الصراعات داخل النظام الجزائري هل هي حقيقية أم هي سقط متاع؟

لا أحد بإمكانه دحض ومعاكسة الوقائع أو الحقائق المثبتة في جل الدراسات النزيهة المحكمة المستقلة عن تلاعب واحتواء واستخدام قوى أجنبية للاجئين والهاربين والمعارضين على أراضيها.

بددت صور جمعت كبار مسؤولي الدولة الجزائرية مدنيين وعسكريين والتي نشرت على صفحات الوسائط الاجتماعية للمديرية العامة للأمن الوطني بمناسبة مرور 61 سنة على تأسيس الجهاز، ما يشاع ويتسرب من خلال نشطاء أغلبهم متواجدون خارج البلاد ومحكوم عليهم في قضايا كثيرة أبرزها تكوين شبكات لولبية معقدة تبتز رجال أعمال ومسؤولين في الدولة وفي مواقع أخرى.. قلت بددت في الهواء القصص المحتدمة عن ما يقال أنها صراعات وتناحرات وتقاتل بين أجنحة النظام والعصب.

لربما كانت هذه اللقطات النادرة والفاصلة في ريبرتوار النظام الجزائري والذي عادة ما يلجأ إلى طريقة صامتة بدون ضجيج لتفنيد ما يحاك حوله من شائعات، لربما كانت رسائل مشفرة بكل دلالاتها موجهة للقاصي والداني مفادها على الأٌقل في قراءة أولية للصور أن كل ما يقال مجرد أحاديث لا تعدو أن تتحول إلى فقاعات تتلاشى بمجرد أن تنشر مثل هذا الصور.

في هذا الحفل كما جاء في تعليق الصفحة "منح وزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية وسام الاستحقاق بدرجة "امتياز" إلى الأستاذ والدكتور فريد بن شيخ، المدير العام للأمن الوطني، نظير النتائج الميدانية المحققة من قبل مصالح الشرطة والمجهودات النبيلة للذود عن حمى الوطن وتقديرا لمساهمته في إثراء المكتبة الجامعية بعديد المؤلفات العلمية المتخصصة".. تلقى التهاني من كبار رجال الدولة كالمستشار الخاص لرئيس الجمهورية بوعلام بوعلام أو من ضباط المؤسسة العسكرية الكبار بكل أجنحتها، الأركان والإستخبارات والدرك ومن معاونيه في الجهاز، في هذه الأثناء قد يكون مرّ برأس المدير العام وللكثير من المتابعين شراسة الحملة التي قادتها أذرع مريبة وغامضة وصلت حد التشكيك في وطنيته وطالبت بتنحيته والتي لم تتم رغم الضغوطات الهائلة والنيران المشتعلة حواليه، مما أعطى الانطباع أن كل ما قيل سقطة وتضليل وزوبعة في فنجان، إذ لا يعقل - حسب إعتقادنا - أن تكون لائحة الاتهامات المنسوبة له موجودة بالفعل ومن غير الأخلاق ولا المسؤولية السكوت والتغاضي عنها لا من طرف الأجهزة المتخصصة أو من طرف من بيده سلطة القرار، فالرجل لا يشغل منصب عادي أو بسيط بل يقف على رأس جهاز حساس جدا وخطير وهذا لا يعني فقط أن يكون حريصا ومتشددا وصارما في موقعه، بل تقع على رقبته مسؤوليات جسام عظام وعليه تقدير خطورة هذا المنصب وأهميته القصوى في استقرار البلاد.

إن مجرد صورة كمثل هذه لكفيلة بوضع الكثير من الأرجل الطائرة في السماء على الأرض.. تحمل معان واضحة ودقيقة لمن يريد أن يقرأ بعمق وبعيون واسعة تاريخنا القريب.. فهذه الأجهزة الأمنية بمختلف فروعها التي نبتت من رحم ثورة شعبية كبيرة وواجهت أكبر قوة استعمارية ودحرتها وفككت أكبر التهديدات خلال فترة الإرهاب القاتل، وأسقطت في الماء تحاليل وحسابات أجهزة ودوائر إستخباراتية كبيرة لعبت في عمقنا وعلى حدودنا، - ومن لا يتذكر ما قاله بعض خبرائهم وما روجوا له من مقولات حول قرب سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة على الحكم -، هي أجهزة لا يمكن أن تخضع لأهواء وأمزجة نشطاء يجلسون بالساعات خلف شاشة اللابتوت أو أمام كاميرات هواتفهم النقالة ومرة على مرة يرتشفون كأس شاي أو حتى مشروبات مسكرة.. وفي ظنهم أنهم بمجرد التفوه بأي كلام سيهز عرش الدولة وملاحقاتها ومؤسساتها.

لا أحد بإمكانه دحض ومعاكسة الوقائع أو الحقائق المثبتة في جل الدراسات النزيهة المحكمة المستقلة عن تلاعب واحتواء واستخدام قوى أجنبية للاجئين والهاربين والمعارضين على أراضيها ولا يمكن لأي عاقل تصديق أنهم أحرار في التهجم على بلدانهم ما لم يتلقوا الضوء الأخضر من لدن استخبارات البلدان التي تستضيفهم.

لقد تعاظمت شبكات التواصل الاجتماعي ونسجت منذ سنوات عوالم تتراوح بين الأكاذيب والأوهام والسراب، تنفذ بسلاسة وسط فئات واسعة من المجتمع وتحاول السيطرة على العقول والوعي، أصبحت هي المرجع والقول الفصل، تؤجج التوقعات وتبتكر التكهنات، وتقول أنها الكاشفة الفاضحة لتفاصيل ما يجري من أمور داخل سرايا وزوايا الحكم، بل تعطي الانطباع أنها تعرف أدق ما يدور في رأس الحكام الوزراء العسكر المدراء وغيرهم. أصبحت كثافة سردياتها مرغوب فيها بقوة وأحيانا بسادية وقناعة راسخة لا تتزحزح أنها تمتلك مفاتيح الغيب والأسرار والخفايا وما يطبخ طازجا في "كوزينة" أهل القرار. والعجيب المحير أنه حتى لو تكاثرت وتفشت حولها معلومات تافهة ومغلوطة وغير منطقية وسخيفة في الكثير من الأحيان لا تصمد أمام الحقيقة الغائبة أو المغيبة بفعل فاعل لا يريد أن يظهر ويعلن عن نفسه، مما يجعل إمكانية فهم هذا الزخم الذي تتمتع به هذه الوسائط في حكم الصعب والمتقلب والزئبقي وقد رأينا وتتبعنا نشطاء تحولوا بقدرة غريبة إلى مصدر موثوق تعطى لهم القصة والحكاية وتروى عنهم بأسانيد يقولون أنها صحيحة لا لبس فيها ولا شائبة ويتم الاستماع إليهم بانتباه وخشوع (وقد وقفت شخصيا وبذهول أمام إطارات عليا وهم يستمعون بصمت إلى أحدهم وكأنه يقول قرآنا منزلا)، ويتم الاتصال بهم شخصيا من طرف الكل.. المواطن البسيط.. المدير.. المسؤول.. الوزير.. العسكري.. إلخ، وقد أبلغ أحدهم أن الرئيس بنفسه يختلس النظر في أحيان كثيرة إلى قناته يبحث عن المعلومة لديه، وفي هذا مفارقة عجيبة وسريالية تكاد تكون وسم خاص جدا منطبع على جبين هؤلاء.

في غياب إعلام قوي وناطقين فعلين للدولة في كل الميادين كما في جل عواصم العالم، خاصة الحساسة منها كوزارة الدفاع أو الرئاسة، تبقى الحياة العامة الجزائرية مشدودة إلى أفق القيل والقال والتسريبات وقصص السمر والليالي والمقاهي والطرقات والشوارع والعجائز ومبثوثة في الحسابات المزيفة أو المفبركة على السوشايل ميديا، أو ترمى عند نشطاء أغلبهم يثيرون الضحك بتحليلاتهم وأخطائهم المتكررة وسطحية آرائهم وسخافة ما يقدمونه.

هزمت الصور الأخيرة -المشار إليها سابقا- الكثير من التكهنات والأراجيف وحدث نفس الشيء من قبلها، حيث لم تنجر عن الشائعات التي تم الترويج لها عن قلاقل مخيفة قيل إنها ستربك النفوس والعقول ولم تنجح الخطط المدروسة في رسم مناخ تجري فيه الانقسامات والانشقاقات والعصيان، مثل المحاولات الكثيرة أيضا التي طالت المؤسسات الأمنية، تـمّ الصمت عنها وعدم إيلائها أهمية كبرى، كما فعلت المؤسسة العسكرية حين تحولت في لحظة تاريخية فاصلة إلى جسد جريح ترمى عليه السهام وتتمزق السيوف والخناجر في مساماته وألصقت تهمة الإرهاب عـنوة بجهاز مخابراتها حين صدحت به حناجر الملل التي احتلت الشوارع ذات حراك مرّ من هنا، دون أن ننسى ما يوضع لها في سرية داخل الدوائر والمخابر داخليا وخارجيا التي تشتغل على قدم وساق لكسر صخرتها، غير أنها ما زلت تقاوم رياح المؤامرات والدسائس وحيل التخريب والتشكيك والتهويل، وإن أبانت هذه عن رأسها بين الحين والآخر فلم تزد إلا من صلابة الجيش وباقي مصالح الأمن بمختلف أسلاكه.

يحمل المغزى العميق في الصور السابقة معنى واحد لا غير: رجال دولة بوجوه جديدة، منضبطين ومتراصين، تسري بينهم علاقات ممهورة بالكثير من المسؤوليات الشائكة في الطريق، ومسرح لتوافقات جديدة تبنى بعيدا عن لغط نشطاء مفبركين، وعن صراعات ستتضح مع الوقت أنها كانت مضيعة للوقت والجهد، وذلك ما يتم فعله الآن بينهم بكثير من سرديات الشجاعة والصبر والوضوح إن لم تكن الصراحة بينهم هي الرمز الجديد في كل هذا.