العروسة الشعبية بين الخامات البيئية والفنون الفطرية

من جيل الي جيل ستظل الدمى هي اشهر الالعاب الشعبية لدي الاطفال حيث انها تحمل مساحة لا نهائية من التواصل الحسي والحركي مع الطفل كما انها تحمل سمات البيئة المحيطة به مما يجعلها معتادة لديه وقريبة من فكره وعقائده.

مما لا شك فيه ان الالعاب هي اهم الممارسات الاساسية في حياة الطفل وهي احتياج نفسي اصيل للاطفال منذ أعوامهم الاولي فهم يحاربون من اجل اشباع هذا الاحتياج الذي يخرج طاقاتهم في شكل ايجابي وحيوي وينمي مداركهم ويساعد علي اكتساب العديد من المهارات مثل مهارة اللغة ومهارة الحوار ومهارة التعبير عن الافكار.

فالالعاب الشعبية متنفس جماعي فطري تظلله روح الابداع كونها تتمتع بالاصالة والمرونة وهي إرث العامة من الشعب وناقلة تاريخية عبر الاجيال تحمل هوية مجتمعها وتقاليده وقيمه الدينية وهي السجل الذي يحمل بين طياته بعضا من الموروث الشعبي للوطن، فهي ليست مجرد تلك الضحكات والركضات التي يؤديها الأطفال بل هي رموز ودلالات تخلق لنا لغة تمكننا من قراءة الموروث الثقافي البشري.

والدمى احد الفنون التي ارتبطت بوجدان الشعوب فهي بنت بيئتها تحمل لون بشرتها وخاماتها وازياءها وترتدي في بعض الاحيان حليها وهي اقدم الالعاب الشعبية المعروفة لدي الاطفال ابتكرتها جدات الجدات وحاكتها من بواقي الاقمشة وملئتها بالملابس البالية وبعض الجوارب ثم اصبحت تصنع من الطين او لوف النخيل واحيانا من بقايا عجائن المنزل.

ونظرا للمكانة المميزة التي حظت بها العاب الدمى في قلوب الصغار فقد قام فنانون وحرفيون بتصنيعها وابدعوا في صناعتها وحولوها الي قطع فنية تحمل عناصر العمل الفني الشعبي وترتبط بمجموعة من الفنون الاخري وهي تجمع فن النحت والتشكيل والتصوير والنسيج والحلي في قطعة واحدة لتعبر عن حضارة المجتمع وفنونه التشكيلية.

هذا وقد اعتمدت صناعة العروسة –الدمية - الشعبية لدي الفنان الشعبي علي محورين اساسين الاول هو ما تجلبه له البيئة من مواد وخامات تطرحه ملك يمينه ليعبر بها عن عقائده وطقوس يومه والثاني هو حاجته الفطرية لان يوثق هويته ويصنع نماذج فنية تؤكد شخصيته القومية وجذوره الممتدة عبر الازمان.

لذا صنعت العرائس من خامات بيئية كثيرة منها الاقمشة والطين والطين المحروق وسعف النخيل ونبات البردي والعظام والبوص والالياف وخشب الشجر والشمع والحلوي وهو ما ادي الي تنوع الفنون الشعبية المرتبطة بصناعة الدمىكما انها اثرت في تلك الفنون ايضا، الامر الذي جعلها ليست فقط رمزا تراثيا ارتبط بعادات ومعتقدات هذا الشعب بل انها حافظ وجامع للعديد من الفنون الشعبية وتراثاً مادياً ومعنوياً قابل للتطوير .

ومن هذا المنطلق فقد حافظ الفن الشعبي المصري علي انواع كثيرة من الدمى والعرائس كانت لها دوارا هام في المجتمع ومنها الدمىة السياسية والدمىة الثقافية والدمى السحرية .

العروسة في العصر المصري القديم

عرف الفنان المصري القديم العديد من العرائس ولجأ الي محاكاة الشكل الادمي بإستخدام بعض الخامات البيئيةمثل الطمي وعظام الحيوانات وكانت للدمي دورا هاما في الحضارة المصرية القديمة حيث استخدمت عروسة التمائم كتميمة سحرية تدرأ الشر وتجلب الخير، كما اشتهرت عروسة النيل عندالمصريين القدماء وكانت عروسة جميلة تصنع من الشمع ثم تجتمع العامة في احتفال كبير ليلقوا بها في نهر النيل حتي يرضي عنهم النهر في اوقات فيضانه وهو يوافق الخامس من اغسطس من كل عام، وايضاً عروسة القمح وكانت تعلق علي الابواب في موسم ظهور محصول القمح وهي تميمة سحرية لإنجاح المحصول ومده بالماء والعناصر اللازمة لزيادة انتاجه ومنعاً لحسد المحصول.

العروسة في العصر القبطي

تعد عروسة السعف العروسة المميزة للديانة القبطية حيث تكون علي هيئة صليب وتمسك يوم احد الخوص وهو الاحد السابع من الصوم الكبير والاخير قبل عيدالفصح والذي يوافق ذكري دخول المسيح اورشليم حيث استقبل بالورود والسعـف، ويرمز السعف في الديانة القبطية الي الانتصار علي الموت وهزيمة الشيطان وهي بمثابة تميمة ايضا تقي من الشر.

العروسة في العصر الاسلامي

تعد عروسة المولد النبوي او العروسة الحلاوة احد ايقونات التراث الشعبي وقد ذهب المؤرخون الي انها ظهرت في العصر الفاطمي الا انها حفرت في قلوب هذا الشعب وصنعت لها مكانة عظيمة وارتبطت بالعديد من العادات والتقاليد ودلت زخارفها وملابسها علي قيما ًفنية ومعاني ثقافية اسرت قلوب العامة والخاصة ويقال ان الحاكم بأمر الله منع الزواج الا في مناسبة مولد الرسول عليه افضل الصلاة والسلام وقد استخدم صانعوها تلك الرمز للتعبير عن موعد اقامة حفلات الزفاف، وقد ارتبط بها ايضا عروسة الحصان وهي عبارةعن قطعة من الحلوي علي شكل حصان توزع علي الصبية وقد ذهب بعض الدارسين الي انه يمثلشخص الخليفة الحاكم بأمر الله وذهب البعض الاخر انه يمثل شخصية الفارس الذي استطاع ان يفوز بعروسة في يوم المولد النبوي الشريف.

العروسة في الموروث الشعبي

نظراً للمكانة التي تحظي بها الدمىة كونها اللعبة المفضلة لدي الطفل حيث انها تنمي مفرداته اللغوية وقدرته علي التحاور وتفرغ طاقاته وتزيد قدرته علي التواصل الا انها تعد ايضاً بالنسبة للفنان الشعبي احد الوسائل التي تعمل علي تفريغ طاقاته وابداعاته والتعبير عن انفعالاته ومشاعرهمن خلال منتج يصنعه بيده وهي فن له رواده ومحبوه الذين يسعدهم العمل به او اقتناؤه، وربماتعدعروسة الخبيز اول عروسة فطرية صنعتها جدات الجدات وهي قرب للبدائية واصل الجمال الابداعي التلقائي دون تكلف وكانت تصنعها الاطفال ك نوع من الالعاب الفطرية اثناء إعداد الخبز في المنزلو توضع علي الصواني لتخبز في افران من الطوب الطيني.

وتعتبر اشهر عرائس الموروث الشعبي عروسة الحسد وكانت تصنع من الورق ويذكر اسماء كل الاشخاص المتوقع قيامهم بالحسد وتثقب العروسة ب أبرة عشيمة ثقبين لكل اسم وتوضع العروسة بعد ذلك عليالنار مع الشبه واللبان الدكر ويمر المحسودعلي الرماد سبع مرات وقد يتبين للعامة شكل احد الاشخاص اثناء احتراق العروسة فيذهب اعتقادهم الي كونه هو الشخص الحاسد، قد ذكرالاستاذ / محمد الجوهري استاذ علم الاجتماع وعالم الفولكلور والتراث الشعبي في كتابه " موسوعة التراث الشعبي العربي " ان المصريين القدماء عرفوا سحر الدمىة فكان الساحر يتحايل للحصول علي اثر من خصمه ثم يصنع تمثالا من الشمع يشبهه ويلبس التمثال كما يلبس الخصم ثم يسلط عليه النار ليصاب المسحور بالحمي او يطعن التمثال بسكين ليتألم المسحور في صدره.

وهناك عروسة المنجد وتصنع من بقايا قطن تنجيد مفروشات واغطية العروس قبل الزفاف، وهي تعد فائلا حسنا عندما تأخذها الاخت الاصغر للعروس حيث تعتقد الامهات انها تعني الزواج القريب لفتيات المنزل وفي واحة سيوة تزين عروسة المنجد بالجلد والخرز والترتر، وتوجد عروسة خيال المآتة التي يصنعها الفلاح من افرع الشجر علي هيئة رجل يداه منفرجتان وتوضع عليها ملابس قديمة ف تتمثل للطير انها رجل وكلما حركها الهواء تخاف الطيور وتبتعد عن المحصول وايضأً عروسة الخماسين التي كانت تصنعمن فروع واوراق الشجر مع بشاير هبوب رياح الخماسين في الربيع وتزف في موكب بالطبل والرقص ثم تلقي في الترعة وهم يرددون اغنية:

"عروسة الخماسين .... سنة بيضا علي الفلاحين"

"عروسة الخماسين ....كل سنة وانتم طيبين" .

وكلنا نعرف عروسة الزار وهي احد اهم طقوس الزار وتصنع من القماش وتحشي بالقطن وتوضع في وسط صينية كبيرة عليها المأكولات والحلوي وتلبس العروسة ملابس مزينة وتزين وجهها وتضاء حولها الشموع وعند بداية الزار تحمل كودية الزار العروسة وتلف بها وهي تغني وتستخدم الدمىة لطرد الارواح الشريرة وشفاء المرضي.

واشتهرت في منطقة الاسماعيلية وبور سعيد والسويسبعروسة اللنبيوهو قائد عسكري انجليزي عين حاكما عسكريا في منطقة القناة وكان ظالم ويعامل الشعب اسوء معاملة  وعند رحيل سعد زغلول حدثت اشباكات بين الاهالـي والقوات الانجليزية احتجاجا علي قرار الرحيل وتصاعدت حدة الاشتباكات، ف صدر قرار بترحيل اللورد " ألنبي "  فقام الاهالي في مدينة بورسعيد بصنع دمية تشبه ملامحه والبسوها زيا جندي انكليزي وزفوها بعبارات سباب والقوها بالحجارة ثم احرقوها واصبح حرق عروسة الالنبي احد العادات المتوارثة في مدينة بورسعيد عند الاحتفال بعيد شم النسيم.

ومن اشهر ابداعات عرائس الموروث الشعبي الارجوزو هي دمية يحركها فنان الاراجوز من خلف ستار دون ان يراه احد من الجمهور ويستخدم الفنان فيها صوته للتعبير عن كل شخصيات العمل وهو من الخشب وذو ملابس مزركشة وطرطور احمر، كما صنع احد النحاتين عروسة تسمي سميحة وهي عروسة من الجبس ذات خدود حمراء وقد سميت بهذاالاسم نسبة اللي راقصة مشهورة في الزمن الماضي وكانت تلك الدمىةتقوم بدور مرات الارجوز وكانت دائمة الشجار معه.

مما سبق نجد ان فن صناعة العرائس الشعبية ارتبط بالعديد من الفنون التراثية لارتباطه بالعديد من الخامات البيئية واستلهم تصميمات الدمى من روح الجماعة الشعبية والبسها ابهي الملابس الشعبية وزينها بالحلي الشعبية، كما استلهم دمى تشبه حيوانات المناطق الريفية او الطيور التي نربيها بالمنزل وهي محببة ايضا لدي الاطفال، ومن جيل الي جيل ستظل الدمى هي اشهر الالعاب الشعبية لدي الاطفال حيث انها تحمل مساحة لا نهائية من التواصل الحسي والحركي مع الطفل كما انها تحمل سمات البيئة المحيطة به مما يجعلها معتادة لديه وقريبة من فكره وعقائده، كونهاو تبرز ارموز والمعاني لدي المجتمع.

لذا يمكننا القول ان الدمى وخصوصا العروسة الشعبية هي جزء اصيل من الموروث الشعبي وجانب لا يمكن اغفاله من جوانب الثقافة الانسانية تحمل في طياتها ابعادا اجتماعية ونفسيه وهي فرع هاما من فروع الفنون الشعبية التي اسهم فيها الانسان بإبداعه الفطري وحسه التلقائي، وهي احد وسائل الاثارة والغبطة لدي الصغار والكبار واحد مظاهر الحياة الشعبية الغزيرة المتنوعة التي تنبض بالحيوية وتتميز بالجرأة واليقظة وهي عنصر ناقل لهوية وتراث هذا الوطن وهذه الروح المصرية الأصيلة التي تتسم بالمرح والطرافة احياناً وبالشدة والتعقيد احياناً اخري، لذا فأن الاهتمام بفن صناعة الدمى الشعبيةو مجموعة الفنون المرتبطة به هو تأصيل لتراثنا الشعبي وهويتنا القومية، وهي رمزا شعبيا واضحا له دورا فعال في الحكايات الشعبية ودورا مؤثرا في حياة اطفالنا لربطهم بهويتهم وتراثهم لتعزيز الانتماء لديهم وتنشئتهم علي وضع اهداف علمية للاستفادة من الخامات البيئية التي منحتها لهم الطبيعة وضرورة المحافظة عليها لضمان توافرها والاستفادة منها في صناعات ومنتجات تدعم تراثنا وجذورنا الحضارية.