الديمقراطية تعاني من مرض العصر الرقمي


البلدان التي تقدس ديمقراطيتها وجدت آراء أجيال فيها خارجة عن السيطرة بفضل المنصات الاجتماعية. وتلك أحد أمراض المجتمعات الرقمية برمتها، وليس فقط مرض الديمقراطية والنقاش الحر.
إساءة معاملة كريس ويتي، أحد أعراض خروج وسائل التواصل الاجتماعي عن السيطرة

يمكن أن نتخيل أن هذا الفيديو قد حدث في أحد شوارع القاهرة أو بغداد أو الرياض أو بيروت! أما أن تتنقل المعركة الأخلاقية السامة من مواقع التواصل الاجتماعي إلى شوارع لندن، فهذا يعني أن تويتر وفيسبوك خرجا عن السيطرة.

بإمكان أيّ منا أن يسرد تفاصيل حوادث وفيديوهات مصورة بعدسات الهواتف من الشوارع العربية، عن اعتداءات على أشخاص لمجرد الاختلاف في الرأي معهم، على مواقع التواصل. لكن حدوث مثل هذا الأمر في “دولة ديمقراطية” كالمملكة المتحدة، يعني ببساطة أن ما يحدث من خلافات في شوارع البصرة والرياض وبيروت.. وجدت لها صورة طبق الأصل في لندن! وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي.

الفيديو الذي شكل صدمة سياسية في بريطانيا الأسبوع الماضي، كان لمراهق يهاجم كبير المسؤولين الطبيين البروفيسور كريس ويتي بإساءة لفظية، وينعته بالكاذب والمحب للشهرة والمروّج للتصريحات الدعائية الملفقة عن وباء كورونا.

اقترب المراهق من البروفيسور ويتي، الذي يشارك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في المؤتمرات الصحافية عن وباء كورونا، مطلقا عليه أمام المارة نعوت الكاذب والاستعراضي، وصوّر الواقعة بثقة مفرطة بالنفس كي ينشرها على حسابه في مواقع التواصل.

هل يهم ما حدث بعدها، الاستياء والاستغراب والإدانة، ووصف الحكومة البريطانية الأمر بغير المقبول، والآلاف من التعليقات -بغض النظر عن طبيعتها سواء مع المراهق أو البروفيسور- والمطالبة بتشغيله في الخدمة العامة بالمستشفيات كعقوبة رادعة له. ثم التغطية الصحافية لقصة إخبارية في مقدمة نشرات الأخبار… وبعدها الاعتذار الشديد من والدة المراهق، موضحة أن ابنها البالغ من العمر 15 عاما لديه “اهتمام كبير بالشؤون السياسية والعامة”، وهذا ما دفعه إلى الموقف اللفظي المحموم من البروفيسور كريس ويتي، وعلى مرأى من الناس في أحد شوارع لندن.

سنجد مثل هذا المراهق البريطاني عشرات الآلاف في مدننا العربية. لكن ليست تلك القصة، فالدلالة تكمن في أن البلدان التي تزعم أنها تقدس ديمقراطيتها، وجدت آراء أجيال فيها خارجة عن السيطرة بفضل المنصات الاجتماعية. وتلك أحد أمراض المجتمعات الرقمية برمتها، وليس فقط مرض الديمقراطية والنقاش الحر.

اعتبر سيمون جنكينز، أحد أهم كتاب الأعمدة في صحيفة الغارديان البريطانية، إساءة معاملة كريس ويتي، أحد أعراض خروج وسائل التواصل الاجتماعي عن السيطرة، مؤكدا أن النقاش الحر لا ينجح إلا إذا كان منضبطا وفق القيم الأخلاقية. وذلك ما يجعل الفشل في تنظيم الثورة الرقمية الخطأ الأكبر في عصرنا، مع كل ما تقدمه هذه الثورة من خدمة جليلة للبشرية.

الفشل الدولي في تنظيم العصر الرقمي، يجعل المشاهير يتعرضون إلى انتهاكات مجهولة تأسيسا على آرائهم، كما يسهل تلفيق المعلومات ونشرها بشأن فايروس كورونا، وليس مجرد التعبير عن الشك المقبول. التلفيق رائج من دون أي تكلفة تحت ذريعة حرية التعبير. فالأخبار الكاذبة تغذي حكم الغوغاء دون ضبط النفس، وتعيد الازدراء والانتقام الديني والطائفي والقومي والعنصري، وتتسبب بإشاعة الضغينة والكراهية والحقد.

عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات، فإنها تلقفت بسرعة الهدايا التكنولوجية، وتكيفت معها من أجل أن تستغلها في التعبير عن الكراهية للآخر. ومثال المراهق البريطاني الذي أعلن كراهيته لكبير الأطباء في بلده، يؤكد أن لا أحد بمنأى عن مساوئ استغلال المنصات الاجتماعية.

سبق للمؤرخة الأميركية باربرا توكمان أن تنبأت بما سيحدث للمجتمعات الغربية في كتابها الشهير “بنادق أغسطس”، الذي صدر إبان الحرب العالمية الأولى، عندما قارنت بين أثينا القديمة وما حدث في الأشهر التي سبقت الحرب العالمية الأولى. ولاحظت أن الحضارة الغربية قد تقدمت بسرعة فائقة باستثناء مجال واحد، وهو السلوك السياسي.

ستكون توكمان محظوظة فكريا لو تسنّت لها اليوم قراءة انهيار المؤسسات السياسية في العالم تحت وطأة امبراطورية فيسبوك، فالناس عادت إلى الصراخ كتعريف عن نفسها في منصات مليونية، وازداد الكذب إلى درجة صار فيها إن لم يكن هناك ما هو صحيح فهذا يعني أن كل شيء يمكن أن يكون كاذبا! فيما زادت الحكومات من سلطة الرقابة. بينما تراجع دور الصحافة المسؤولة بوصفها وسيلة حرة وديمقراطية لنشر المعلومات الدقيقة.

الأسبوع الماضي طردت منصة بارلر للتواصل الاجتماعي، مديرها العام جون ماتزي من منصبه، بسبب التناقض الحاد في تفسير “حرية التعبير”.

فطالما افتخر ماتزي بأن ما يمكن قوله في شوارع نيويورك يمكن نشره على منصة بارلر، التي تعد الوسيلة المفضلة لأنصار اليمين المتطرف بعد التضييق عليهم في فيسبوك وتويتر. والفرق هناك أن الناس تراك وأنت تصرح بشتم الآخر عندما تكون في الشارع، لكن على منصتك الشخصية يمكن أن تحتمي خلف لوحة مفاتيح الكمبيوتر وباسم مستعار كي تبث كراهيتك للآخر!

لم تبدأ مدونة القيم الصحافية إلا بعد خمسة قرون من اختراع الطباعة. وتطورت الصحف من قوة سياسية إلى كونها مورِّدا مستقلا تقريبا للحقائق والرأي.

كانت الحرية تنظمها مفاهيم الذوق والدقة والحيادية وتعدد المنافذ. على الرغم من سوء الاستخدام وفق المصالح الأنانية السياسية والتجارية للصحف، فقد دعمت الأخبار والآراء على اختلاف توجهاتها حيوية النقاش الديمقراطي.

لكن جنكينز بخبرته الصحافية لا يتردد مثل الكثيرين غيره، في إظهار حيرته ومخاوفه من أن وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن ضبطها، بعد تجاهل مريع لمدونة القيم في التعبير عن الأفكار والآراء وتحت ذريعة حرية الكلام الزائفة.

حرية النقاش تعني بالضرورة الدقة والواقعية واللياقة في الدفاع عن الأفكار، إلا أن الصراخ صار سمة التعبير عن الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث استقطب الغوغاء الملايين من المتابعين كقوة مضافة إليهم، بينما غابت صناعة الأفكار!