السودان في الطريق إلى جهنم

البرهان لم يشبع من الجلوس على كرسي البشير، والأحزاب السودانية المختلفة لم تشبع من الشقاق.
استقالة حمدوك قدمت ما يكفي من الإشارات إلى أن لغة الحوار قد انهارت
ما يحمله البرهان وأقرانه من رتب هي في الواقع ثمرة حروب خاضها الجيش ضد السودانيين

منذ انقلاب عبدالفتاح البرهان في أكتوبر الماضي، لم تتوقف التظاهرات التي تطالب بإزاحة العسكر عن السلطة. والعسكر الذين باتوا يحكمون بوكلاء الوزارات لا ينوون الانسحاب. وكلا الطرفين لا يعرف كيف يفرض على الطرف الآخر خياراته.

وبينما تقف بعثة الأمم المتحدة في الوسط، فهي نفسها لا تعرف ما هو الحل. وقالت إنها سوف تدعو السودانيين أنفسهم لكي يقرروا كيف يكون هذا الحل. وكأن المدعوين الى الحوار، ولو مع أنفسهم، يعرفون ما هو الحل، أو يمكنهم أن يتفقوا عليه.

كانت البلاد بحاجة الى حلول وسط. فلم تجدها. وكان لديها رجل يمكنه تجسيد تلك الحلول. فرحل. وبقي الصقور هم الذين يحومون في سماء السودان.

استقالة عبدالله حمدوك، مطلع الشهر الجاري، قدمت ما يكفي من الإشارات إلى أن لغة الحوار قد انهارت، وأن المطالب القصوى لم تبق لطرفي النزاع إلا الصدام.

قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لم يشبع من الجلوس على كرسي عمر حسن البشير. والأحزاب السودانية المختلفة لم تشبع من الشقاق. والبلاد تمضي بعينين مفتوحين في الطريق الى جهنم.

لا يهم ما يقوله هذا عن ذاك. كما لا تهم الذرائع والتبريرات. فالأساس هو أن الجيش يريد أن يواصل قيادة البلاد، رغما عن أنف الحراك المدني. وهذا الحراك يريد أن يضع حدا لدور مؤسسة عسكرية يعرف أنها لم تجلب للبلاد إلا البلاء على امتداد 66 عاما.

ما يحمله البرهان وأقرانه من رتب، هي في الواقع ثمرة حروب خاضها الجيش ضد السودانيين. وعندما تسمع أن هذا "فريق أول" وذاك "ركن"، فاعلم أن له برقبته، وعلى أكتافه، عشرات الآلاف من جثث مواطنيه. تلك هي الرتبة العسكرية في السودان.

ولكن قادة الأحزاب، ليسوا أقل طغيانا. نزاعاتهم وفشلهم في تقديم التنازلات لأحدهم الآخر، كانت هي التي سمحت لجيش من القتلة المحترفين، بأن يمارس دور "الإنقاذ"، كلما شاء لهم الهوى.

تاريخ السياسة، بين مختلف الحركات والأحزاب في السودان هو تاريخ تنازع، لا توافقات. والحكومات المدنية القليلة لم تسقطها الانقلابات فقط، ولكن أسقطها التنافس على النفوذ بين الأحزاب، بينما لم تتمكن، داخل السلطة وخارجها، من إرساء أسس لنظام سياسي مستقر يحترم قواعد اللعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. ولطالما كانت الغلبة الانتخابية سببا للاستئثار على حساب الآخرين.

القبلية السياسية السائدة في البلاد ما كان بوسعها أن ترسي دعائم نظام ديمقراطي. ولا حتى لغة حوار، أو تسويات. والكل بيّاع كلام. والكل هو أبو الديمقراطية. بما في ذلك البرهان نفسه، رغم أنه "فريق أول" و"ركن" في كل ما هو عكس ذلك.

لقد أثبتت الأيام، أن حمدوك كثير على هذه البيئة. رجل تكنوقراط، لا حزب له، وبلا رتبة. فمن أين كان يمكن له أن يحظى بمن يصغي له؟

لقد طرح حمدوك عدة مبادرات من أجل تحقيق التوافق بين الأطراف السياسية المختلفة. إلا أنها ذهبت هباء الواحدة تلو الأخرى.

أراد إرساء أسس لبعض ما يمكن من خطوات. ولم يكسب إلا العناد من فرقاء التنافس السياسي الذين قال كل واحد منهم إنه هو أبو التغيير وأمه. وما كان من المناسب أن يصغوا لأحد، ولا هم ترجلوا عن بغلة المطالب القصوى.

لا تمكن الثقة بجيش هذا البلد. ولكن هل تمكن الثقة بسياسييه؟

الكل يعرف أن السودان هو الضحية. والكل يعرف أن الصدام سوف يأخذ البلاد إلى الهاوية. ولكن ما من أحد راغب بالاستدراك.

هدد حمدوك بالاستقالة، وتراجع عنها تحت بعض الضغط، ثم لم يجد سبيلا إلا لتقديمها من جديد. فالمسار، الذي قاد بعض أهل الحراك إلى تخوينه هو أيضا، كان لا بد وأن ينتهي إلى استقالة لا توقفها الضغوط.

ماذا يملك طرفا النزاع الآن غير أن يقودوا البلاد الى مجزرة؟ ماذا يملكون أكثر من أن يكرسوا الفشل السياسي والانهيار الاقتصادي والتفكك الأمني؟

جنرالات السودان، حتى وإن رأوا عاقبة الجرائم التي ارتكبها أسلافهم، فإنهم ليسوا ممن يقبل التراجع إلى الثكنات. هذا ليس على جدول أعمال الجيش السوداني منذ استقلال البلاد. وهم مستعدون لإشعال نيران سلسلة لا تنتهي من الحروب الأهلية لكي يوفروا لسلطتهم مبررا. هذا جزء من تدريباتهم أصلا.

البرهان حرك قبائل الشرق قبل انقلابه، لكي يثبت قدراته في هذا الاتجاه. وعندما أسقط الوثيقة الدستورية، فقد كان يعرف تماما ماذا يعني ذلك على مستوى عودة النزاعات مع بعض الجماعات المسلحة. الرجل خبير حروب أهلية. ويتعين على كل من يرغب في تحويل بلاده إلى مستنقع قتل عشوائي وأعمال تهجير واغتصاب، أن ينتسب إلى كلية الأركان التي تخرج منها.

التظاهرات يمكن أن تؤدي إلى سقوط سلطة البرهان. ولكننا إزاء قوى سياسية ليس بينها حوار، وليست على مقدرة لاجتراح حلول وسط، ولا حتى توافقات حول سبل بناء مرحلة انتقالية تمضي بسلام إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة. ومن بعد ذلك، فإن أي حكومة منتخبة لن تفعل إلا ما فعلته سابقاتها المنتخبات أيضا.

الفشل، هو أن البلاد ما تزال تقف على أرض رخوة في قيم القانون واحترام المؤسسات والخبرات المدنية. والتجريبية والعشوائية والحلول المؤقتة ظلت على الدوام هي المقابل الموضوعي للقبلية السياسية.

كثير على هذه البيئة أن يتقدم إليها تكنوقراط مثل حمدوك. وكان من الطبيعي أن يفشل. وهو ظل يحارب على جبهتين، لا يملك حيالهما إلا البحث عن مواثيق مشتركة والتزامات تحمي التغيير، وتدفع نحو معالجة مشكلات البلاد الاقتصادية.

لقد وضع ثقته بالجميع، وأخذهم بحسن النية. فغدر به وغدرها الجميع.

لا أعرف كم حمدوك يملك السودان. ولكن الجميع يعرف أن الإجماع عليه، كان ذا معنى يتعلق بموقفه الوطني النبيل، والمتجرد، وغير الساعي إلى الفوز بامتيازات.

الثقة الدولية به، هي التي فتحت الطريق أمام السعي لإلغاء نحو 90% من ديون البلاد التي بلغت نحو 60 مليار دولار. هذه هي قيمة مكانته. فكم "نكلة" يساوي البرهان؟ وكم يساوي مناطحوه في الحراك؟

الآن، ونحن في هذا الواقع، فهل تعرف أين تكمن المشكلة؟

إنها تكمن في حقيقة أنه حتى ولو توفر حمدوك آخر، فان الوسطية والاعتدال والتجرد، ليس لها مكان بين قادة جيش احترفوا الجريمة، وسياسيين احترفوا الفشل. وهؤلاء، بدلا من أن يقودوا الجماهير إلى مستقر للبلاد، فقد تركوا الجماهير "الغاضبة" هي التي تقودهم والبلاد إلى المنحدر.

التغيير الذي صار له أكثر من أم وأب، ما كان لينجو من دون تسويات، تستند إلى معايير أخلاقية ودستورية. ولكن من أين كان يمكن أن تأتي تلك المعايير في بلد لا يتنازل فيه أحد لأحد؟

لقد اختار حمدوك أن يتنازل عن منصبه، ليس ليقول لطرفي النزاع "هذه بضاعتكم رُدت إليكم"، ولكن لكي يرى ذوو الرؤوس الحامية الى أين هم سيأخذون البلاد.

أبواب جهنم مفتوحة للترحيب بالجميع الآن. ولن يمضي وقت طويل حتى تعترف بعثة الأمم المتحدة، أنها هي الأخرى لا تعرف ما السبيل لإنقاذ البلاد من نفسها.