في الحياة نسبي ويتأثر بالسياق،وعند الاختيار من بين البدائل، لا يسعنا سوى إجراء مقارنات بين الخيارات المعروضة أمامنا، وغالباً على حسابنا عند الوقوع في شراك المسوقين الذين يستغلون نقطة الضعف تلك بكل خبث ودهاء.

هذا الاتجاه في اتخاذ قراراتنا غير العقلانية ليس قوة إرشاديةباطنية لكيفية قيامنا بالاختيارات؛ولكنه خطل في نمط حيواتنا المعاصرة ينبع من مبدأ إرشادي ناظم لوظيفة الدماغ البشري الذي تشكل لمنح البشر في مرحلة الصيد والالتقاط فرصة اكبر للبقاء على قيد الحياة وإنجابذرية من بعدهم،وليس العيش في ظروف المدنية المعاصرة التي لا تمثل في أمدها الزمني سوى لمحة عيم من رحلة نهوض جنس بني البشر التي امتدت على سبعة ملايين من السنين. والحقيقة هي أن أدمغتنا مهيأة للبحث عن التغيير، وعن الاختلافات الطفيفة، وتكشف الأنماط. وفي الواقع يؤثر السياق دائماًعلى كل من انتباهنا وتصوراتنا وخياراتنا.

فكر في أن تكون الموظف الأقل أجراً في مكان عملك. يمكن أن تكون غير راض عن هذا. لكن تخيل أن تستطيعنقل نفس وظيفتك وراتبك دون تغيير إلى شركة أخرى تحصل فيها على أعلى أجر بين زملائك الجدد، الذين يحظون جميعهم في تلك الشركة الجديدة على رواتب أقل مما تتقاضاه راهناً،فالأغلب أن تكون راضياً بذلك، والغالب بأنك سوف تشعر أيضاً بالرضى والسعادة على الرغم من أن راتبك لم يزدد فعلياً من الناحية الرقمية.

وسواء أحببنا ذلك أم لا، فإن أدمغتنا كبشر مصممة لإجراء مقارنات عالية السياق. حتى حواسنا تعتاد على ما يبقى على حاله، ولكن تدون ما يتغير في حدته ودرجتهوشكلهوتمظهره. هذا الدافع لإجراء مقارنات يمكن أن يقودنا إلى المسار الخطأ مراراً وتكراراً فيما يتعلق بكيفية اتخاذنا للقرارات.

مثلما لا تستطيع حواسنا تسجيل كل جانب من جوانب البيئة المحيطة بنا، فإن قراراتنا تسترشد فقط بالمعلومات التي يمكننا وضعها في الدماغ في لحظة اتخاذ القرار، وهي محدودة دائماً. وعندما يمكننا تنظيم المعلومات وتصنيفها بسهولة، من خلال مقارنة الميزات المتشابهة، على سبيل المثال، نشعر كما لو أنه يمكننا اتخاذ قرار جيدبناء على تلك المقارنات، بينما الحقيقة في حيواتنا المعاصرة قد تكون غير ذلك.

أنواع التفكير

يوضح لنا مبدأ النسبية أيضاً أنه يمكننا تصنيف العديد من الأفعال التي تقوم بها أدمغتنا إلى نوعين: سريع وبطيء. يسمي دانيال كانيمان الحائز على جائزة نوبل هذين النوعين من التفكير بالنظام السريعوهو ما دعاه بالنظام 1، وآخر نظام تفكير بطيء سماه النظام 2.

يؤثر دماغنا سريع التفكير على سلوكنا بعدة طرق، فهو يبحث عن الأنماط، ويبحث عن تأكيد الأدلة، ويملأ التفاصيل الإدراكية عندما تكون مفقودة. إنه سهل وتلقائي ويتأثر بالعواطف. بالنسبة لكثير من البشر، فإن الدماغ سريع التفكير متسرع ومتهوروغير رصين، في حين أن الدماغ البطيء وكثير التفكير هو الصديق الصدوق الذي يمكن الاتكاء عليه. وهذا ما نعتقد بأنه جانبنا المنطقي في سلوكنا وتفكيرنا.

ولكن، كما يلاحظ كانيمان، فإن ما ندركه هو المنتج النهائي للتفكير،وليس نهج التفكير نفسه.والحقيقة الصادمة هي أن مفكرنا البطيء يتأثر بشدة بنظيره سريع التفكير، غالباً بدون علمنا، كما يتضح من تأثير الشرك بوضوح.

كما يصف دانيال كانيمان هذين الوضعين من التفكير، فإن الوضع السريع هو العقل اليومي الاعتيادي والذي قد يسري عليه توصيف العقل اليومي الاعتيادي، وبالتالي فهو سهل، ونشعر بأنه تلقائي لأننا لا نملك إحساساً بالسيطرة عليه، وهو المحرك الرئيسي لسلوكنا، ويمكن التنبؤ به. كما أنه يكمن وراء عدد من المساربالمعرفية الاستسهاليةلدينا، مثل التنميط من قبيل كل أبناء ذاك المجتمع، أو البلد، أو المذهب، أخيار أو أشرار وما كان على شاكلته.

الوضع البطيء أقل استخداماً لأنه يتطلب الانتباه والجهدوالتركيزوالتفكير العميق. إنه منطقي وحسابي نسبياً، وواعي. لكنه أيضاًمنهك عقلياً واستقلابياً إذ أنه يستهلك طاقة أكثر بكثيرمن نهج التفكير السريع.وأدمغتنا تطورت للقيام بمهماتها بأقل درجة من الطاقة الاستقلابية، أي أنها تفضل التكاسل وعدم التفكير إن كان هناك بديل لذلك، وغالباً ما تفضل أدمغتنا الحل السهل بدلاً من التفكير العميق الممنهج.

وليس المفكرون المتكاسلون فقط بشكل عام هم من يقعون فريسة للإغراء،إذ يشعر معظم الناس بثقة زائدة في نمط تفكيرهم السريع وقدرته على اتخاذ قرارات يظنها صائبة في ظاهرها.

لا يمكننا التحكم في مقدار الطاقة العقلية التي نضعها في أنواع مختلفة من المهام؛ ستأخذ بعض المهام المزيد من طاقتنا العقلية المتاحة، والبعض الآخر من المهامسيأخذ طاقة أقلبشكل أقل.ويعتمد مقدار الجهد العقليالذي يتم بذله على مدى مهارتنا في المهمة.

في البداية، تتطلب قيادة السيارة كل جهدنا الذهني المتاح، بالاتكاءعلى نظام التفكير البطيء إلى أقصى حد. ومعمرور الوقت،وممارسة قيادة السيارة بشكل أكثر،سوف تصبح قيادة السيارة فعلاً تلقائياً يتكئ بشكل شبه كلي على نظام التفكير السريع، إذ يمكنا القيادة دون اللجوء إلى الكثير من التفكير الواعي، بعد أن تم دمجها في نظام التفكير السريع التلقائي، وبالتالي سوف نحتاج إلى قدر أقل من الجهد العقلي والطاقة الاستقلابية لتحقيق نفس هدف قيادة السيارة.وقد نبالغ في تقدير مدى ضآلة الاهتماموالجهد الذي نحتاج إلى إعطائه للقيادة والانغماس في إغراء تشتيت انتباهنا أثناء القيادة، مما قد يقود إلى كوارث لا تحمد عقباها.

ولأن الجهد العقلي مكلف، لذلك نميل إلى تقليله. كما يقول العالم دانيال كانيمان السالف الذكر: الكسلوالميل للتكاسل متأصل في طبيعتنا البيولوجية ككائنات في مملكة الحيوانات.

العالم دان أريلي تطرق للتكاليف الاجتماعية لهذا الكسل، إذ أظهرت العديد من دراساته أنه عندما تكون عقولنا منشغلة، أو عندما تتغير قدرتنا العقلية بسبب حالتنا العاطفية أو حالة فسيولوجية أخرى من قبيل الإثارة الجنسية، أو الجوع، أو الغضب، أو التعب، فمن غير المرجح أن نسلك الطريق الأخلاقي المتعقل الحصيف الرشيد، حيث نصبح أكثر عرضة للاستسلام للسلوكيات التمييزية التحيزية غير الموضوعية تجاه الآخرين،ولإصدار أحكام سطحية، والتصرف بشكل بدائي بدلاً من التصرف ككائنات متحضرة.

القرارات التي نعتقد أننا نتخذها بعقلانية تتأثر بشدة بحالاتنا العاطفية والفسيولوجية. ونحن نعتقد أن نظام التفكير البطيء هو المسؤول في معظم الأوقات، ولكن ما لا ندركه هو أن نظام التفكير السريع يتولى المسؤولية دائماً عندما لا نولي اهتماماً وثيقاً للطريقة وللنهج الذي نفكر به ونعطيه الوقت الكافي للقيام بذلك.

وضعا التفكير البطي والسريع يتركاننا مع نوعين مختلفين من الذات؛ الأول هو الذات التي تختبر العالم في الوقت الحالي،والآخر هو الذات التي يمكن أن تستعيد الماضي وخبراتهوتفكر بعمق في نتائج أفعالها في المستقبل، وبالنسبة لمعظم البشر،هاتان الذاتان متشابكتان لدرجة أنهما لا تعرفان حتى أن كلاهما موجودتان فعلياً.

ولكن أظهرت مجموعة من الدراسات التي أجراها كانيمان وزملاؤه هذه الميزة العميقة والغامضة للطبيعة البشرية، وأن هذه الميزة يمكن أن تؤثر على اتخاذ قراراتنا بطرق واسعة النطاق ومدهشة.

فكر في وقت كنت تستمتع فيه تماماً بنشاط ما،من قبيل متابعة مباراة رياضية مكثفة، ولكنكان ختامه نهاية سيئة. ربما خسر فريقك المباراة بفضل حكم غير مناسب من الحكم.

في كثير من الأحيان نشعر بالضيق الشديد عندما يحدث شيء من هذا القبيل في النهاية، وليس في وقت ما في منتصف الوقت الذي أمضيناه في ذاك النشاط.

وعلى الرغم من أننا أمضينا الغالبية العظمى من الوقت مستمتعين بوقتنا، إلا أن هذا الحدث السيئ الأخير لا يزال قائماً في خلاصتنا الذهنية عن ذاك النشاط، ويشوه ذاكرة الحدث بأكملها، نظراً لأننا نميل إلى تذكر النهايات بقوة أكبر من الأجزاء الأخرى من سياق الأحداث والتجارب في حياتنا، ولذلك قد نميل إلىاجترار الأحداث وتصنيفها على أنها سلبية بشكل عام في حال كانت خواتيمها سلبية، مع تجاهل حقيقة أن ذاتنا التي مرت بالتجربة كانت مستمتعة في معظم الوقت.

هناك الآن العديد من الدراسات التي تُظهر أن تقييماتنا للاستمتاع بنشاط ما تعكس متوسطاً مرجحاً لأكثر اللحظات كثافة خلال الحدث ونهاية التجربة. إنها تسمى قاعدة الذروة والنهاية، وهي تنطبق على التجارب الإيجابية والسلبية. وتؤثر على القرارات التي نتخذها بشأن الكيفية التي نروم ونسعى بها الحصول على تلك التجارب في المستقبل.

وقد يستقيم القول بأن الذات التي تتذكر غير منطقية ومضللة، ولكن بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، فهي تؤثر على القرارات التي يتخذونها بشأن كيفية قضاء وقتهم وأموالهم أكثر بكثير من الذات التي مرت بالتجربة.

تم بناء الذات التي تتذكر إلى حد كبير بمرور الوقت بواسطة منظومة التفكير البطيء لدينا، والذي نعتقد أنه مسؤول عن قراراتنا، الكبيرة على الأقل. لكن وضع التفكير السريع يؤثر على هذا البناء في كل خطوة على الطريق، من اختيار ما نركز عليه إلى توفير الاختصارات في شكل الاستدلال والتحيزات. لذلك، لا يمكننا استبعاد تأثيره على الخلاصات النهائية التي يتم ترسيخها في الذاكرة، وعملياً يتم ضغط مدة الذكريات لأن ما يجذب انتباهنا وبالتالي يتم تخزينه في الذاكرة هو لحظات التغيير من شاكلة الذروة والنهايات، وإلى حد ما، البدايات أيضاً، لكن ما يحدث في المنتصف يُنسى إلى حد كبير.

تماماً مثل حواسنا، التي تميل إلى التعود على ما هو ثابت في البيئة، تتأثر أنظمة تفكيرنا بالتغيير، وتسعى دائماً لالتقاط ذاك التغيير واستخدامه في استخلاص الاستنتاجات والقرارات المهمة، وحتى بناء الذكريات، وهي بذلك قد تتخذ قرارات غير رشيدة في كثير من الأحايين، ومعرفة نقاط ضعف العقل البشري الخطوة الأولى للاتكاء على نظام التفكير البطيء من أجل استنباط أنهاج سلوكية لا بد من تبنيها إرادياً والتدرب على الالتزام بها  للحد من مفاعيل التفكير السريع التلقائي السلبية والتي قد تكون عصية على الحصر في حيواتنا المعاصرة.