الرافعي.. وحفريات عالم الآثار

مصطفى صادق الرافعي علم من أعلام النهضة الأدبية في مصر والعالم العربي، وهو لبناني الأصل، ولد عام 1880 في طرابلس الشام.
الرافعي كان يتطلع إلى إمارة الشعر ولكنه لم يصل إلى تحقيق حلمه الأدبي
كلمة "مجهولة" ونحن نتحدث عن كاتب في القرن العشرين، تثير في نفسي قضية مهمة

في سلسلة "كتاب المجلة العربية" عثرت على كتابين جمعهما وليد عبدالماجد كساب، ضما مقالات لمصطفى صادق الرافعي وصفت بالمجهولة؛ ويضم الجزء الثاني وثائق تنشر لأول مرة.
 ومصطفى صادق الرافعي علم من أعلام النهضة الأدبية في مصر والعالم العربي، وهو لبناني الأصل، ولد عام 1880 في طرابلس الشام، كما كانت تسمى، وقد تلقى تعليمه الأساسي في مصر بمدرسة دمنهور الابتدائية، وقبل أن يبلغ العشرين من عمره عين كاتبًا بمحكمة طلخا الابتدائية.
وهو من الذين بدأوا إبداعهم مع مطلع القرن العشرين، وهو يمثل طبيعة هذه المرحلة التي كانت متنوعة في توجهاتها، مختلفة في مراميها، وكان الاختلاف بين أقطابها حق، وكانت الجدية عندهم طبع واجب، وهو ما أدى إلى حدة معاركهم وشخصنتها في بعض الأحيان، ذلك كان هؤلاء الرواد يصنعون للأدب العربي الحديث وللفكر العربي الحديث طرقًا يشقونها ويمهدونها ويصنعون منها منارات تضيء طريق التقدم لمن يأتي بعدهم. 
هذا الجيل الذي قدم أهم العقليات البانية للنهضة ومنها مثلًا: أحمد أمين، وعلي عبدالرازق، ومصطفى عبدالرازق، وقاسم أمين، وإسماعيل مظهر، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، بالإضافة إلى علمين جليلين هما: الشيخ أمين الخولي، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والمكتوب عنه، مصطفى صادق الرافعي، وآخرون. كان الطابع الوحيد الذي يطبع هؤلاء هو الجدية والدأب والمنافسة من أجل التفوق بعد المعاناة في سبيل الفهم.
لم يكن هؤلاء الرواد ينتمون إلى مدرسة واحدة؛ فمنهم من كان ينتمي إلى مدرسة التراث اللغوي والأدبي، ومنهم من كان ينتمي إلى مدرسة التراث الديني، ومنهم من كان يتطلع شمالًا إلى اكتساب منجزات الثقافة الغربية في أوروبا، وهي الثقافة التي ظهرت بفضل ترجمات التراث العربي إلى اللغات اللاتينية والعبرية في القرون السابقة على النهضة، والتي شكلت عنصر الدفع القوي لنهضة أوروبا، وخروجها من العصور الوسطى، ولهذا كان العقاد يرى أن ما نأخذه من الغرب هو سداد للديون التي على الغرب لنا.

هل كان تعدد مجالات الكتابة والتعبير عند الرافعي ذات أثر سلبي على عمق إبداعه لو أنه كان اختار لنفسه مجالًا واحدًا وانصرف إليه بكل طاقته؟ 

ولكن، لأن الحضارة الإنسانية ليست ملكًا لأمة وإنما هي ملك لمن يحملها، فقد بدأت الحضارة الإنسانية فرعونية، ثم إغريقية، ثم بيزنطية، ثم إسلامية، ثم أوروبية، ثم أميركية، وهي الآن تسير بخطى سريعة صوب الشرق الأقصى في اليابان وكوريا والصين، فهي ليست ملكًا أو حكرًا إلا على من يحملها ويتبناها ويضيف إليها.
ولهذا لم يكن من المباهاة أن نقول إن للعرب فضل على الحضارة الغربية إلا لنعوض نقصًا يشعر به البعض حينما يأخذون من الحضارة الغربية، وكأن ما يأخذونه يقلل من قدرهم بين الأمم والحضارات، مع أن الأخذ والرد هو كما أسلفنا سنة من سنن الحضارة.
أعود إلى الحديث عن أحد رواد النهضة المعاصرة في مصر والعالم العربي وهو مصطفى صادق الرافعي، والرجل كان كاتبًا تقليديًا إسلاميًا بمعنى أنه كان منتميًا إلى مدرسة التراث الديني الإسلامي، لكنه كان أديبًا منفتحًا وشاعرًا وكاتبًا وناقدًا مجددًا، وكان الرافعي يكتب في الإبداع الشعري والقصصي والمسرحي كما كتب في اللغة وبلاغتها، وفي الدين وفهمه، لكن الجانب الذي تفوق فيه هو الدراسات الأدبية والنقدية.
ما لفت نظري في هذين الكتابين، كلمة "المجهولة"، فهي مجهولة لمن؟
أهي مجهولة للقارئ؟ بمعنى أن المؤلف كتبها وأضاعها؟ أم أنها مجهولة للمؤلف ذاته بعد أن يكون قد نشرها في صحيفة أو مجلة سيارة ثم ضاعت مع مرور الأيام ولم يعرف عنها شيئًا؟
فكلمة "مجهولة" في الحقيقة ونحن نتحدث عن كاتب في القرن العشرين، تثير في نفسي قضية مهمة، وهي قضية توثيق الإنتاج الفكري لأن هذا الإنتاج هو خلاصة عقل المفكر الذي يخرج متدفقًا في لحظة الكتابة الإبداعية سواء كانت تأليفًا أو نقدًا، ومن هنا تكون أهمية هذا العمل، فهو ابن اللحظة التي ظهر فيها وعبّر عن الحال الذي كان عليه منتج هذا العمل أو مؤلفه أو صانعه، فإذا كنا في القرن العشرين نتحدث عن ضياع بعض ما أنتجه رجال في القرن العشرين، فماذا عن القرون السابقة حين كان النشر أصعب، والاهتمام أقل؟ 
إن البحث في تراث المثقف العربي يحتاج إلى اهتمام يشبه حفريات عالم الآثار في بحثه عن تراث الأقدمين الباقي مجهولًا تحت الأرض، فكما أن علم الآثار يفاجؤنا من فترة إلى أخرى بمكتشفات مبهرة تعيد إلينا تصورًا آخر لما كان عليه الأقدمون وتجعلنا أحيانًا في موقف ضعف أمامهم من حيث القدرة والعطاء، فإن الحفريات في التراث بدورها تفاجئنا باكتشافات لهؤلاء الأقدمين الذين يجعلونا نشعر بمكانتهم العالية إلى جانب مكانتنا الصغيرة، فنعرف ما يجب علينا أن نفعله لنقترب منهم ثم نصل إلى قدراتهم ثم نحاول أن نتجاوزهم. 

Red clouds
كان يتطلع إلى إمارة الشعر 

أقول هذا بمناسبة صدور هذين الكتابين عن الرافعي وفيهما ألاحظ كيف كان يحكم على شعراء عصره، وكيف كان يرى نفسه، وكيف كان يزكي نفسه بين كتاب عصره وشعرائه؟ فمن ذلك ما نشره في مجلة "الثريا" لصاحبها إدوارد جدي عام 1905 في مقال لم يذكر عليه اسمه، وإنما اكتفى بأن يرمز إلى نفسه بنجمة، فقسم الكاتب شعراء عصره إلى طبقات ثلاث، وجعل في الأولى أربعة شعراء هم: الشاعر العراقي عبدالمحسن الكاظمي، ومحمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، ثم وضع نفسه رابعًا، وضمت الطبقتان الأخريان أسماء لامعة كإسماعيل صبري، وأحمد شوقي، وخليل مطران، ومحمد توفيق البكري، وشكيب أرسلان، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد الكاشف، وأحمد محرم.
وتقسيم الطبقة إلى أربعة شعراء يذكرنا بتقسيم ابن سلَّام في كتابه الرائد "طبقات الشعراء" الذي وضع في كل طبقة أربعة شعراء في عشر طبقات من الجاهليين وعشر طبقات من الإسلاميين، وكان الرافعي هو صاحب المقال، وذلك فهو لا يزكي نفسه بين علية الشعراء بل إنه، وربما يكون ذلك بدافع الغيرة المهنية أو الإنسانية، يضع أمير الشعراء أحمد شوقي في طبقة أدنى منه وهو الشاعر الذي لا يزال شعره يتردد في ميادين التعبير الاجتماعية والعاطفية والدينية والسياسية، بل والمسرحية، وما كتبه للأطفال، إلى يومنا هذا وغدنا أيضًا. 
وعلى كل حال كان الرافعي يتطلع إلى إمارة الشعر ولكنه لم يصل إلى تحقيق حلمه الأدبي، والغريب في الأمر أن الرافعي كان من أوائل المجددين في كتبه الإبداعية النثرية التي منها "السحاب الأحمر"، ولهذا الكتاب وغيره وقفة أخرى، ويقول رجاء النقاش: "ولست أشك في أن وقفة الرافعي ضد قيود الشعر التقليدية كانت أخطر وأول وقفة عرفها الأدب العربي في تاريخه الطويل، وأهمية هذه الوقفة أنها كانت حوالي سنة 1910، أي قبل ظهور معظم الدعوات الأدبية الأخرى التي دعت إلى تحرير الشعر العربي تحريرًا جزئيًا أو كليًا من القافية والوزن".
فهل كان تعدد مجالات الكتابة والتعبير عند الرافعي ذات أثر سلبي على عمق إبداعه لو أنه كان اختار لنفسه مجالًا واحدًا وانصرف إليه بكل طاقته؟ 
هذا مجرد سؤال لا نعرف كيف نجيب عنه، خاصة وأن من كتاب عصره من استغرقه أكثر من مجال من مجالات الحضارة الإنسانية كطه حسين والعقاد، ومع ذلك كان لهما إلى جانب التنوع في الرؤية، العمق في التفكير والتأثير في القراء.