الشارقة .. صحوة الثمانينيات 

حكومة الشارقة لم تنتظر دعماً من أحد، وجاءها الدعم المعنوي الذي لم تطلبه من مؤسسات دولية كبرى كاليونسكو وجامعات دولية ذات شأن.
ينبغى أن نتعلم كيف نلتف حول أي تجربة عربية ناجحة وندفعها لمزيد من النجاح
الشارقة كانت على موعد مع مستقبل جديد حين قرر حاكمها الشيخ سلطان القاسمي تدشين مرحلة مختلفة عما مضى

أعتبر نفسي واحداً من أنصار التجربة الثقافية الشارقية والداعين إليها، لأنها وقفت منفردة بين الأنظار المشدوهة والوجوه المستنكرة، وحقَّقت وحدها ما لم تستطع دولاً كبرى تحقيقه، وفي زمن قياسي. 
ولأنها لم تنتظر دعماً من أحد، وجاءها الدعم المعنوي الذي لم تطلبه من مؤسسات دولية كبرى كاليونسكو وجامعات دولية ذات شأن. ورغم ذلك ما زال بين العرب مَن ينظر بعنجهية مستنكراً ويقول معترضاً: ولماذا الشارقة؟ ما الذي جعل اليونسكو يختارها لتتقدم الصفوف وتصبح عاصمة الثقافة العربية؟ والسؤال الذي كان ينبغى أن يسأله: كيف نساعدها أن تستمر وترتقي حتى تغدو عاصمة للثقافة في العالم وأن تحافظ على هذه الريادة؟ 
ينبغى أن نتعلم كيف نلتف حول أي تجربة عربية ناجحة وندفعها لمزيد من النجاح. لو فعلنا هذا ربما يأتي اليوم الذي يتحقق الحلم الوحدوي العربي الذي تتكامل فيه الرؤى ويتحد فيه الهدف لدى سائر الدول العربية التي تمر اليوم بأكبر محنة في تاريخها المعاصر. ولا سبيل لها للمرور من تلك المحنة إلا بالتكاتف والسعي نحو هدف مشترك.
رؤية الشارقة كما هو واضح للكافة هي رؤية ثقافية تعليمية، تتخذ من المعرفة ركيزة ومنطلقاً نحو مستقبل أفضل. وهي تتفق في هذه الرؤية مع أرقى الرؤى العالمية للتقدم، وهي ذات الرؤية الإسلامية في أمة كان أول أمرٍ إلهي لها: "اقرأ" .
في أواخر السبعينيات من القرن الماضي كانت الشارقة على موعد مع مستقبل جديد حين قرر حاكمها الشيخ سلطان القاسمي تدشين مرحلة مختلفة عما مضى، بما أعلنه بوضوح في خطاب صريح قائلاً: "آن الأوان لوقف ثورة الكونكريت في الدولة لتحل محلها ثورة الثقافة"، بما يعني تغليب بناء الإنسان على بناء الحجر. فبدأ الخطوة الأولى بإنشاء دائرة الثقافة عام 1981، ما يشبه وزارة الثقافة أو مديرية الثقافة لدينا في مصر، وكان أول معرض للكتاب في الشارقة عام 1982، ثم تسارعت الوتيرة ، فأُنشئت المسارح والمكتبات والمنتديات والمراكز الثقافية في مختلف الأنحاء. ودُعي النشء والشباب، ممن سيصبحون نواة الركب الثقافي القادم، لتحويل حلم الثقافة الوليد إلى حقيقة ماثلة. 

كان الاهتمام في البدء بالمسرح على الأخص بادياً جليّاً باعتباره الفن الأهم بين فنون الدراما، ولأن له مزايا تجعله يتفوق على السينما والتليفزيون فنيا وإنسانياً، لعل أهم تلك المزايا الاحتكاك المباشر بالجمهور. ولكون الدكتور سلطان القاسمي ذاته رائداً للكتابة المسرحية فى الإمارات.
لم يكن هذا حال الشارقة في السابق. فرغم كونها منطقة ذات امتداد تاريخي ضارب في القدم والعراقة، غير أن البُعد الثقافي أضيف إليها ليتكامل مع بُعدها التجاري والاقتصادي القديم.
الشارقة وغيرها من الإمارات اعتمدت لفترة طويلة على النشاط البحري وتجارة اللؤلؤ التي لا تزال تمثل مصدراً مهماً من مصادر الدخل التجاري والسياحي، صحيح أن البترول هو المصدر الأول والأهم الآن، خاصة بعد أن استأثرت اليابان بتجارة اللؤلؤ باستزراعه على نطاق أوسع. لكن أهل الشارقة أكثرهم تجّار ورجال أعمال من الطراز الأول، وهم بَحَّارة وفرسان يُقدِّرون قيمة الكفاح وضرورة التواصل مع الآخر والانفتاح على غيرهم من البلدان والثقافات والمعارف الإنسانية.  
كانت نظرة الشيخ سلطان القاسمي الثاقبة تتجه نحو الضِلع الرابع من أضلاع التقدم والرقي، وهو الضلع المعرفي. المعرفة بشموليتها ونفاذيتها وقدرتها على إذابة الحدود واختراق خطوط الخرائط الجغرافية، بما يؤهل الشارقة لمزيد من الانفتاح على العالم.
ما حدث كرَدّ فعل عربي تجاه الصحوة الثقافية الشارقية كان مؤسفاً. كان المفترض أن ننحني احتراماً لتلك التجربة العربية الرائدة وندعو لها بالسداد، ونؤازرها قدر الاستطاعة. فلربما أمكن فيما بعد استنساخها والاستفادة منها لتكون نواة تقدم ثقافي يجتاح المنطقة العربية بأسرها. ما المانع؟ 
لكن الذي حدث هو العكس تماماً. كان التجاهل هو سيد الموقف. لم نرَ احتفاءً كبيراً من الدول العربية بأن اليونسكو اختار الشارقة لتكون عاصمة الثقافة العربية منذ عام 1998 وكان ينبغى أن يفعلوا. تجاهُلهم بدا مؤشراً سيئاً على أننا كعرب لا يؤازر بعضنا بعضاً. دعك من التصريحات الرسمية والمجاملات الباهتة في الصحف ووسائل الإعلام. فالبعض كان يرى أن العواصم الأسبق والأعرق في المجال الثقافي كالكويت والرياض والقاهرة لها الأولوية، وهي مسألة جدلية لن أتوقف أمامها كثيراً. إنما أتحدث عن الاصطفاف العربي والمؤازرة والتوحُّد، وهو ما يقتضي أن نشجع تجربة الشارقة لا أن نناهضها أو نصمت عنها. 
وكما كان التجاهل هو سلاح العرب لتقويض التجربة الشارقية، كان التجاهل هو سلاح الشارقة للاستمرار في تطوير رؤاها وأدواتها دون الالتفات إلى المردود العاجل، كأن هدف الشارقة يتعدّى النظرة القريبة القاصرة إلى نظرة مستقبلية أبعد غوراً وأعمق تأثيراً وأطول عمراً، بحيث يبقى أثرها ممتداً لعدة أجيال تالية.
إن المستهدَف من النهضة الثقافية الإماراتية عموما كان الانفتاح على الآخرين وتحقيق التنوع الثقافي، وهو ما أعربوا عنه في أكثر من مناسبة. ما يعني أن الدول العربية كانت وما زالت مدعوة للتشارك والتعاون والاستفادة من تلك التجربة الثقافية الرائدة.
 فالثقافة في المفهوم الإنسانى المعاصر أصبح لها أدوار أخرى بخلاف الدور المعرفي. هناك دور سياسي وسياحي واقتصادي واجتماعي، والثقافة اليوم تقاس بحجم الإنتاج والأسواق والمبيعات والرواج التجاري، بما يعني أنها صارت صناعة حقيقية وسلعة تجارية تسرى عليها قوانين التجارة والاقتصاد.
المتابع للشأن الإماراتي اليوم قد يلاحظ كيف أن التوسع الأفقي قد اكتمل وتضخم بشكل كبير، بحيث صار المنتَج الثقافي المعروض أكبر كثيراً من المطلوب. هناك تخمة إنتاجية في مجال الثقافة دون وجود طاقة شرائية واستهلاكية تستوعب كل ما يُعرَض من إنتاج.
هذا يدفعنا للقول بضرورة أن تلتفت الدول العربية لإمكانية فتح أسواق ثقافية استهلاكية جديدة تستوعب المنتَج الثقافي على مختلف مستوياته وأنواعه ومصادره.
 العالَم اليوم يتحدث بإسهاب عن المدن الإبداعية وعن صناعة الثقافة وعن غزو الأسواق الخارجية بالمنتَج الثقافي الذي لم يعد أحد ينظر إليه باعتباره منتجاً خدَمياً، وإنما هو منتَج تجاري قابل للتسويق والتصدير والبيع وتحقيق الرواج خارج الحدود.