العراق ودولة الطائفة

شعارات نصرة الشعوب المستضعفة ليست سوى مجرد شعارات تتهاوى امام بريق السلطة التي تنطلق من ارهاصات وعقد تاريخية عميقة.

لم تكن المظاهرات الحالية الاولى في عراق ما بعد سقوط نظام البعث عام 2003، فقد اندلعت عدة مظاهرات ابرزها عامي 2011 و2015 وكانت مطالبها واحدة، تحمل نظام الحكم لمسئولياته في اعادة الاعمار، وبناء دولة القانون والمدنية، وإنهاء المحاصصة الطائفية، وإحداث تطور حقيقي في البلاد التي عانت من ويلات ثلاث حروب في عقدين ونصف، علاوة على الحروب الداخلية.

الكل يجمع على ان ذلك يحتاج الى وقت طويل نظر لتعقيدات الموقف في البلاد، الا ان الامر طال اكثر من اللازم. فرواندا التي وقعت فيها مجازر عرقية اوقعت اكثر من مليون قتيل ما بين 1990-1993 تمكنت من تجاوز محنتها الكبيرة واعادة اعمار البلاد واليوم تعد من الدول المتقدمة اقتصاديا في افريقيا.

العراقيون لم يتمكنوا من تجاوز محن الماضي وها هي اشباحه تطاردهم حتى الان. فرغم ان الغالبية الشيعية هي الحاكمة في البلاد بموجب نتائج الانتخابات، الا ان الاحزاب الحاكمة ومرجعياتها وقواها الدينية والسياسية لا تزال تحتفظ بميلشيات مسلحة كدلالة على عدم الثقة بالدولة والخوف من فقدانهم للسلطة، لذلك فهم يحتمون بميلشيات موالية لهم، خوفا من انقلاب يعيد البلاد الى مربع الديكتاتورية المظلم مرة اخرى، وهذا احد اسباب ضعف الدولة وتدني سلطة مؤسساتها في العراق.

القوى والاحزاب السياسية بكافة اجنحتها ومستوياتها توغلت في جسد الدولة المهترئ، فشاع الفساد وتوقفت عجلة التنمية، فالعراق منذ سقوط البعث وهو يعاني من ازمة فساد عاتية، وذلك لكون من تمارسه معظم القوى السياسية التي تدير الدولة وليست جهة واحدة، ففي العديد من البلدان الديكتاتورية الفساد محتكر كاحتكار السلطة، اما في العراق فالسلطة والمال العام مشاع ما بين اعداد متزايدة من القوى السياسية، وهذا من اخطر انواع الفساد، حيث يصعب السيطرة عليه، نظرا لتضارب المصالح وتشابكها وتداخلها بينها.

هذه القوى مرتبطة علاوة على ذلك بقوى خارجية داعمة وحامية في مقابل حفظ مصالحها داخل البلد، ونتيجة لذلك كان الشعب العراقي في اخر سلم الاهتمامات، فكانت هذه المظاهرات التي تندلع بين فترة واخرى وكان اخرها مظاهرات اكتوبر 2019.

في عام 2014 ظهرت داعش في العراق واستولت على الموصل ومناطق اخرى عديدة في غرب وشمال العراق، الجيش العراقي فر من تلك المناطق ولم يقاتل، حكام العراق من الاحزاب الدينية وجدوا انفسهم في ورطة كبرى فداعش على اعتاب بغداد وجيش الدولة على الحقيقة غير قادر على المواجهة، حيث لم يكن يحمل عقيدة قتالية ولا يمتلك اسلحة يعتد بها، وجنوده آثروا الفرار والعودة الى مناطقهم في الجنوب، على ان يقتلوا في مناطق ليس لهم علاقة بها.

كان القادة العراقيون بحاجة الى تأسيس جيشهم الخاص، الجيش الذي يدافع عنهم ويحمي سلطتهم، ويقاتل وفقا لعقيدة قتالية تفوق الهوية الوطنية، فكان الحشد الشعبي.

كان معظم قادة العراق الحاليين منفيين وكانوا من منافيهم يدعون الى سقوط الديكتاتورية الصدامية وإقامة حكم رشيد في العراق، فلما اصبحوا في الحكم تحولوا الى طبقة حاكمة تسعى الى الاحتفاظ بالسلطة لا موظفين عموميين، وها هم يمارسوا الكثير مما كان يمارسه النظام السابق، ففي سلم الفساد يعد العراق ثاني اكثر الدول فسادا على مستوى العالم لعام 2018، وما قبله من الاعوام، ولا يزال في نطاق الدول الهجينة في سلم الديمقراطية، وهذا عائدا الى ضعف سلطة الدولة اكثر من كون البلاد خرجت من قبضة الحكم الشمولي.

استخدمت قوات الامن العراقية القوة المفرطة ضد المتظاهرين، فسقط اكثر من مائة قتيل ومئات الجرحى، رد المتظاهرون بمهاجمة قوات الامن والممتلكات العامة، التي لم يستفيدوا منها وظلت خدماتها حكرا على الطبقات الحاكمة، لم يتمكن المتظاهرون من رفع شعارات ضد الهوية الطائفية لنظام الحكم ومن يدعمه من قوى خارجية، فكان التوجه الطبيعي هو النيل من الوجود غير الوطني في اشارة للهيمنة الايرانية، كما استنكر الكثيرون من انصار الحكومة حرق صور للمرجعيات الدينية وعلماء الدين، وتناسوا بانها رموز للسلطة الحاكمة في البلاد.

يخشى انصار النظام في العراق من استغلال التظاهرات لإسقاط نظام الحكم، الا ان قمع التظاهرات وسقوط الضحايا سيؤدي الى هذه المصير المهول، وان استفحال الفساد ما هو الا سرطان يستشري في جسد الدولة ليقضي عليها في نهاية الامر، وفي الاحداث الاخيرة كشف لحقيقة المشاعر السلطوية المذهبية على مستوى المنطقة العربية، فما يرفع من شعارات نصرة الشعوب المستضعفة ليست سوى مجرد شعارات تتهاوى امام بريق السلطة التي تنطلق من ارهاصات وعقد تاريخية عميقة، وتأتي المحافظة على السلطوية المذهبية الغاية والهدف مهما كلف الامر، وان كان الضحايا من ابناء النحلة، الا ان الشباب العراقي اعلن بكل وضوح انه يتظاهر ليس بهدف اسقاط الدولة، انما النظام الذي فشل فشلا ذريعا في ادارتها، وان الانتخابات ليست حقا مكتسبا، وان المناصب القيادية يجب النجاح في اداء مهامها او تركها لمن هو قادر عليها.

في عام 2008 حظيت القائمة العراقية بزعامة اياد علاوي بأكثرية مقاعد البرلمان ورغم ذلك لم يرشح لرئاسة الحكومة، وذلك لكونه لا ينتمي للقوى الدينية، ولا يحظى بقبول القوى الخارجية التي تدعمها.

لقد كان شاه ايران محمد رضا بهلوي شيعيا وكان يمشي حافي القدمين في زيارة الامام الرضا في مدينة مشهد، الا ان سياسات حكومته الداخلية والخارجية كانت قومية الاداء علمانية الطابع، وكان والده قد تودد لمراجع النجف وكربلاء ليحضا بدعمهم في ضم إقليم الاهواز الى ايران عام 1925.

عندما سقط صدام كان السنة قد سقط حكمهم معه، ولكن عندما اعدم لم تعدم معه الديكتاتورية.

عندما سقطت دولة الخلافة العباسية على يد المغول، كان عدد من علماء الدين الشيعة يناصرون هولاكو، كانوا يسعون للانتقام من الدولة العباسية السنية التي نكلت بالعلويين والشيعة، الا انهم لم يفرقوا بين السلطة العباسية كنظام حكم، والدولة التي تديرها، تلك التي اسسها النبي محمد (ص) في المدينة المنورة قبل 600 عام، والتي قضى عليها المغول في غزوهم لبغداد واسقاطهم للحكم العباسي.

كل هذه التناقضات الفظيعة في التاريخ العربي والعراقي هي التي طبعت الاوضاع في العراق الى ما هي عليه الان، وان خطر الانقلاب العسكري ووقوع حرب اهلية مدمرة قائم، ففشل القوى المدنية في ادارة السلطة يحتم تدخل العسكريين في نهاية المطاف، حدث هذا في السودان ومصر وموريتانيا وليبيا، ووجود ميلشيات مسلحة وقوى خارجية تحمي القوى الحاكمة لا يعني انها في مأمن من خطر فقدان السلطة وامتيازات الحكم. فالأمان الحقيقي هو في منح الشعب حقوقه المشروعة في ثرواته، والعمل الجاد لتشييد حكم رشيد ودولة ثابتة تتمتع بإدارة كفوءة ومقتدرة.

الشباب العراقي خرج اليوم في تظاهرات ضد القوى الحاكمة وليس ضد الدولة، ضد الاحزاب الحاكمة التي فشلت في ادارتها، وليس ضد الشيعة، خرجوا لإيقاف نفوذ القوى الخارجية في بلادهم، لا لقطع العلاقة معها، خرجوا لكي تكون الدولة في العراق للعراقيين، وان يكون العراق لشعبه، خرجوا لينعموا بخيرات بلادهم ويرونها عامرة وناهضة بعد عقود من الحروب والدمار، خرجوا ليقولوا نريد دولة العراق لا دولة الطائفة في العراق.