الصحافة العربية غير مدعوة لحفلة الحرية


الصحف العربية لديها تاريخ طويل من الإخفاق بعلاقتها مع القراء، وتاريخ من الخضوع للحكومات.
المسؤول الإعلامي في الحكومات العربية صحافي بعين واحدة

كي لا نبيع التفاؤل بالمجان بشأن واقع الصحافة العربية، دعونا نجرب “اللعبة” الصحافية التي مهرتها صحيفة الغارديان بشأن كيف ينظر العالم إلى بريطانيا ونعكسها على طبيعة الصحافة في العراق مثلا… أو مصر أو السعودية، فهل سيبقى للتفاؤل ما يبرره أم تكون الإجابة خيبة كبيرة بشكل صادم!

لقد أطلقت صحيفة الغارديان على نخبة من الصحافيين والكتاب من ألمانيا والبرازيل والصين وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا والنرويج، سؤالا مفتوحا بعد ثلاث سنوات من الاستفتاء على بريكست، حيث تقف بريطانيا اليوم على شفا الخروج من الاتحاد الأوروبي، لترى كيف ينظر العالم إلى المملكة المتحدة، هل ما زالت نظرة الفرنسيين قائمة إلى الحياة البرلمانية البريطانية باعتبارها “رولز رويس” الديمقراطية الليبرالية؟ بيد أن الغارديان جمعت كل ما كتب في نظرة الآخر إلى بريطانيا تحت جملة “شيء من الجحيم”!

لو أعدنا نفس السؤال على صحافيين وكتاب من مختلف دول العالم بشأن نظرتهم إلى واقعنا العربي، ألا ترون معي أننا سنفشل في إيجاد معادل تعبيري في نظرة الآخر لواقعنا السياسي والإعلامي، لأنه ببساطة لا يوجد أسوأ من الجحيم الذي اختارته الغارديان كتعريف لحال سياسي متصاعد في بريطانيا.

قبل كل ذلك هل بمقدور وسائل الإعلام العربية المغامرة في مثل هذه التجربة؟ لن أجهد نفسي كثيرا وأنا أعول على صحفنا وهي تعيد إطلاق نفس السؤال على كتاب من مختلف دول العالم، كيف ينظرون إلينا، على الأقل لنعرف مقدار نجاحنا في تعريف أنفسنا للآخر.

أدرك مثلما تدركون أن وكالات الأنباء الرسمية تلتقط أي إشارة ثناء لا أهمية لها تصدر في الخارج بشأن زعيمها أو اقتصاد بلدها لتعيد نشرها، لكنها لا تجرؤ على التعامل مع أي وجهة نظر نقدية مخلصة لنظامها السياسي أو الاقتصادي.

لقد واجهت صحيفة واشنطن بوست في مثل هذا الوقت من العام الماضي دعوات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشيطنة الصحافة عندما أعادت نشر الفكرة التاريخية بأن الصحافة ليست عدوا لأحد ونشرت مقالا افتتاحيا تضامنت معه عشرات الصحف من شتى بقاع العالم وكتبت معبرة عن رأيها في يوم سمي “لسنا أعداء أحد”، لكن ويا للخيبة لا توجد في هذه القائمة الطويلة أي صحيفة عربية!

فلنبسط الأمر أكثر ونحن نتحدث عن الواقع الإعلامي العربي، فعندما نفشل في تقييم هذا الواقع، فإنه بالضرورة ستكون رؤية الآخر إلينا أسوأ من الجحيم الذي رأته الغارديان لواقع بريطانيا السياسي الحالي.

المسؤول الإعلامي في الحكومات العربية صحافي “بعين واحدة” لا ترى غير إنجازات حكومة بلده خبرا! مع أنه يفهم الفكرة التاريخية للخبر لكنه لا يرى غير ما يريد رؤيته، حدث معي ذلك أثناء مشاركتي مع عدد من الصحافيين من مختلف دول العالم لتغطية نشاط سياسي في بلد عربي، وعندما التقط المسؤول الإعلامي في ذلك البلد سؤالي لوزير بشأن واقع المعارضة للحكومة، اختارني لأكون ضيف التلفزيون الرسمي مساء اليوم نفسه، للتحدث عن إنجازات بلده، وبينما رحب زملاء مصريون بالدعوة بنوع من الابتهاج مبدين استعدادهم للحديث عن الإنجازات العظيمة! حاولت التوضيح له بأنني صحافي مثله أبحث عن الآراء ولا أطلقها، فلا أهمية لاستضافتي في هذا البرنامج، شعر بالاستياء وأصدر أوامره قائلا بل ستظهر وتتكلم مساء اليوم عن إنجازاتنا!

بطبيعة الحال لم يستطع فرض ذلك عليّ ولم أظهر في البرنامج كما أراد، واكتفى بالأصوات المكررة الأخرى، لكن الأهم من ذلك أن هذا المسؤول الإعلامي لم يغير تعريفه لإنجازات وإخفاقات بلده، وهو نسخة موجودة ومكررة في كل بلداننا العربية.

عندما يقرأ أكثر من مليون مواطن عربي جملة من العبث والتهريج الفارغ يكتبها أحدهم في منصته على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما لا تحظى أي مقالة وتقرير في أشهر صحفنا العربية، بنسبة ولو ضئيلة مما حظيت به “التغريدة السطحية”، فهذا يعني أن الصحافة العربية فشلت في صناعة رأي الجمهور، عندما فضل السطحي في مواقع التواصل على المعرفي في متنها.

هناك مذبحة إعلامية مستمرة في الصحافة العربية منذ عقود، وتحولت مع سطوة القنوات الفضائية إلى حرب عبثية، آخر ما تعول عليه وعي الجمهور. بينما ما زال نموذج صحيفة الدولة والحزب والإمارة والمملكة والتلفزيون الرسمي مصدرا تعول عليه الحكومات بخطاب مكرر… أليس ذلك عصيا على الفهم بوجود الفضاء المفتوح والثورة الرقمية التي اجتاحت العالم؟

لقد صنعنا صوتنا الطائفي والقومي عندما انتقل رجل الدين من المسجد إلى التلفزيون في إعلام جديد لنعبر فيه عن كراهيتنا للآخر. وهذا أحدث تطور في الإعلام العربي، لكننا فشلنا إلى الآن في إعادة تعريف مجتمعاتنا وسياسيينا بطريقة مقنعة سواء لجمهورنا العربي أو للآخر. هذا يعني أن وسائل إعلامنا العربية ما زالت غائبة عن العالم الحقيقي عندما يتعلق الأمر بالنظرة إلى كيف تدار الشؤون السياسية.

الصحف العربية لديها تاريخ طويل من الإخفاق بعلاقتها مع القراء، وتاريخ من الخضوع للحكومات، علينا أن نخمن نسخة مقابلة من هذا التاريخ عندما يتعلق الأمر بالقنوات الفضائية العربية وهي تتبوأ منصة التهريج السياسي. حيال مسحة التشاؤم تلك علينا الاعتراف بأن كل ذلك لا يخفي صعوبة استقلالية الصحافة العربية وهي تعيش زمنا سياسيا واقتصاديا ليس عادلا بحقها.

الأصعب من كل ذلك أن وسائل الإعلام العربية لا تقدر اللعبة عالية المخاطر في خضوعها للحكومات ورؤوس الأموال ورجال الدين، ليزداد البون الشاسع مع الجمهور، كما أن نوبات السقوط تترك ندوبا لن تغفلها ذاكرة التاريخ. لذلك فالصحف العربية غير مدعوة إلى حفلة الحرية الحقيقية التي يشهدها العالم اليوم، مع أن كل ما في هذا الحفل يمتلك مواصفات جذابة، لكن العين الواحدة للمسؤول السياسي والإعلامي العربي لا ترى غير ما تريد رؤيته.