الصمود في بقاء الصحافي على الحياد


الانتخابات الأميركية أعادت إلى الأذهان فكرة وسائل الإعلام التي تمتلك وجهين «ومتى غابت أصلا» حتى وصل الأمر إلى فقدان الثقة بأرقى المؤسسات الإعلامية في الدول الديمقراطية.
كيف على الصحافي السياسي أن يبقى رابط الجأش ولا يظهر مواقفه في كل الذي يحصل؟

للتخلص من المأزق المرتقب، يبدو أن العودة إلى التاريخ قبل أيام من إعلان الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، أسهل الطرق للوصول إلى الحكمة، وعند الصحافي يبدو التاريخ عاملا مساعدا على الصمود في البقاء محايدا!

ذلك هو المأزق الذي يحاول المراسلون والكتاب تجنب الوقوع فيه قبل وأثناء التصويت وعشية إعلان الفائز العائد للبيت الأبيض دونالد ترامب أم جو بايدن.

حقيقة الأمر، أن هناك محطات كبرى ومؤسسات إعلامية وشبكات تلفزيونية أميركية تعلن من دون تردد وقوفها ضد ترامب وتجمّد الحياد على الأقل لتمرّ فترة الانتخابات مثلما تتمنى. لأنها ترى في ترامب مصدرا سياسيا مثيرا في شيطنة الصحافة واعتبارها نبتة سامة مؤذية، فلم يحدث من قبل مثل هذا الصدام غير السياسي بين رئيس أميركي والصحافة. دعك من الناقمين على بايدن لأن مشكلته مع الصحافة لا تساوي شيئا حيال ما يكنه ترامب لوسائل الإعلام.

غياب الحياد، لا يقتصر على وسائل الإعلام الأميركية، فالانتخابات الرئاسية تمسّ العالم برمّته وفق اسم الواصل إلى البيت الأبيض، لذلك ستبقى الصحافة مشغولة خلال الساعات القادمة، وجمهورها مهتمّ ومترقب بشغف أيضا.

من المفيد جدا استذكار جملة سي بي سكوت رئيس تحرير صحيفة الغارديان من عام 1872 حتى 1929 الذي أطلق حكمته الذهبية عام 1921 بمناسبة الذكرى المئوية لإصدار الصحيفة مخاطبا الصحافيين بالقول “من الجيد أن نكون صرحاء مع القراء، لكن الأفضل من ذلك أن نكون عادلين”. مشددا على أن حرية الكلام متاحة للجميع، لكن الحقائق يجب أن تبقى مقدسة بالنسبة إلينا كصحافيين.

وبقي المقال الذي كتبه سكوت آنذاك تحت عنوان “مئة عام” مرجعا معترفا به في جميع أنحاء العالم باعتباره مخططا لصناعة صحافة مستقلة.

في المقابل هناك من يجادل بما كتبه الصحافي الأميركي والناشط العمالي جون سوينتون قبل أربعين عاما من مقال سكوت، يشكك بشكل جازم في استقلالية الصحافة واعتبارها مجرّد أداة بيد الرجال الأغنياء والحكومات، لكن مثل هذا الاقتباس على أهميته يتم التعامل معه أيضا بشكل عرضي عندما ينظر إلى تحدّي الصحافة للحكومات والعمل من أجل منع الفساد والاستحواذ على السلطة.

بالأمس وجدت إجابة مفيدة للصحافي الذي يؤمن بصدق بفكرة البقاء على الحياد كلما تسنّى له ذلك، عند المراسل البريطاني جون بينار، الذي عبر عن استغرابه من غياب القيادة المخلصة عن وسائل الإعلام اليوم، مؤكدا بأنه خلال أربعين عاما من العمل مراسلا في تقديم وبث التقارير لم يجد مثل هذا الغياب البائس كما يحدث حاليا!

دعوني أعرّف القارئ العربي بهذا المراسل، فهو قد خلف نيك روبنسون كبير المراسلين السياسيين لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” الذي بقي في موقعه منذ منتصف تسعينات القرن الماضي وعاصر رؤساء الحكومات من حزبي العمال والمحافظين. لذلك بدت مهمة جون بينار أكثر من صعبة كي يجد له مساحة قبول لدى المشاهدين، مع أنه يمتلك تجربة موازية لروبنسون في “بي.بي.سي”. وسبق وأن عمل مراسلا لعدة صحف منها إندبندنت والغارديان.

يقدم بينار حاليا برنامجا إذاعيا سياسيا على محطة راديو تايمز الجديدة. وكل تلك التجربة الصحافية تمنحه حق الكلام بصوت عال بما يتعلق بفكرة الحياد التي غالبا ما تكون ملتبسة وتثير الشكوك.

فالسؤال الذي ما زال يتلقاه من كل الذين يعرفونه أو الذين تعرفوا عليه عن الصعوبات التي تبقيه محايدا، وهو سؤال وفق التقويم المفرط بالتفاؤل عادل بالنسبة إلى الجمهور، عندما يتعلق مثلا بأداء الحكومة ومراقبة الفساد وديمقراطية التبادل الحر للمعلومات.

لكن جون بينار لا يرى في الحياد أمرا صعبا على الصحافي إذا آمن بذلك، لأنه اعتاد عليه منذ أن كان مراسلا شابا أثناء حكومة مارغريت تاتشر. ويعزو ذلك إلى القيادات الصحافية العقلانية والناضجة التي عمل معها، معبرا عن حاجة الصحافة بشكل عام إلى مثل هذه القيادات اليوم وفي زمن ليس عادلا بحقها.

يسرد بينار بوصفه شاهدا صحافيا، الصعوبات التي وقفت بوجه الحكومات البريطانية منذ فوز جون ميجور في الانتخابات في أبريل عام 1992، وكيف أصيبت الحكومة آنذاك بالتقهقر تدريجيا بعد أزمة انهيار الجنيه الإسترليني الكارثية في ما سمي آنذاك “الأربعاء الأسود”. واليوم بالنسبة إلى الكثيرين أصبحت السياسة أمرا لا يطاق، حتى يصل الأمر إلى اعتبار إدارة بوريس جونسون بأنها غير ملائمة بشكل ميئوس منه.

فكيف على الصحافي السياسي أن يبقى رابط الجأش ولا يظهر مواقفه في كل الذي يحصل؟

بالطبع يمكن لأي قارئ عربي أن يضع في مستوى مقابل الأحداث التي مرت على بلاده ويقارن كيف انهارت الصحافة تحت ضغط الحكومات، كما أن أي صحافي عربي بمقدوره أن يضع نفسه معادلا موضوعيا لجون بينار ليجد الإجابة المناسبة عن تجربته مع فكرة الحياد!!

يصف بينار من يطالب الحكومات في أفضل الإدارات السياسية في العالم بقرارات معصومة عن الخطأ أثناء الأزمات، بالأحمق، لكن لا يرى أي مبالغة في أن نطالب السياسيين بمعاملة الناس كواعين، والتوقف عن تمرير الخديعة عبر المراوغة والاكتفاء بدفع ضريبة الكلام المجرد.

وهنا يأتي دور الصحافي بألا يكتفي بمنع الفساد والتغوّل والاكتفاء بالحصول على اعتراف السياسيين بالخطأ. ثمة أكثر من ذلك ينتظره الناس من الصحافة.

الانتخابات الأميركية وثنائية ترامب بايدن أعادت إلى الأذهان فكرة وسائل الإعلام التي تمتلك وجهين “ومتى غابت أصلا” حتى وصل الأمر إلى فقدان الثقة بأرقى المؤسسات الإعلامية في الدول الديمقراطية وفق مسح نُشر بالتزامن مع اقتراب موعد انتخاب الرئاسة الأميركية، فإن ثقة جيل الألفية بالمؤسسات الإعلامية والحكومات، أقل من ثقة آبائهم أو أجدادهم عندما كانوا في نفس أعمارهم.

الصحافة بحيادها ومسؤوليتها العالية بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتكون ممثلا لعدالة غائبة مع غياب الحقائق في الزمن الرقمي، وذلك يفسر لنا لماذا لاعب نادي مانشستر يونايتيد ماركوس راشفورد مثلا، يعدّ ممثلا شرعيا للعدالة الاجتماعية وأكثر إقناعا من أيّ سياسي في بريطانيا وأيّ مؤسسة صحافية مستقلة اليوم، لأنه نجح في قيادة حملة منعت الحكومة من إلغاء الوجبات الغذائية عن تلاميذ المدارس بينما الصحافة لم تنجح في ذلك.