هل يمكن لتقنيات تصوير الدماغ فك شفرة أفكارنا؟

تقنيات التصوير العصبي تأثر بشكل عميق على فهمنا للدماغ بدءاً من شبكاته إلى مرونته أي قدرته دائماً على تعلم أشياء جديدة وتحوير ما تم تعلمه من قبل والعديد من النتائج الأخرى المرتبطة بكليهما، ولكن من السهل جداً إساءة تفسير نتائج تلك التقنيات والمبالغة في تقدير قيمة مدلولها.

خلال العقود القليلة الماضية فقط تمكنا من رؤية النشاط العصبي داخل دماغ حي وصحي من خلال مجموعة من وسائل تصوير الدماغ والجهاز العصبي المركزي. وخلال هذه الفترة، تحسنت التقنيات المسحية للدماغ بشكل متسارع مكن العلماء من فهم آلية عمل الدماغ بشكل أكثر دقة.

أدوات التصوير العصبي الدماغي

هناك عدة طرق مختلفة يمكننا من خلالها قياس نشاط الدماغ في الشخص السليم. يمكننا تسجيل الجهود الكهربائية - أي متوسط ​​النشاط العصبي الناجم عن نشاط العديد من الخلايا العصبية في داخل نسيج الدماغ عن طريق وضع أقطاب كهربائية على فروة الرأس، وهذا ما يسمى مخطط كهربية الدماغ (EEG)، وهو يعطينا فكرة عما تفعله مجموعات الخلايا العصبية في نقطة زمنية محددة للغاية.

يمكننا أيضاً معرفة المكان الذي نشطت فيه الخلايا العصبية للتو من خلال تتبع كمية الأكسجين في الدم المتدفقة إلى تلك المنطقة، نظراً لأن الخلايا النشطة تتطلب المزيد من الأكسجين مقارنة بالخلايا العصبية غير النشطة،ويمكننا استخدام الخواص المغناطيسية للشوارد داخل الخلايا العصبية لاكتشاف التغيرات في أكسجة الدم في أجزاء مختلفة من الدماغ. هذه هي الطريقة التي تم بها إعادة توجيه أدوات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، والذي من خلاله نرى أين تكون خلايا الدماغ أكثر نشاطاًفي البنى التشريحية للدماغ ومقارنةمستوى ذاك النشاط عند قيام الفرد ببعض الأنشطة العقلية الأساسية.

لا تزال فحوصات التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (Positron Emission Tomography) مستخدمة أيضاً، على الرغم من أنها أقل تكراراً، لأنها توفر الكثير من نفس المعلومات التي يمكننا الحصول عليها من التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، ولكنها تتضمن حقن مادة مشعة يتم تتبعها بعد ذلك عند تناولها بواسطة الخلايا النشطة. وفي الممارسة الطبية السريرية اليومية فإن فحوصات التصوير المقطعي بالإصدار البوزيترونيمخصصة إلى حد كبير لتشخيص الأمراض التنكسية العصبية أو السرطان،أكثر من دراسات وأبحاث وظائف الدماغ البشري.

هناك طرق مسحية أخرى للدماغ يمكننا من خلالها تتبع النشاط الكهربائي أو نمط تدفق الدم إلى نسج الدماغ، ولكن مبادئ كيفية تفسير هذه البيانات متشابهة بشكل أساسي، حيث يسعى كل منها بطريقته التقانية الخاصة لكشف الأجزاءالنشطة من الدماغ، أو الشبكات العصبية المتوزعة على عدة مناطق تشريحية عندما يقوم شخص ما بفعل نحاول فهمه على المستوى الدماغي، مثل ارتجال الموسيقى، أو حل مشكلة رياضية، أو تذكر الماضي، أو الكذب.

يخبرنا هذا النشاط أن عدداً كبيراً يعد بملايين الخلايا العصبية تطلق جهود فعل فيما بينها،وهو ما يعني بشكل مبسط سريان نشاط كهربائي على إشارات كهربائية إلى بعضها البعض في نفس الوقت تقريباً. يمكن أن تكون هذه الإشارات معقدة ومركبة في عدد وحجم الإشارات الجزئية المتضمنة فيها. والزيادة في الإطلاق أي زيادة الفعل الكهربائيلا تعني دائماً نفس الشيء بالنسبة لجميع الخلايا العصبية، بالنسبة لبعض الخلايا، يكون معدل الإطلاق خط الأساس أي عندما تكون في حالة الراحة مرتفع جداً، والانخفاض في الإطلاق هو الذي يعني فعالية وإشارة عصبية ذات مغزى على المستوى الدماغي.

من المحتمل أن تقوم بعض المناطق الدماغية بإجراء عمليات حسابية لا تتضمن تفعيل الملايين من الخلايا في انسجام تام. في بعض المناطق التشريحية، قد تكون الإشارات أكثر تحديداًوتزامناً وانسجاماً من عدد كبير من الخلايا أو تكون في بعض الأحيان الأخرى غير متناغمة ومتباينة في الشدة والتواتروحتى الموقع التشريحي للتفعيل العصبي ومن عدد قليل من الخلايا العصبية.

لكن من المهم الالتفات إلى أن صور الأدمغة المنشطة التي نراها غالباً في وسائل الإعلام ليست صوراً حرفية دقيقة لنمط تفعيل الخلايا العصبية، ولكنهاغالباً خرائط ورسومات إحصائية تأخذ شكل الدماغ البشري، وتشير إلى مكان وجود الخلايا الأكثر نشاطاً في الدماغ.

تعتمد أشكال هذه الخرائط والرسومات على الموقع الذي يحدد فيه الباحث الحد الإحصائي أي الدرجة التي بعدها يمكن لاعتبار النشاط الكهربائي المسجل نشاطاً ذو قيمة إحصائية وتدوينه في الخريطة الإحصائية. وإذا خفض العلماء هذا الحد في تحليلهم، فستكون هناك دائماً مناطق أكثر نشاطاً؛وإذا رفعوه، سيكون هناك عدد أقل، إذ أن الدماغ في حالة عمل دائم هناك دائماً نشاط منخفض الدرجة في جل المناطق التشريحية الدماغية خلال اليقظة وحتى خلال النوم.

هناك أيضاً دراسات تصوير الأعصاب التي تركز على أحجام البنى التشريحية الدماغية المختلفة، بدلاً من نشاطها. ويمكن أن تبدو هذه الخرائط مشابهة جداً لخرائط النشاط للعين غير المتعلمة، لكنها لا تعطي نفس المدلول،إذ دائماً يختلف حجم أي بنية تشريحية في الدماغ عن مدى نشاطها.

من خلال استخدام أدوات التصوير العصبي، تعلمنا أن جزءاً كبيراً من الدماغ يكون نشطاً طوال الوقت، بغض النظر عما نقوم به، وأن هذه الفعاليات العصبية على شكل تفعيل كهربائي غالباً ما تتبع أنماطاً بعينها، مع تذبذب بعض المناطق في النشاط المتزامن، وتصرف مناطق أخرى بشكل أكثر استقلالية من ناحية النشاط العصبي فيها.

أعادت هذه النتائج تشكيل طريقة تفكيرنا عن الدماغ،وقادتنا للابتعاد أكثر عن التفكير فيه كآلة نمطية، مع مناطق مختلفة لها وظائف مختلفة، ونحو رؤية أكثر تشابكاً، نتحدث عن دوائر وشبكاتالدماغ التي تعمل معاً، ويمكن أن تشمل عدة مناطق تشريحية في الدماغ.

عندما يطور الشخص مهارة ما، يمكن تمييز الخرائط الوظيفية للنشاط العصبي الكهربائي الاستقلابي في الدماغ، وهي التي تمثل مراحل مختلفة من التدريب عن بعضها البعض. بشكل عام، يتم أولاً تجنيد المزيد من المناطق التشريحية لمساعدة الشخص على أداء المهمة،ومع الممارسةوالتدريب، تبدأ هذه المناطق في العمل بشكل أكثر كفاءة، وهذا غالباً يترافق مع وجود خرائط نشاط وظيفي تظهر عدداً أقل من المناطق التشريحية المعنية بالقيام بالمهمة التي تم إتقانها، ولكن مع سعة أكبر للإشارة الكهربائية والاستقلابية في تلك المناطق.

لقد كان لتقنيات التصوير العصبي تأثير عميق على فهمنا للدماغ، بدءاً من شبكاته إلى مرونته أي قدرته دائماً على تعلم أشياء جديدة وتحوير ما تم تعلمه من قبل، والعديد من النتائج الأخرى المرتبطة بكليهما، ولكن من السهل جداً إساءة تفسير نتائج تلك التقنيات والمبالغة في تقدير قيمة مدلولها.

قبل أن نقرر استخدام بعض أدوات التصوير لتتبع نشاط الدماغ أو هيكله، نحتاج إلى فهم ما ستخبرنا به المعلومات المستقاة من تلك الأداة. في بعض الأحيان، لا تكون المعلومات الإضافية التي يقدمها لنا التصوير العصبي مفيدة مثل المعلومات الإضافية التي يمكننا الحصول عليها من خلال فهم لطبيعة و تغايرات السلوك الذي نريد دراسته عبر ملاحظته بشكل دقيق كما يجري في الحياة اليومية، و كمثال توضيحي على تلك الملاحظة المهمة، يمكن أن نشير إلى أنه إذا قمت بتفعيل جزء من دماغك أثناء قيامك بنشاط مامثل الكتابة، فلا يمكننا التأكد من أنك تقوم بتفعيله لنفس الأسباب و الدوافع التي قد يقوم على أساسها شخص آخر بتفعيل دماغه للقيام بفعل الكتابة نفسه، و لذلك وفقاًلمستوى قدرة التقانات العلمية و البحثية الراهنة، قد تكون الاختلافات فيما يحدث في دماغي شخصين يقومان بنفس الفعل  غير قابلة للملاحظة كلياً من خلال تقانات التصوير العصبي المعاصرة.

وهناك العديد من المناطق التشريحية في الدماغ التي غالباً ما يتم الحديث عنها من قبل وسائل الإعلام وغير المتخصصين، وفي كثير من الأحوال بشكل مقصر وخاطئ في كثير من الأحايين. ومن تلك المناطق اللوزة الدماغية، والتي تشارك في تعديل المشاعر؛ودائرة المكافأة التي تستجيب لارتفاع الدوبامين؛ وقشرة الفص الجبهي، وهي أحدث إضافة على أدمغتنا من الناحية التطورية مقارنة بأبناء عمومتنامن الحيوانات الأخرى في مجموعة الحيوانات الرئيسيات والتي تضم قردة الغيبون والشمبانزيوالبانوبووغوريلا الجبال.

التصوير الدماغي واكتشاف وظائف اللوزة الدماغية 

اللوزة هي بنية على شكل لوزة في الفص الصدغي الأوسطي، في عمق الدماغ خلف أذنيك تقريباً. مثل العديد من مناطق الدماغ، تقوم اللوزة بالعديد من الوظائف. من المرضى الذين يعانون من تلف اللوزة، ومن الدراسات التي أجريت على الحيوانات التي أصيبت فيها اللوزة، نعلم أنه بدونها، لا نرى التسجيلات المعتادة في الذاكرة والتي تصاحب الأحداث العاطفية.

على الرغم من الاعتقاد السائد، نحن عادة لا نقمع الذكريات السلبية، إذ تعزز المشاعر السلبية مثل الخوف أو القلق ميل الدماغ لتذكر تفاصيل التجربة التي رافقتها مشاعر سلبية وتذكر المزيد من التفاصيل عن البيئة والجوانب الأخرى للتجربة؛ لكن البشر والحيوانات الذين أصيبوا بأضرار تشريحية في اللوزة لا يتذكرون هذه التجارب بشكل يماثل الأصحاء أو حتى لا يتذكرونها على الإطلاق.

غالباً ما تفسر وسائل الإعلام المتسيدة وغير المتخصصة تنشيط اللوزة على أنه علامة على خوف البشر من شيء ما، ولكن إذا كانت المشاعر التي نشعر بها أثناء الحدث إيجابية، فإن اللوزة تلاحظ ذلك أيضاً، وتلعب دوراً في توثيق تفاصيل الحدث الإيجابية أيضاً.

لكن القصة أكثر تعقيداً من ذلك بكثير فيما يتعلق بوظائف اللوزة الدماغية، إذ يمكن أن يؤدي الضرر الذي يلحق باللوزة الدماغية إلى تقليل الشعور بالخوف لدى الناس،لكنهم يظلون قادرين على التفاعل والتوجسوالهلعمن رؤية الوجوه المخيفة. وتظهر الحيوانات المصابة بآفات في منطقة اللوزة انخفاضاً في السلوكيات الجنسية وتلك العدوانية وحتى الأمومية.

الأشخاص الذين لديهم لوزة دماغية أكبر على الجانب الأيسر هم أكثر أهبة لان يحتاجوا لتناول الأدوية أو العلاج النفسي لعلاج الاكتئاب،وهم أكثر عرضة للإصابة باضطراب الوسواس القهري، واضطراب الشخصية الحدية، واضطراب ما بعد الصدمة. وكذلك يرتبط الرهاب الاجتماعي بمزيد من النشاط الكهربائي في اللوزة.

لكن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات القلق غالباً ما يكون لديهم لوزة دماغية أصغر من الطبيعي في النصف الدماغي الأيسر. ويرتبط حجم اللوزة الدماغية أيضاً بشكل إيجابي بحجم شبكتك الاجتماعية. وكلما كانت شبكتك أكبر، كلما كانت اللوزة الدماغية، بشكل يومي إلى أن كبر اللوزة أدى لميل شخصي لتشكل شبكة اجتماعية أوسع لدى الفرد.

ويوجد في اللوزة الدماغية عدد من المناطق الفرعية المختلفة، كل منها قد تقدم مساهمة مختلفة في التعديل العاطفي لتجاربنا. لذلك، فإن اللوزة الدماغية متداخلة فيما هو أكبر بكثير من مجرد الخوف والعدوان، وهي تتداخل في جل الارتكاسات العاطفية لبني البشر وكيفية تذكرهم لها سواء كانت سلبية أو إيجابية.


تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنكليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.