الساقية تروى ذكرياتها

الساقية المرتبطة بالتاريخ والماضي والريف الجميل والمرورث الشعبي وعالم الادب والسينما والدراما التلفزيونية والفن التشكيلي اصبحت في طريقها للاندثار بسبب ظهور الطرق الحديثة للري.

الماء ذلك الساحر الكوني الذى يهب الحياة لكل شيء قامت عليه حضارات واشتعلت بسببه حروب واقام على منابعه وحول مجراه بلايين البشر.
وقد قامت الحضارة المصرية القديمة على ضفاف نهر النيل واستخدم المزارعون مياة النهر في الزراعة وري الاراضي الزراعية . 
وفي بداية عصر الدولة الحديثة ظهرت آلة االشادوف وهي آلة لرفع المياة من المناطق المنخفضة الى المناطق المرتفعة وقد استخدمها المصري القديم في ري الحدائق والاراضي المرتفعة وقد كانت طريقة شاقة وتستغرق وقتا طويلا. 
ثم توالت السنون وتراكمت الخبرات وظهرت وسيلة لرفع المياة اعتبرت ثورة في مجال الري والزراعة وحدث نتيجة ظهورها تحولا جذريا في حياة المزارعين في كافة ارجاء المعمورة. 
انها الساقية يا سادة 
تلك الآلة التي ساهمت في اعادة تشكيل الحياة الزراعية واعادة صياغة البيئة المزروعة لتصبح بذلك مساحة الرقعة الزراعية اضعاف ما كانت عليه من قبل . 
ولم يستطع المؤرخون معرفة بداية استخدام الساقية في ري الارض الزراعية تحديدا في ربما تم ذلك في العصر اليوناني او في بداية العصر البطلمي الا ان الثابت لدينا تلك اللوحة الموجودة في متحف الاسكندرية والتي تصور ثورين ضخمين يجران ساقية من خلال دفع عمود حركة مرتبط بالعجلة الرئيسية ليعمل على دورانها وقد علق على جوانبها شواديف مربوطة بحبال لغرف المياة من بئر اسفل الساقية واعادة سكب تلك المياة من اعلى اثناء حركة الدوران لتسير المياة في مجرى صغير يروى الاراضي التي تحيط بالساقية . 
وقد جاءت فكرة الساقية وعمود الحركة المسبب لدورانها من فكرة العجلات الخشبية الموجودة في العربات التي تجرها الخيل والتي كانت تستخدم كوسيلة لنقل الافراد او البضائع واستخدمت الساقية في بادىء الامر للحصول على الطاقة الميكانيكية اللازمة لطحن الحبوب ولكن ما لبثت ان تطورت حتى اصبحت الساقية الزراعية التي نراها الان . 
وقد اسرت الساقية قلوب الرحالة الذين اتوا الى مصر وقد ذكروا هذا في كتبهم التي تضمنت وصف مصر مثل ساقية الناصر بن قلاوون والتي تم بناؤها لتمد منطقة القلعة بالمياة، كما كانت ساقية بئر يوسف من اشهر السواقي ايضا الموجودة بمصر وقد بناها صلاح الدين الايوبي لرفع المياة من البئر الذي كان بمثابة شريان الحياة للعسكريين وقيادات الجيش المتواجدة بالقلعة.  
وقد ارتبط ظهور الساقية بحرفة صناعة السواقي وتركيبها وهي مهنة شاقة تتطلب عدد كبير من العمالة المدربة حيث يتم تشكيل الاجزاء الخاصة بميكانيكية الحركة في ورش الخراطة ثم تجهز القطع الخشبية المصنوعة من الخشب الابيض ويتم نقل كافة اجزاء الساقية ويتم تركيبها في المكان المخصص لها وتحتاج الى قدر كبير من الدقة والتركيز حيث يبلغ طولها احيانا اربعين قدم او اكثر وتزن حوالي خمسة اطنان.
 ويصل قطرها احيانا الى ثمانية امتار وتدور داخل بئر عميق وتوجد بها فتحات تشبه الغرف تدخل فيها المياة اثناء غمرها في البئر وعندما تدور الساقية تصب هذه المياة في مجرى موصل بقنوات صغيرة تروى من خلالها الارض الزراعية المحيطة بالساقية .
وتصل تكلفة صناعة الساقية الواحدة الى ثلاثون الف جنيها طبقا لمقاسها ومدى ارتفاع المنحدر وقوة دفع المياة ومساحة الارض التي ترويها حيث تستطيع الساقية الواحدة ان تروي مساحات كبيرة من الاراضي الزراعية قد تصل الى مائة فدان لذا فقد يتشارك عدد من المزراعون الذين تتجاور اراضيهم في تكاليف صناعة ساقية مشتركة .
ويتعين على مالكي السواقي الاهتمام بصيانتها دوريا للحفاظ عليها لاطول فترة ممكنة ويتم ذلك خلال فترة السدة الشتوية التي يكون فيها منسوب المياة ضحلة مما يتعذر معه عمل الساقية .  
وتعد الساقية احد ظواهر التعاون الجماعي بين الفلاحين حيث وضعت عرفا شعبيا اسس لنظام الري بالساقية طبقا لاحقيات واسبقيات فكان الدور يأتي اولا لجار الساقية فالذي يليه ثم التالي له و كان الفلاحون يستخدمون الماشية حسب ادوارهم في الرى وكانوا يتشاركون في الادوار لاراحة الماشية ويغطون اعين الماشية بعصابة حتى لا تشعر بالدوار لكثرة عدد اللفات وطول مدة الرى .
وتنتشر الساقية في الكثير من قرى الريف المصري وتعد محافظة الفيوم من اشهر المحافظات التى توجد بها سواقى عريقة وهى جزء من نسيج تلك المحافظة وتعتبر مزارا سياحيا وشعارا لها حتى انها سميت "ببلد السواقى" حيث ان ارضها تنخفض على هيئة مدرجات مما يؤدى لتحريك الساقية بقوة دفع المياة دون الحاجة الى استخدام الماشية . 
وعلى الرغم من الدور التاريخي الذي قامت به الساقية طوال قرون عديدة الا انها اصبحت في طريقها للاندثار بسبب ظهور الطرق الحديثة للري مثل مواتير المياة التي تعمل بالكيروسين وتعد تكلفتها منخفضة مقارنة بسعر الساقية الواحدة كما توفر تلك المواتير وقت وجهد الفلاح بالاضافة لكونها تعمل وقت السدة الشتوية بخلاف الساقية .
وللساقية مكانا خاصا في قلوبنا جميعا فقد ارتبطت بريفنا الاصيل وصوت انين الناي ولحظات الحب الجميلة بعيدا عن العيون ومجلسلا ظليلا تحت اشجارها الوارفة ومكانا امنا للعبادة والصلاة لقربها من مصدر الماء كما ارتبط بئرها ايضا بالخرافة والجنيات في المخيلة الشعبية . 
ويوجد مكان بمحافظة الشرقية يقع بين بلدة العزيزية و بلدة الشقر يسمى "بئر ستنا خضرة" يوجد به بئر ماء تحيطه مساحات خضراء من كل جانب تروي الاسطورة الشعبية ان ذلك المكان كان بئر ساقية وفي يوم من الايام سمعت احد النساء من ينادي عليها ويطلب منها الذهاب الى تلك الساقية وعندما ذهبت انزلقت قدمها ووقعت في بئر الساقية وتوفت.
 وفى الصباح عندما دارت الساقية خرجت المياة من البئر مخلوطة بالدماء وبعد ايام حلم مالك الارض بتلك السيدة تخبره انها وقعت في البئر واوصته ان يبنى لها مقام في ذلك المكان تخليدا لذكراها وبالفعل نفذ الشخص المذكور وصيتها وظل ذلك المكان بئر ماء يقصده ابناء القرى المجاورة للاستحمام والتبرك بماءه. 
وتعد الساقية رمزا تراثيا متميزا حيث تم نقل احد السواقي الخشبية التي كان يرغب مالكها في الاستغناء عنها لتمثل مصر كعنصر ثقافي فى متحف حضارات اوروبا و البحر المتوسط بمرسيليا واعد عنها فيلما تسجيلا لعرضه بجانبها كما نشر عنها بحثا بمجلة اللوفر الفرنسية . 
وظهرت الساقية في العديد من الافلام التي تعد علامة في تاريخ السينما المصرية مثل فيلم العزيمة وفيلم صراع في الوادي وفيلم الارض . 
وكتب فيها الشعراء ابيات وقصائد منهم صلاح جاهين وصالح جودت وعبدالفتاح مصطفى وغنى لها فنان الشعب المبدع سيد درويش 
طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة 
يلا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة
قاعد ع الساقية خللي اسمر وحليوة
عوج الطاقية وقالي غنى لي غنوة 
كما غنت لها السيدة العظيمة كوكب الشرق ام كلثوم في اغنية طوف وشوف  وغنت لها المطربة الجميلة شادية والمطرب الشعبي محمد قنديل، و كان للدراما التلفزيونية ايضا نصيب حيث كانت احد اشهر مسلسلات الستينات مسلسل "الساقية" للاديب عبدالمنعم الصاوى . 
واستلهم منها العديد من الفنانين التشكيلين المصريين لوحاتهم امثال راغب عياد ويوسف كامل  
واستخدمها الكثير من الادباء على مر العصور كرمز لدوران الحياة مع وجود بعض الافكار العقيمة داخل مجتمعاتنا دون محاولة التفكير فيها او تعديلها وتغييرها  . 
كما ارتبطت الساقية بالعديد من الامثال الشعبية المعروفة مثل "زى الثور فى الساقية" كناية عن العمل الشاق المستمر . 
تلك حكاية الساقية كما روتها لها اصوات عجلاتها وهي تدور لتروي ارض ريفنا الجميل دون كلل او ملل ضاربة بجذورها في عمق التاريخ محملة بعبق زهور الماضي واشجار موروثاتنا الشعبية الوارفة الممتدة بطول النهر وعلى رافديه كاحد مفردات حضارة ام الدنيا مصر بلادي لكي حبي و فؤادي.